وجهة نظر

المصطفى المعتصم يكتب: عن أي تقاطب تتحدثون ؟

انتهت الانتخابات وخلفت وراءها منتصرين إثنين ومنهزمين كثر. كانت حربا استعمل فيها الفرقاء كل الأسلحة الفتاكة التي كانت بين أيديهم من دون تردد. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وتم التصويت وفرز الخريطة البرلمانية الجديدة نعيش اليوم على إيقاع تشكيل الحكومة ستكون ولادتها عسيرة جدا .

من مخلفات هذه الحرب الضروس التي عشناها أن الكثيرين وأنا منهم ينتابهم القلق من طريقة تدبير الاختلاف والتنوع والتعدد بين فرقاء المشهد السياسي المغربي و هؤلاء يتساءلون اليوم هل في داخل الأحزاب المغربية من يتمثل ويجسد فعليا قيم التسامح وعدم الكراهية و متشبع بقيم الديمقراطية ؟ .

الكثيرون في المغرب لم يعودوا يخفون قلقهم وخوفهم على مستقبل المغرب في ظل المشهد السياسي الحالي ويعتبرون أن بلادنا تقف اليوم على كف عفريت نتيجة تردي الوضع الحزبي واستمرار تراجعه . إذ باستثناء حزبي العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة اللذان قدما أنفسهما كحزبين قويين / كبيرين في مشهد ضعيف فإن باقي الأحزاب وفي مقدمتها أحزاب الكتلة قد تراجعت بنسب متفاوتة نتيجة عوامل متعددة ليس المجال هنا لذكرها .

ولقد ساد انطباع وتم الترويج أن الساحة السياسية بصدد التوجه نحو ثنائية قطبية يشكل أحد أقطابها حزب محافض هو حزب العدالة والتنمية ويشكل قطبها الحداثي حزب الأصالة والمعاصرة . وطبعا اعتبر العديدين أننا إزاء ظاهرة سليمة أو صحية حيث التنافس بين هذين الحزبين كفيل بخلق نوع من التوازن في الساحة السياسية ويمنع هيمنة حزب واحد على المشهد السياسي المغربي .

وفي تقديري المتواضع هناك اليوم توازن ظاهري لحظي تداخلت عدة عوامل إيجابية وأخرى سلبية لإيجاده وهو توازن يتم بين قوى متساوية أو تكاد تكون كذلك وتتدافعان في اتجاهين مضادين ولكنه توازن هش قابل للاختلال بعد حين لصالح الحزب الأكثر تنظيما وقدرة على التوسع والتواصل مع الجماهير وقواعده أكثر انضباطا ً وحرصا على التمدد والأكثر تطوعا وتعبئة لبذل الجهد من أجل الفكرة والعقيدة الحزبية التي يؤمنون بها. قوة لها القدرة على الوصول إلى الجماهير واستقطابها بسهولة من خلال تقربها للجماهير بالدين وتوظيف زلات وأخطاء المنافس لإثارة الأحاسيس الدينية لدى الجماهير ضده . ولأن للدين دور مهم في حياة أمتنا وسوادها يعيش بالدين وللدين ولأننا نعيش زمن العودة للهويات والأصوليات بعد نهاية عصر وزمن الإيديولوجيات فلن يكون هناك توازن بين قوة تقدم نفسها أو منحتها الترتيبات السياسية البئيسة التي تمت ببلادنا صفة الممثل الشرعي والوحيد لما يسمى بالإسلام السياسي وبين من لا يتمتع بهذه الصفة . هذا ما لم ينتبه إليه مهندسو الساحة السياسية المغربية منذ مطلع الألفية الثالثة بل منذ التسعينات من القرن الماضي .

من جهة أخرى لست آدري كيف اقتنع المتحمسين للقطبية السياسية في الغرب أن بامكانهم إعادة انتاج إحدى تجارب الدول الديمقراطية المتقدمة كالتجربة البريطانية أو الأمريكية أو الألمانية أو الفرنسية بين محافظين وعمال أو بين جمهوريين وديمقراطيين أو بين يمينيين ويساريين . فهذا أمر فيه الكثير من الالتقاطية والتجريبية والتسرع حيث إن سيرورة تطور الحياة السياسية على مدى قرون وعقود في البلاد الديمقراطية جعلها تقطع أشواطا كبيرة من النضج والإستواء ، وأصبح الإطمئنان للآخر والثقة في نواياه وعدم الخوف من انقلابه على الديمقراطية أو تسخير تواجده في تسيير الشأن العام وفي السلطة للهيمنة أمرا مؤكدا . ثم إن الحديث عن وجود ثلاث أو أربعة أحزاب في هذه الدول أمر غير صحيح ففي فرنسا مثلا هناك أزيد من 400حزب يتوزعون بين أقصى اليمين ووسط اليمين واليمين ووسط اليسار واليسار واليسار المتطرف وأحزاب البيئة والأحزاب المحلية والجهوية الخ . ومن هذه الأحزاب تفرز التكتلات الإنتخابية.

اليوم السمة البارزة في الحياة السياسية المغربية هي سيادة أيديولوجية الخوف والتخويف من الآخر وهي أيديولوجية مدمرة قد تأتي على حياتنا السياسية في جملتها خصوصا حينما يكون الغموض هو سيد الموقف ويطلق العنان للشائعات : الخوف والتخويف في النوايا المضمرة و من الهيمنة الحزبية ، الخوف على الملكية ، خوف من أسلمة وأخونة المجتمع والنظام والخوف من علمنة الدولة والمجتمع و الخوف على الدين والقيم الخ .

ومع ارتفاع منسوب الخوف والتخويف تستفحل أزمة الثقة بين الفرقاء وهنا مكمن الخطورة . أزمة ثقة بين النظام والإسلاميين ثم بين العدالة والتنمية وكل الأحزاب المغربية وفي مقدمتها حزب الأصالة والمعاصرة خصوصا منذ 2012 . وبعد الانتخابات يوم 2016/10/07 ظلت العدالة والتنمية تنظر بعين الشك إلى الأصالة والمعاصرة والعكس صحيح كما أصبحت باقي الأحزاب متشككة وخائفة من هيمنة الحزبين اللذان نالا لوحدهما ثلثي أعضاء مجلس النواب بل منها من تجرأ على اتهام حزب الأصالة والمعاصرة بالسطو على مناضليهم. أي أصبح الكل لا يثق في الكل والكل يخاف من الكل والكل يتهم الكل بالكيد لأمن المغرب ووحدته ويهدد استقراره بل هناك من اتهم هذا الحزب أو ذاك بالخيانة والتواطئ مع الأجنبي .

هي عقدة المنشار إذن في حياتنا السياسية اليوم : الخوف والتخويف من الآخر وشيطنته وهو شيئ مسيئ للمغرب ومدعاة لعدم الثقة في العملية السياسية وفي المستقبل وطعن في مصداقية ادعاء الاستثناء المغربي . وفي تقديري المغرب في حاجة إلى سياسيين حكماء عقلاء يتميزون بالرشد في التعاطي مع واقع غاية في التعقيد تزيده ايديولجية الخوف والتخويف استفحالا إما نتيجة ممارسات لا تبعث على الإطمئنان أو نتيجة تصريحات تزيد من التوتر وترفع من منسوب الخوف وتدعو إلى التخويف من الآخر المختلف . اليوم المغرب في حاجة إلى مبادرات يطرحها مثل هؤلاء العقلاء لتهدئة الأجواء في أفق الرفع من مستوى الثقة بين الفرقاء .

وإذا كانت الثقة تتأسس على مواقف وتصريحات ومبادرات فإن حزب العدالة والتنمية مطالب أكثر من غيره من الأحزاب كحزب يحتل الريادة في الحياة السياسية المغربية بأن يبادر ليس فقط لمد اليد إلى كل فرقاء المشهد السياسي بدون استثناء لطي صفحة التوتر بينه وبين بعضهم بل لتوضيح مواقفه وعلاقاته لمن ما زال لديه ذرة شك في نوايا هذا الحزب وولاءاته ولفتح حوار حقيقي صريح في أفق وضع قانون سير ومدونة سلوك لضبط الفعل السياسي لفرقاء المشهد واقتراح سبل اشراك ومشاركة الجميع .

في تونس استطاع راشد الغنوشي أن يأخذ من المبادرات ما ساعد على نزع فتيل الصراع الذي كان يتهدد تونس نتيجة عدم ثقة الفرقاء في ما بينهم . نعم كانت هناك كلفة وثمن قدمهما حزب النهضة من خلال التفريط في بعض الكراسي والمناصب ولكنه ربح أمن واستقرار تونس . لست أدعو لمحاكات التجربة التونسية واستحضاري لها هنا فقط لكي أوضح أن امكانية احلال الثقة محل الشك والإطمئنان محل القلق ممكنة متى توفرت الإرادة وحضرت الحكمة وأكيد أن المغاربة لهم من العبقرية ما يؤهلهم لتجاوز كل المعوقات التي تؤسس للخوف والتخويف والتمثلات الخاطئة عبر مبادرات تجمع الشمل وتؤلف القلوب وتحقق الاجماع حول ضرورة بناء مغرب لكل المغاربة مغرب الحرية والكرامة واحترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية .