منتدى العمق

لماذا فاز “البيجدي” مرة أخرى ؟

بعد تصدّر حزب العدالة والتنمية لانتخابات 7 أكتوبر ب125 مقعد برلماني، مكتسحًا بذلك مجموعة من الجهات والأقاليم، ومتقدما بذلك عن حزب “الجرار” وباقي التشكيلات الحزبية الأخرى التي تقزّم البعض منها وتراجع الى مستويات دنيا،الشّيء الذي يضمن لهُ تشكيل حكومة جديدة لولاية ثانية في الأيام القادمة بعد استقباله من طرف ملك البلاد، وتكليف أمينه العام بالمهمة بشكل رسمي كما يقضي بذلك الدستور .

سنحاول في هذه المقالة أن نرصد ونقارب بعد الأسباب التي جعلت المغاربة يهبّون بكثافة يوم الجمعة الماضي لصناديق الاقتراع للتصويت عن حزب المصباح مرة أخرى، فهل صوت المغاربة يا ترى عن المصباحلكونه حزبا سياسيا “معقولا” كما يقول التزم فعلا بالوعود العريضة التي قطعها على نفسه بعد الحراك الشبابي الاجتماعي الفابرايري، المتعلقة بالتشغيل، ومحاربة الفساد، واسقاط الاستبداد، وتحقيق العدالة الاجتماعية الحقيقية ومحاربة الريع والفساد المعشش في الإدارة ؟ أم انتصويت الهيئة الناخبة المشاركة في التصويت لصالحهذا الحزبكان لاعتبارات أخرى كونه حزبا يستند في أدبياتهعلىمرجعية إسلامية أخلاقية روحانية ؟

إن المتتبع لهذه الخمس سنوات من الولاية الحكومية السابقة لحزب العدالة والتنمية يستطيع أن يستنتج بسهولة من خلال المؤشرات التنموية،وبناءً على التقريرات المتوفرة الصادرة من مؤسسات الدولة انها كانت فعلا ولاية قاسية وعسيرة على المغاربة. لقد عرفت هذه الولاية اتخاذواصدار جملة من القرارات اللاشعبية، كانت كلّها على حساب الطبقات الفقيرة المطحونة المتصدعة طبقيا،لإرضاء المؤسّسات البنكية الدولية، والرضوخ لإملاءاتها النيوبيرالية الرأسمالية المتوحشة،أما “اللوبيات” الحقيقية وأصحاب “الفيرمات” والرساميل والامتيازات والعائلات الأرغارشية فقد بدا حزب العدالة والتنمية أمامهم كنعامة وديعة مقصوصة الجناح بعدما خاطبهم رئيس الحكومة بقوله؛(عفا الله عما سلف) ..

إننا عشنا حقيقة طيلة هذه السنوات على إيقاع “معجم سياسي جديد”في الحقل السياسي جعل رئيس الحكومة يخوض معاركه الدونكشوطية الخطابية مع كائنات ماورائية، “التحكم”واحيانا مستعارة من فصيلة الحيوانات، بينما “المعقولية” التي يزعمها الحزب كانت تقتضي الوضوح والفضح والتعرية والصراحة والشفافية مع المغاربة والجرأة في تحديد المفسدين وتقديمهم للعدالة وتسميتهم بمسمياتهم، دون تورية ودون خطابات استعارية تكرس اللاوضوح وعتمة المشهد السياسي ..

إن تصويت المغاربة لحزب العدالة والتنمية ليس لكونهم حاربوا الفساد واسقطوا الاستبداد وليس لكونهم أسسوا خلال ولايتهم الحكومية السابقة لعدالة اجتماعية حقيقية، ووزعوا عائدات صندوق المقاصة بعد تفكيكه وخيرات البلاد عن الفئات الهشة المسحوقة كما وعدوا، وليس لكون حزب المصباح عمل جاهدا على اصلاح قطاع التعليم “نسق الأنساق والقطاع الحيوي في الدول ” الذي لا زال يتخبط ويرزح تحت مشاكل واعطاب بنيوية (كالخصاص في الموارد البشرية، واهتراء البنيات التحتية كما كان يعد السي بنكيران في حملته الانتخابية لــِ 2011.

إن منح كتلة من الناخبين أصواتهم “للبيجدي” كان لاعتبارات اديولوجية ودينية محضة .لقد نجح حزب العدالة والتنمية في الاستحقاقات الانتخابية لأنه عرف كيف يوظف المقدس في “الماتش السياسي”وفي سلوكه الانتخابي بذكاء، لا يخفى على أحد أن الأخير هو الوتر الحساس السحري الذي يحصدُ عشرات الآلاف من الأصوات الانتخابية حتى وان اوجعت جيوبهم واجهزت على مكتسباتهم، إن المغاربة في عمقهم الأنتربولوجي ووعييهم الجمعي لك أن تبتعد وتنأى لهم عن معاداة ومهاجمة المقدس الديني واصنع بهم بعد ذاك ما شئت، ولقد طالعتنا مجموعة من الأصوات التي صوتت لصالح الحزب بالقول إنه لا يهم الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمغاربة بقدر ما يهمنا أنه حزب العدالة والتنمية حزب إسلامي !! يحيلنا هذا الأمر ويسافر بنا في الزمن بالتعبير الهايدجري ونحن بصدد تحليل العمق الانتربولوجي، والبنى الذهنية للمغاربة ونسقهم التفكيري وارتباط كل ذلك بالمقدس الى البحث الانتربولوجي الكولونياني الفرنسي قبيل الاستعمار، معروف أن الاستعمار الفرنسي مهّ دقبل دخوله للمغرب كما فعل أيضا مع شعوب أخرى: بإرسال بعثات علمية لتقوم ببحث انتروبولوجي سوسيولوجي حول الخصوصية المغربية، فتوصلوا الى ان المغاربة تربطهم صلات عميقة بالزوايا والاضرحة وأماكن العبادات، (أي ان المجتمع المغربي محافظ في سيكولوجيته و سلفي في بنيته ) ولذلك استنتجوا أن فرنسا عليها ان تبتعد ما استطاعت السبيل عن هذه الأماكن المقدسة لتتجنب السخط الشعبي الجماهيري.

ولا ينبغي ان ننسى أيضا أن منح المغاربة أصواتهم للبيجيدي” جاء في سياق محموم، احتدم فيه النقاش حول الحريات الفردية والشواذ و”وكالين رمضان ” “وصايتي” لكونهم يعتقدون أنه الحزب الإسلامي الوحيد الذي يستطيع أن يحمي الهوية الإسلامية للمغاربة من الاختراق الحداثوي!. ولكونه أيضاحزب لا يتبنى العلمانية في طروحاته كباقي التشكيلات والتنظيمات الحزبية والمدنية التقدمية الأخرى، والعلمانية عند أغلب من صوتوا للعدالة والتنمية مرتبطة بالإلحاد ومهاجمة الأديان وتدنيس المقدسات وان كانت العلمانية بخلاف ذلك ..

بالإضافة الى كتلة منضبطة منظمة تصوت كقاعدة جماهيرية ثابتة منضوية في الإطارات والهياكل الدعوية والتنظيمية للحزب،ومدسوسة كخزان احتياطي في الجناح الدعوي “التوحيد والإصلاح “.. ثم اننا لا يمكن أن نتحدث عن تقدم العدالة والتنمية انتخابيا في المغرب دون استحضارعامل مهم آخر وهو الموجة العالمية اليمينية التي هبت رياحها في أكثر من بلد حتى في اكثر البلدان عراقة في الديمقراطية (النسق العام) .

أمام هذه الأسباب التي قاربنا بعضها وفي ظل غياب وعي ونضج سياسي حقيقي وغياب البدائل السياسية المسؤولةوتآكل النخب اليسارية، لا غرابة أن يترتب حزب العدالة والتنمية في المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية مرة أخرى رغم السياسة التفقيرية التي شارك فيها.

اننا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعتبر صناديق الاقتراع في ظل هذه الشروط المتوعكة آلية من آليات الديموقراطية الحقيقية التي تعبر عن إرادة القواعد بعدما اختار أغلبها خيار المقاطعة والصمت وفقدوا ثقتهم في القوى الحزبية التي أصبحت أغلبها فاقدة للشرعية اذا ما قيس عدد الناخبين الذي صوتوا على هذه الأحزاب بالكتلة المقاطعة التي امتنعت واعتبرت أصواتها “قيمة” لا يستحقها أيا كان..