الزمن السجني والكتابة.. قلم في وجه دبابة

لماذا نكتب؟ السؤال واحد والأجوبة لا حصر لها. نكتب لنشعر بالكمال. نكتب لنهرب من الواقع المعاش نحو واقع متخيل مشتهى. نكتب لنشعر بأن لنا معنى. لكن لماذا يكتب كاتب الرواية السجنية؟ هل لنفس الأسباب أم لغيرها؟ ألا يحق لنا أن نتساءل عما إذا كان يمارس نوعا من التفريغ بالكتابة une thérapie أو ما يسمى باللغة الانجليزية Journaling أم أنه ينتقم من المجتمع عبر اشراك القراء في عيش معاناة تجربة السجن؟ لنصبح فجأة كقراء جميعنا تحت نير فظاعة الظلم والقسوة. وهكذا يجرنا كاتب الرواية السجنية الذي عاش تجربة الاعتقال أو السجن معه إلى متاهات الضياع والظلام، فنتحول فجأة ونشعر بما يشعر به، وإن كان فقط على مستوى الخيال الذي تخلقه الكلمات والأحاسيس التي تولدها فينا مشاركة هذه التجربة.
نصبح جميعا من خلال قراءتنا لروايات أدب السجون، سجناء مزاجية الكاتب ومشاعره وأفكاره ومخاوفه و وحدته. ونضحي مثله في تطلع دائم لخروحنا من عتمة ما كتب نحو قبس من نور.
ذلك النور الذي لا يحمي من ضربات الضياع النفسي والفكري واختلال التوازن الروحي والايمان بغد يبتعد أكثر فأكثر كلما مرت الأيام … غد لا تاريخ له رغم أنه التاريخ المنتظر للحصول على الحرية. ألم يقل الكاتب عبد القادر الشاوي على لسان أحد أبطاله في رواية من رواياته ” أنا الذي أريد الهروب، هكذا، وكأني ممسوس بهوى الاغتراب. فلماذا لا أعود للوهم الذي علمني الكبرياء…على الأقل لأحتمي بشيء ولو قليل من الضياع”.
في كتابه الموسوم ب ما الأدب، يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر ” الكتابة هي الكشف، الكشف هو التأكد من أنه لا يمكن لأحد أن يتجاهل العالم، وأخيرا وليس آخرا، اذا كان المرء يعرف العالم، فلا يمكن أن يدعي أنه بريء منه.” انطلاقا من هذه الفكرة يجوز لنا التفكير بأن كاتب الرواية السجنية يكشف لنا كقراء ولمن حوله عن معاناة بلا طعم، لأن حتى طعم المرارة يفتقده من يكتنف روحه ليل زنزانته الحالك إذ لا وجود للنهار في تقويم السجين. هكذا اذن، تتسلل إلينا معاني الوحدة والغربة ونتحول إلى سجناء بقيد من كلمة كاتب رغم الكسر يقف على قدمين ثابتتين على الأرض.
يحق لنا أيضا، القول إن من يكتب في السجن من صحفيين و معتقلي الرأي أو أناس من العموم ، ولد لديهم صمت الزنزانة القاتل رغبة جموحا في خلق ضجيج من الأصوات والشخصيات والأحداث، و سواء كتبوا رواية أو شعرا، فهم بذلك يواجهون بقلم دبابة الجور والغدر.
يقال إن هناك حقا مكفولا السجين يدعى الحق في النسيان (The right to be forgotten)، أي أن على المجتمع والمحيط العائلي أن يساهم في جعل من خاض تجربة السجن أن يحظى بنسيان من حوله لما اجتازه وأن يستطيع الاندماج من جديد في عالم فقد في ناظريه ملامحه ومعناه. وبناء على هذا المنطلق، يورطنا كاتب الرواية السجنية بذكراه التي تعلق في أذهاننا وبتحربته التي سرعان ما تصبح تجربتنا. وهو في هذه الحال، أمر مشروع يحق له أن يخفف من خلاله عن نفسه وأن يثقلنا ولو مستوى الفكر لا الواقع بما عاشه.
يعرف الباحث “رأفت حمدونة” في مقال بعنوان أدب السجون التعريف والمميزات، يعرف أدب السجون بأنه “كل ما يكتب عن السجون وكل ما يكتب بأقلام الأسرى”. ذلك العالم الذي لا شك في أن جروحه لا تندمل ولا تنعم ذاكرته بنعمة النسيان.
لم تتوان أسماء كثيرة في العالم العربي عن الكتابة من داخل السجن أو بعد مغادرته كالكاتبة المصرية نوال السعداوي في روايتها ” مذكراتي في سجن النساء”، والضابط العسكري المغربي أحمد المرزوقي في روايته الزنزانة رقم 10، و غيرها من الأسماء الأخرى التي تتشارك في رغبة التخلص ولو بالنزر اليسير من ذاكرة عليلة بعالم السجن والعزلة الفردية والانتهاكات التي تلحق بالسجناء الذين رغم كل محاولات الشفاء والتصالح مع الذات لا يتمكنون من التجاوز الكلي لما حدث والذي ليته لم يحدث. كذلك أفصح الأستاذ محمد بن المقدم صاحب تاريخ من النضال والذي شغل مناصب عدة منها منصب كاتب لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي وهو أيضا زوج المحامية السيدة عائشة الخماس، إذ لم يمنعه السجن من تفجير وحي الشعر، فباح واسترسل في البوح من خضم تجربة مريرة وسط جدران بلا سماء
أحبك من أخمص القدم
حتى دؤابة الرأس
المثقل بالغياب
وحتى أعماق فؤادي المكلوم
بحبك المنفي
حبيبتي وأنا العاشق المقهور
في وطني
أنا العاشق المحموم تعزلني
أسوار الظلام، وتحجبني سحائب الأنواء
تعليقات الزوار
ويبقى القلم سلاح الإنسان في الكشف عما يعتمل في النفس من مشاعر طمعا في تطهيرها أو على الأقل في التخفيف من كدرها