مجتمع

يونس.. حكواتي شاب يتشبث بتلابيب الحكاية الشعبية مقاوما طغيان أساليب التسلية الحديثة (فيديو)

على حافة الزوال (الحلقة السابعة)

مهن ضاربة في القدم والعراقة. قبل عقود كان لها دور حيوي في بوادي وحواضر المغرب، وشكلت على مر السنين مصدرا لعيش الكثير من الأسر، لكنها اليوم تدحرجت نحو الهامش وشارفت على الاندثار، وصارت مهنا على حافة الزوال.

كأنه خرج لتوه من إحدى الحكايات الشعبية التي يرويها على مسامع جمهوره، يرفل الحكواتي يونس ضربان في جلباب أبيض مسدلا سلهاما رماديا على ظهره، معتمرا قبعة حمراء لافّاً حولها عمامة سوداء، منتعلا بلغة سوسية “إيدوكان”، فيما يتدلى على جنبه الأيسر قراب من جلد. فهذا المظهر جزء من طقوس تلازمه كلما أقبل على الحكي.

قبل أين يبدأ حكاياته، يبسط الحكواتي الشاب “قنطرة” أمام الجمهور ليعبر فوقها من الواقع إلى عالم يغلب عليه التخييل، أو بالأحرى ميثاق عرفي بين الراوي والنتلقي، مستهلا كلامه قائلا “بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على المصطفى الأمين، سبحان من جعل الحكايات في القوم الأولين عبرة لقوم آخرين”.

يحكي يونس، في حديث لـ”العمق”، أن أول اتصال له بالحكايات الشعبية حدث في أيام طفولته الأولى، وكان ذلك بفضل جدته السوسية الأصل، إذ كانت هذه الأخيرة تجمع حولها أحفادها بعد صلاة العشاء، بعدما ترتدي لباسا خاصا منمنم بزخارف أمازيغية، لتحلّق بهم في عالم الخيال والأسطورة عبر أجنحة الحكايات التي تحفظها.

تصوير ومونتاج: يونس الميموني

يقول يونس، إنه لم يكن معجبا بحكايات جدته فقط، بل تعلق أيضا بتلك الطقوس التي كانت ترافق سردها للقصص. ومن شدة افتتانه بها، كان حريصا على سرد هذه الحكايات على أقرانه خارج البيت، بحيث كان يدرب ذاكرته ولسانه على الاسترسال في الحكي دون أن يدري. وعندما وصل لمستوى التعليم الإعدادي والثاني اجتاز دورات تكوينية في المجال، ما مكنه من اكتساب مهارات جديدة.

فالحكاية الشعبية، بنظره، ليست مجرد أحداث تسرد، بل هي وسيلة بيداغوجية في التأطير، “تساعدني على حل مشاكلي ومشاكل الآخرين، أستطيع أن أمرر عبرها عددا من القيم بحكم أن الجيل الحالي متمرد على النصيحة، فالحكاية تمرر النصيحة بشكل سلس”.

“لا يمكننا أن نعيش 300 سنة، لكن بإمكاننا أن نطلع على تجارب الآخرين”، يقول يونس، موضحا أن أكثر من 70 في المائة من الحكايات التي يرويها مستمدة من قصص حقيقية، إما قرأها أو سمعها، والنسبة المتبقية من الحكايات يا إما أسطورية أو من وحي الخيال.

لم يستطع هذا الشاب بعد أن يعتمد على الحكاية كمهنة مدرة للدخل يمكن أن يعتاش بها، “لم أجد بعد ذلك الاقبال. أشتغل نعم، لكن 60 في المائة من عملي يكون بشكل تطوعي، و40 في المائة يكون بثمن رمزي”، يقول الحكواتي الشاب في حديثه لـ”العمق”.

والمشكل، بحسب هذا الحكواتي، ليس في الحكاية الشعبية، بل في تهميشها، فهذا الفن “يحتاج لمن يسلط الضوء عليه، فالناس يقبلون على أي شيء مرتبط بالتراث. الحكاية الشعبية ستلقى إقبالا، لكن يجب أولا أن يتعرف الناس على هذا المجال”.

يتخوف يونس من أن يأتي يوم ينقرض فيه هذا الفن، فـ”أي مجال (مهنة) لا يؤمن مدخولا ماديا لصاحبه فإنه لا يمكن أن يستمر، أما إذا كان المجال مدر للدخل فستتوفر تربة خصبة لوجود نمادج يقتدي بها الآخرون”، أما الحكاية “فتعيش معنا بشكل يومي”.

ضعف الإقبال على الحكاية الشعبية الذي يؤرق يونس، لم يتجرعه زملائه بمختلف مدن المغرب قبل عقود خلت، إذ تكاثرت “الحلاقي” أيام الحماية الفرنسية وتنوعت مشاربها وأخذت تستقطب جمهوراً واسعا في الحواضر كمراكش وفاس ومكناس وسلا وتطوان، بحسب ما ورد في بحث لمحمد حجي منشور بـ”معلمة المغرب”.

ففي مدينة سلا كانت تعقد “الحلاقي” في ساحتين، تقع الأولى خارج باب الخميس، تمتلئ من العصر إلى الغروب حيث يكثر فيها الحكواتيون، والممثلون الذين يقدمون قصصاً قصيرة وملحاً طريفة عن طريق الحكي الفردي أو الجماعي المصحوب أحياناً بالدف والبندير أو الكنبري، أو عن طريق الحوار بين اثنين أو جماعة يمثلون منافرة البدو والحضر.

وأشهر الحلايقية في هذه الساحة، يقول حجي، المسمى “العكر” الذي لا يبارى في التعبير بملامح وجهه وتكييف صوته وتغيير لهجاته البدوية والحضرية؛ و”الحاج” حاكي القصص الطوال كسيرة ذات الهمة وولدها عبد الوهاب وعنترة ابن شداد وابنة عمه عبلة بنت مالك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *