وجهة نظر

فردوس.. إلى الفردوس الأعلى: سؤال الطفولة في الأوساط القروية

تحتم التغيرات الاجتماعية، والثقافية والأوضاع الاقتصادية، والمجالية في مجتمعنا، إلى إعادة النظر في شأن الطفولة عامة، وبالخصوص واقع الطفولة بالأوساط القروية، والاهتمام بها بنوعية خاصة من قبل الفاعلين الترابيين والمسؤولين، نظرا لظروف وضنك العيش في الأوساط القروية. اهتماما عليه أن يراعي تحقيق حياة طفولة، تستجيب لمطالب طفل اليوم؛ الغذائية، والصحية، والسكنية والبيئية، والسوسيوتربوبية والترفيهية…إلخ. والاعتماد على مقاربة تأخذ بعين الاعتبار التحولات السوسيواقتصادية، ومؤشرات الفقر. وكل ذلك وفق مقاربة تشاركية تراعي كل الفاعلين في المجال القروي.

إن عالم الطفولة في الجماعات الترابية القروية، هو عالم يئن تحت واقع تردي المشهد التنموي الترابي-المحلي، بل في بعض القرى -الدواوير إن الطفولة هي الضحية الأولى “للاتنمية” والفقر هناك، حيث ينعكس عليهم الحرمان، ومحاصرتها بحزام من نقص الخدمات الأساسية، والفوارق المجالية الصارخة.

من المحسوم أن في كل الجماعة الترابية، يشكل بها الأطفال نسبة من هرم السكاني للجماعة. فهذه الفئة ينبغي النظر لها، ولمطالبها المجالية والسوسيوبيئية بعين فاحصة، والمساهمة قدر المستطاع في توفير ما يمكنه أن يساهم في تحقيق متطلبات الطفولة الراهنة، وبالخصوص النهوض بالجوانب الصحية والغذائية والترفيهية…، وكل ما من شأنه أن يحقق المساواة وتكافؤ الفرص في عيش طفولة بدون حرمان وتهميش. إن النهوض بأوضاع المجتمع القروي، لا يمكن أن يكون هذا النهوض بدون تفكير في متطلبات الحقيقية للساكنة القروية، وفئاتها الاجتماعية والعمرية المهمش.

مشهد واقع الطفولة في الأوساط القروية، مشهد يعبر عن نفسه في العديد من القرى المتناثرة في ربوع الوطن، إذ تعاني حياة الطفولة في المجالات القروية من العديد من الاشكالات المركبة، ولعل ثالوث الإشكالات؛ حصار الفقر، والتلوث، محدودية الانشطة السوسيوترفيهية. هو الأبرز.

وما يلاحظ في بعض الجماعات الترابية، محدودية العمل الجمعوي لمواكبة النشء. هذا الواقع هو واقع موجود يلاحظ في العديد من الجماعات الترابية ذات الخصائص القروية. حيث مثلا من شبه المستحيل، أن تجد مثلا في جماعة توغيلت بإقليم سيدي قاسم، أي سياسة أو مبادرة ترفيه نوعية، من قبل الفاعلين الترابيين في الجماعة، ومعهم المجتمع المدني؛ ترمي لتدخل لصالح الفئات الطفولة التي تجد لها في كل مدينة وجماعة حضرية اهتمام من قبل المؤسسات الترابية، وعلى رأسها الجماعة التي توفر ساحات للعب، وحدائق، ومراكز التنشيط التربوي، وتقوم بأدوار ريادية مع شركاء المجتمع المدني النشيط في المساهمة في اسعاد الطفولة وتنشئتها والنهوض بها تربويا وحمايتها …إلخ.

فردوس، طفلة من ساكنة جماعة توغيلت، لم تطفئ شمعتها الثالثة بعد، فاجأها الموت، وهي تلعب مع أقرانها في اقرب شارع، بقرب منزل جدتها. في صباح يوم 9 من ماي 2023، استيقظت فردوس، وتناولت فطورها، وخرجت لشارعهم، لتلعب مع أقرانها، تلعب فردوس وتجري كما تتجارى، صغار الايائل، والطووس… للحظة وأمام أعين نسوة على طول الشارع، تنهار فردوس بشكل مفاجئ! كانت تلك اللحظات في حقيقة الأمر، لحظات النهاية في حياة فردوس-فهي على مشاريف حافة الدنيا، لتسلم روحها لبارئها، ويعلن عن الوفاة لحياة طفلة لم تكمل عامها الثالث.

فردوس قاومت الموت بالنداء على أمها.. ماما.. ماما، حاولن بعض النسوة تقديم المساعدة؛ رش الماء، ورجل قام بإسعافها. لكن، الموت أقوى. فردوس برغم من حداثة سنها، واجهت الموت بشجاعة؛ واستجابت لهزيمة المنية، ففارقت الحياة، وتركت الكبار والصغار يبكون فراق فردوس الصغيرة.

وصل الخبر  كالصاعقة لذويها الذين؛ حالا، سمعوا بالخبر، في مشهد الصدمة، وهول المصاب، يتسألون عن حقيقة الواقعة، فكيف حدث هذا؟! ويقولون في أنفسهم: هي للتو خرجت. أي سمحوا لها بالخروج للعب في شارعهم، فماذا ألم بفردوس وبهذه الطفولة البريئة؟

كانت فردرس الزهرة الثانية، لأسرتها، مدللة، يرو فيها حلم الحياة، برغم من كل قساوة الحياة، واكراهاتها ومطباتها.

في الوسط القروي بدوار فردوس، واقع الطفولة، جد مزري، جراء عدم الإهتمام من قبل الفاعلين بالطفولة، طفولة محرومة من فضاءات اللعب، ومن اشتداد الفقر- الأسري، فتجد أطفالا، ابناء الساكنة- القروية، يلعبون في المقبرة، في الشارع المزدحم بالمارة، وحركة السير، في مطاريح النفايات العشوائية، والمخجل يبحثون فيها عما يلعبون به!

كل مظاهر البؤس، والتهميش والتقصير موجودة في بعض الأوساط القروية؛ الفقر الخدماتي، والتقصير في اعداد متنفسات سوسيو اجتماعية، وتربوية من شأنها أن تكون حصنا للطفولة من المخاطر، وحماية لها من أخطار التلوث. فكل المؤشرات الخدماتية، والجمعوية التي من شأنها أن تعبر عن اهتمام ترابي من قبل الفاعلين التي تهدف لتحقيق واقع طفولي بدون حرمان، غائبة مجاليا، تكاد تكون منعدمة. بل هي منعدمة في دوار فردوس الذي يعد أكبر دوار بجماعة توغيلت.

فور حدوث الحادث الذي ألم فردوس، تم الاتصال بسيارة الاسعاف، والسلطات المعنية، فبدأت أسئلة في الهاتف.. الهاتف: هل هي ما تزال حية أم توفيت…؟ من التاسعة صباحا التي فارقت فيها فردوس الحياة، إلى أن قدمت سيارة الإسعاف على الساعة الواحدة ظهرا، لحق عليها رجال الدرك من أجل المعاينة، والفاصل الزمني بين مفارقة الحياة فردوس، ووصول سيارة الإسعاف، يتجاوز ساعتين؟!

في طور هذا الزمن، تشنج عقل الساكنة من كثرة الأسئلة التي تتعلق بسبب وفاة فردوس، فهي لم تكن مريضة، ولم تكون عليها أي مظاهر من مظاهر العياء أو ضعف صحة، ولم تكن في أي مكان من شأنه أن يلحق الضرر بفردوس. في مخاض المصاب الجلل، وعلى الضوء هذه الواقعة التي هزت ساكنة الدوار، تلبس على العقل “ماذا نفعل”؟

تم السير وفق اجراءات القانونية، فحملت فردوس في سيارة الأموات، إلى مستشفى بجرف الملحة، ومنه إلى المستشفى بالقنيطرة. هنا تم تشريح فردوس في صباح يوم الأربعاء 10 ماي، بعدها نقلت فردوس لقريتها لتواري الثرى في جنازة مهيبة.

كشف الطبيب عن سبب الوفاة وهو “ضربة شمس” وباللهجة المحلية يقال عن مثل هذه الحالات “المكلفة”. وراء وفاة فردوس، ضربت شمس.. حتى أنت أيتها الشمس.. أيتها الملتهبة، حتى أنت تقتلين الطفولة. كم رسمة رسمتك فردوس، بأناملها، وكم من مرة بحث عنك في السماء؛ حيرها وضعك في الشروق، والظهيرة والغروب. ضربة شمس انهت ربيع فردوس وحولته لخريف.. خريف الكآبة. قصارى القول ينبغي إعادة النظر في المجالات القروية وطرح أسئلة عن أدوار الفاعلين في شأن الطفولة.

إنا لله وإنا إليه راجعون، عظم الله أسرة الفقيدة وألهم أهلها الصبر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *