وجهة نظر

تراجيديا الجشع

عندما يتعلّق القلبُ بالدّنيا وزِينَتِها تعلّقاً يُعْمي البَصِيرة عن ذَمّ الجَشَع المُتَوَحّش فإنّ النِّهاية لن تكون إلّا تْرَاجيدية. فَالإنسان الجَشِعُ الحَرِيصُ عَلَى مَا عِنْدَهُ الطّامِعُ فيما عند النّاس يَضَعُ نُصْبَ عَيْنَيْه هَدَفَ الِاغْتِنَاءِ بِشَتَّى الوسائل، وتَتَشكّل لديه عُقدة التّعَالي والغُرور بِصُورة يُصبح فيها مُعْتَقِدا أنّه أَذْكى النّاس وأَعْلَمُهُم، وَأَنّ قُدُرَاتِه المُتَلبِّسة بِالإِبْلِيسِيّة هِي التي تُمَكِّنُه مِنْ صُنْعِ مَجْدِهِ المَادِّي مُتَغَافِلاً عن أيِّ معنى لِلابْتِلَاءِ والاخْتِبَار الذي يَجْري عليه. وهذا ما عَبّر عَنْه الزّعيم التّاريخي لِلْجَشِعِين ‘قَارُون’ حِينما قال مُتَكَبِّراً كما حَكَى لنا القرآن الكريم “قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي”(القصص:78).

لَقَدْ جمع قَارُون ثَرْوةً كبيرة يَصِفُ القرآن كَثْرَتَها بِهَذَا التّصْوِير “وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ” (القصص:76) لَكِنّه جَمَعَها بَغْياً وَظُلْماً وَتَجَبُّرا وطمعاً وكِبْراً “إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ” (القصص:76).

تَقَدّمَ الفُضَلَاءُ مِنْ قَوْمِهِ لَهُ بِالنّصِيحَة أَلّا يَفْرَحَ بِبَغْيِهِ وأَلّا يَبْتَهِجَ بِطغْيَانِه “إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” (القصص:76،77) لَكِنّهُ أَبَى وَتَجَبّر وَطَغَى وَازْدَادَ اخْتِيَالاً وَتَحَدِّياً “فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ” (القصص:79).

لَكِنَّ المُثِيرَ في المَشْهَدِ أَنّ بَعْضَ المُتَفَرِّجِينَ والمُعْجَبِينَ مِمَّنْ غَرّهُمْ بَرِيقُ الهَيْأَةِ الخَادِعَةِ انْبَهَرُوا بِالمَوْكِبِ وَبِالأُبَّهَة وَبِالصُّورة البَاذِخَة “قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُون” (القصص:79) بَلْ اعْتَبَرُوهُ النَّمُوذَجَ المَحْظُوظَ النّاجِحَ الّذِي يُحْتَذَى، فَزَادُوا بِقَوْلِهِمْ “إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ” (القصص:79) لكنّ بَعْضَ العَارفين بِحَقِيقة الدُّنيا وَزُخْرُفِهَا وَبَاطِنِ النُّفُوسِ وَشَهْوَتِهَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِم وَذَكَّرُوهُم بِأَنّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى “وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا” (القصص:80).

النِّهَايَةُ التْرَاجِيدِية المأساوية لَمْ تَكُن مُتَوقّعة مِنْ لَدُن قَارُون المَزْهُوِّ بِرَصِيدِه المَالي الضّخْمِ، وَفَاجَأَت أيضا الحَالِمِين بِبُلُوغِ الصُّورَةِ المُزَخْرَفَة لِبَطَلِ المَشْهَد “فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ” (القصص:81).

وَشَخَصَتْ أَبْصَارُ المُعْجَبِينَ المُصَفِّقِينَ لِلطّاغِيَةِ الجَشِعِ وَانْطَلَقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بَعْدَمَا ابْتَلَعُوهَا من هَوْلِ المَشْهَد بِكَلِمَاتِ الاِعْتِرافِ المَمْزُوجِ بِالاِنْدِهَاشِ وَالصّدْمَةِ “وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ” (القصص:82) وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنَّ الحَقَّ تَعَالَى تَفَضّلَ عَلَيْهِمْ بِفُرْصَةٍ أُخْرَى كَيْ يُرَاجِعُوا مَوْقِفَهُم “لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخُسِفَ بِنَا” (القصص:82).

بعد ذلك يُعْلِمُ القرآنُ الكريمُ قَارِئَ القِصّة بِأَنَّ خَيْرَ الآخِرَةِ لَا يَنَالهُ إِلّا مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ ضِدَّ العُلَوِّ وَالفَسَادِ وَلَوْ بَدَا في هاتِه الحياة فَرِحاً مُخْتَالاً مُتَبَاهِياً “تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” (القصص:83).

لِلْأَسَفِ الشّديد بَعْضُ الجَشِعِينَ يَنْسَى أَوْ يَتَنَاسَى أَنّ أَسْوَأَ نِهَايَةٍ تْرَاجِيدِية يَسْتَعِدُّ لَهَا هِيَ أَنّ كُلّ عَلَامَاتِ الرّحِيلِ عَنِ الدُّنْيَا قَدْ ظَهَرَتْ عَلَى مُحَيّاهُ لَكِنَّه مُصِرٌّ على المُضِيِّ في طُغْيَانِهِ وَغُرُورِه دُونَ أَنْ يَلْتَفِتَ إلى إمْكَانِية إِسْدَالِ السِّتَار عَنْ حَيَاتِه بِخَاتِمَةٍ مَأْسَاوِية.
فاللَّهُمَّ اغْنِنَا بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِك.