مجتمع

الساعاتي.. تكتكات عقارب ساعة تحصي الأيام الأخيرة من عمر مهنة تصارع الزمن (فيديو)

على حافة الزوال (الحلقة الثانية)

مهن ضاربة في القدم والعراقة. قبل عقود كان لها دور حيوي في بوادي وحواضر المغرب، وشكلت على مر السنين مصدرا لعيش الكثير من الأسر، لكنها اليوم تدحرجت نحو الهامش وشارفت على الاندثار، وصارت مهنا على حافة الزوال.

يعتكف الحاج الهادي كعادته كل يوم في ركن من دكانه الصغير بالمدينة العتيقة فاس، محاطا بالساعات من كل جانب، كما تعج واجهة المتجر الزجاجية بالعديد منها، معروضة للبيع، دون أن تحجب عنه تيار السابلة الذي لا يهدأ طيلة اليوم. ينهمك الساعاتي في إصلاح ساعة تالفة واضعا عدسة على عينه اليمنى كي تتبدى له بكراتها وأجزاؤها الدقيقة جلية واضحة.

حب الحاج الهادي لمهنته وتقديره لها، تشي به حالة هذا الفضاء الذي يتخذ منه دكانا وورشة في الآن ذاته، فكل شيء مرتب بإتقان، بدءا من الواجهة الزجاجية مرورا بالحائط الذي تزين بالساعات، وصولا إلى تلك الطاولة الصغيرة التي اتخذها ورشة له.

تصوير: سليم الحسوني- مونتاج: ياسين السالمي

قبل حوالي خمسة عقود من اليوم جاء الحاج الهادي، وعمره آنذاك لا يتجاوز 16 سنة، إلى هذا السوق من أجل إصلاح ساعة تعرضت للتلف، فقصد ساعاتيا، لكن هذا الأخير لم يصلحها له في الحين، إذ ظل يماطله لعدة أيام، ففي كل مرة يذهب إليه يخبره الرجل بأن الساعة لم تصلح بعد ويطلب منه المجيء في الغد.

يحكي الحاج الهادي أنه ظل يتردد على هذا الساعاتي لعدة أيام، فبدأ يقضي رفقته بعض الوقت ويساعده في بعض الأمور البسيطة، لكنه بعد مدة وجد نفسه يعمل عنده مقابل خمسة دراهم في اليوم.

بعد فترة بدأ الشاب الهادي يتمكن من حرفة إصلاح الساعات كما تمرس في تجارتها، لذلك غادر محل الساعاتي، ليجد ضالته في جلب الساعات من مدن الشمال ومن سبتة المحتلة ويبيعها لزبنائه بفاس، بحسب حديثه لـ”العمق”.

بعد سنوات قليلة، سيجد صاحبنا ساعاتيا يمتلك دكانا بالمدينة العتيقة لفاس يبحث عن شريك، فقبل عرضه واشترى منه نصف المتجر. اشتغل الرجلان جنبا إلى جنب لما يفوق أربع سنوات، قبل أن يقترح الساعاتي على الحاج الهادي شراء نصيبه وحيازة المحل كاملا، لأنه قرر أن يغادر مدينة فاس.

يقول الحاج الهادي واصفا هذا الموقف، إنه عانق شريكه وظلا يبكيان، فمشاعره تداخلت بين الحزن والفرح في هذه اللحظة، فبقدر ما هو متحمس وفرح لامتلاك دكانه الخاص والاستقلال به، فإنه أيضا يخالجه شعور بالحزن لفراق شريك طيب، “تدبرت أموري وجمعت قدرا من المال” وفض هذه الشراكة.

البحث عن ساعاتي، اليوم، خارج أسوار المدن العتيقة بالمغرب صار أشبه بالبحث عن أسنان الدجاج، وجل من يمارسون هذه الصنعة اليوم شيوخ اقتربت أعمارهم من الستين أو تجاوزتها، في حين تعج شوارع وأحياء المدن بالعديد من بائعي الساعات الذين لا يفقهون شيئا في إصلاحها.

يعي الحاج الهادي جيدا هذا الوضع ويدرك أن هذه الحرفة تقهقرت وتقلص عدد ممارسيها، وأن “الصنعة اللي كانت زمان ما بقاتش”، لكنه مع ذلك مؤمن أنها مهنة شريفة، وتكافئ من تعلق بها، “إذا عطيتيها تعطيك”، كما يقول.

يحكي هذا الشيخ الستيني أن الكثير من الساعات التي أصلحها بطلب من أصحابها، مازالت تعج بها دواليب الدكان، “كثيرا ما أصلح ساعة وعندما يأتي صاحبها ويستفسرني عن ثمن الإصلاح، أقول له مثلا 30 أو 40 درهما، فيغادر المكان محتجا ومتخليا عن ساعته بحجة أن بإمكانه شراء أخرى جديدة بـ30 درهما”، لكن رغم ذلك فملامح الساعاتي لا تخفي علامات الرضى، ولا تنطوي نبرته عن أي تذمر، ولسانه لا ينفك يلهج بحمد الله على نعمه وأفضاله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *