منتدى العمق

يوميات حضاي امتحان

 

-1-

استيقظت هلوعا خشية التأخر فالتعليمات تقول إنه علي أن أكون نصف ساعة في المؤسسة قبل الثامنة.. فطور سريع؛ حساء وتمر وكأس شاي أدك منه جغيمات وأنا أنتعل حذائي الرياضي الأبيض.. ارتديت قبله سروال ثوب وحذاء كلاس.. ثم نزعتهما، أنت في طريقك إلى حراسة ولا يعقل أن تذهب كمعروض لعرس.. ماذا لو انتفض في وجهك تلميذ نزعت منه هاتفه أو ورقة صغرها بعناية.. ينبغي أن تكون “محزما” بسروال دجين وسبرديلة لكي تكون على أهبة الاستعداد للضرب، للقفز، للهروب على الأقل..

قررت المشي على قدمي على غير العادة فالخبراء يقولون لا تذهب بسيارتك يوم الامتحان فقد ينتقم منها تلميذ خرج غاضبا من الامتحان… أصل أمام الباب.. شرطة وقوات مساعدة.. وتلاميذ يدخلون هادئين كالأمانة بلا صخب على غير العادة.. أسلم على الجميع مبتسما حارس المؤسسة وشرطي ورجل من القوات المساعدة.. أدخل قاعة الأساتذة، مليئة بالزملاء من المؤسسة ومن مؤسسات مجاورة جاءوا “ليحضو” معنا التلاميذ… يا إلهي لقد كنت “أحضي” 44 تلميذا وحدي والآن سأحضي 20 فقط ومعي أستاذ آخر ومراقب ومدير وحراس عامون وخاصون وشرطة وقوات مساعدة… هل فجأة تحول هؤلاء التلاميذ إلى وحوش أم أن الامتحان وحش يحتاج فعلا كل هذا وأكثر…

اسمي على ورقة المكلفين بالحراسة يشير إلى القاعة 19 مع أستاذ آخر من مؤسسة أخرى شاركني الحراسة السنة الماضية…

أوراق ملونة للتسويد وأوراق للتحرير ومحاضر وبكثير من الهيبة والرعب يدخل أستاذان.. يوزعان ذلك في انتظار الجرس لفتح ظرف وإخراج العجب الذي يخيف التلاميذ..

دخلت القاعة تبدو مظلمة، بعض المقاعد قديمة جدا ومهترئة.. تمنيت لو أملك القدرة لتغييرها وتوفير مقعد أكثر راحة لهؤلاء التلاميذ ولكن الله غالب..

كتب التلاميذ أسماءهم وأرقام الامتحان وتسمروا ينتظرون وننتظر.. صمت مطبق وحركات محسوبة.. الجو غائم وكئيب وممل.. الله في عليائه أشفق علينا، وعلى هؤلاء، جعل سحابة تشاركنا هذا الغبن فغطت الشمس لتخفف عنا الحر، ولما لمحتنا كاليتامى ننتظر من يجود علينا جادت علينا بقطرات مطر.. خرجت أمام الباب بدا الجو جميلا دخلت مبتسما نظرت إليهم وقلت: “إنها تمطر.. امتحان رومانسي”

ضحك الجميع، ضحك الأستاذ الآخر، ضحك مصباح معطل، ضحك “Love” بالبلونكو على الجدار.. ضحكت.

رن الجرس…

-2-

ومما يحسن على المرء تفادي حراسته مادة الفرنسية، فلغة موليير منبوذة عند أغلب الطلاب، ولا يميزون فيها بين الألف وعصا الطبال، ولا يعرفون ما سيكتبون فيها ولا لم عليهم أن يدرسوها أصلا.. الجميل فيها هو نطقها من قبل أستاذ شاب بلحية خفيفة وعناية فائقة باللباس، يحمل إلى جانب محفظته كتابا بورق أصفر خفيف.. عندما يصادف تلميذا سبق ودرسه يحييه التلميذ “سلام أستاذ” فيرد الأستاذ “bonjour”… هذا الجميل، والأجمل تلك الأستاذة الصغيرة صاحبة “كوب گارسون” أنيقة رشيقة تشعرك أنها تعيش في باريس، مشكلتها الوحيدة أن اسمها فاطنة.. في حسابها على الفايس “Fati” صديقها المصري يناديها “فيفي الأمورة”.. أنا أناديها مولاة الفرونسي، صديقي البلدي يناديها “سليعفانة”.. عندما تسير في الساحة بطالونها وصوته يسمع “ابّق..ابّق” أتابع سيرها شغبا وأحاول تلحين موسيقى بفمي مستعينا ب”ابّق..ابّق”.. لو كان تلاميذ اليوم يسمعون أغاني عبد الحليم لحفظوا “فاتت جنبنا” فاطنة طبعا فاتت جنبنا وأنا سأسكت عن ترديد “ابّق..ابّق”…

ماذا سيكتب التلاميذ في الامتحان؟ هل قرأوا فعلا ثلاث روايات باللغة الفرنسية، لست أدري لكنني أدري أنهم لا يقرأون “اللص والكلاب” وهو تقريبا مائة صفحة فقط… يبحثون عن الملخصات السهلة والمنهجيات النمطية في كل المواد… فهل يستطيعون قراءة هذا العدد من صفحات الفرنسية!؟ بعضهم يجتهد صحيح أعرف ذلك، وأعرف تلميذا يلقبونه بالعميق يحمل شعرا كالقفة على رأسه يحب الفرنسية ويحب مولاة الفرونسي، ويحلم أن يصير أستاذا للفرنسية، يشاهد tv5، وعندما يحصل على معدل جيد في الجهوي ستكتب فاطنة على حسابها تلميذي العزيز حسام الدين يحصل على المعدل الأول في المؤسسة وتنشر صورة سيلفي معه…

حسام الدين متكئ على ورقته يكتب، هبة متكئة على ورقتها تفرغ فيها ما حفظت.. أميمة التي كانت تطلق شعرها تضع اليوم حجابا وبين الحين والآخر تضرب بقلمها على الطاولة ليفهم مراسلها عبر VIP أنه يسبقها وعليه أن يعيد ما قال لتكتبه… تلميذ هادئ يناديني همسا “أستاذ فين غادي نكتب اسميتي؟”، آخر خلفه يهمس “فين أوستاذ؟”

عند باب المؤسسة أجد عراما من التلميذات متحلقات حول أستاذ الفرنسية صاحب اللحية الخفيفة، فضولهن كبير لمعرفة إن كانت أجوبتهن صحيحة، لو كنت مكانهن لذهبت إلى حال سبيلي فاللي عطا الله عطاه وعلي أن أنشغل بالمادة المقبلة لا بالسابقة… أمازحه: “ما قريتهم والو يا أستاذ وجاو يحتجو عليك” يصحن بشكل شبه جماعي “لا أوستاذ والله تا خدم معنا وداكشي اللي درناه هو اللي تحط”..

هربت.. أضع يدي على كتف تلميذ أمامي “غدا الديربي نتا رجاوي ولا ودادي” يجيبني “كاع ما عندي مع الكرة أوستاذ”.. يا إلهي لقد صدمني.. يصل صديقي بسيارته الصغيرة بحجم “تلّيْدُورْ” ليخرجني من ورطة “الإحضياي” هاته..

-الله يوفق

– آمين أوستاذ غا تشعاونو معنا فالتصحيح.

يضغط صديقي على الدواسة “عااااان…”

 -3-

قبل ربع ساعة تدخل القاعة، التلاميذ صامتون، هدوء يخيم على الفصل، هذه المرة لست مضطرا كما في الحصص لتضرب على السبورة والمكتب ليسكتوا، لست مضطرا لتهدد أحدهم بتقرير أو طرده من الحصة إن لم يتوقف عن شغبه وضجيجه، هم ساكتون، ترى في أعينهم الخوف والهلع.. “مساكين يقطعو فالقلب..” وأنت أيضا “تقطع في القلب”، أنت الذي ستقف عاسا لثلاث ساعات، يكاد الملل يقتلك، والصمت مرعب كالصخب، توزع أوراق التحرير والتسويد، توصيهم بعدم نسيان رقم الامتحان في انتظار أن يدق الجرس…

يدخل أستاذ آخر رفيقك في الحراسة، يضع يديه في جيبه، يتجول بين الصفوف كعارض أزياء، يرفع عينيه إلى السقف.. يرن الجرس، توزع وحدك أوراق الأسئلة، ومازال الآخر يضع يديه في جيبه، وإن أخرج إحداهما فليغير تموضع نضارتيه…

طيلة الحصة لا ينظر إلى التلاميذ أبدا بل ينظر إليك وإلى السقف، يتعمد أن يعطي ظهره إلى التلاميذ، وأنت تفهم رسالته إليك “زعما حرسهم أو خليهم” وتفهم رسالته إلى التلاميذ” “زعما أنا ضريف.. كون جات عليا نقلو براحتكم ولكم هاد خينا المسموم هو اللي ما خلاكم…” يحاول إشغالك قدر الإمكان، تدعه يتكلم لوحده فليست المرة الأولى التي تصادف مثل هذه النماذج “ما عندهم ما ينقلو فالماط” “أصلا عيانين فالماط” “أنا كنت علمي كانطير فالماط غير مشيت لفاك درت الحقوق وتنسى عليا” “البطولة غاتديها الوداد” “امتى غايخرجو…” ” ما عنديش مع ماعنديش”… يتكلم دون توقف.. فكرت أن تقول له “وتا سيييير” لكن لابأس أن تسكت فالصمت حكمة كما يقولون، ولو أنه أحيانا ليست حكمة ولا سيدي زكري…

والرياضيات مصيبتها مصائب، تلاميذ اختاروا أن يتوجهوا توجها علميا ويصرحون “ما عندناش مع الماط” وطبعا ما عندهمش مع الفيزيك أيضا… مسألة التوجيه هاته تحتاج علاجا ومن ذا سيعالج!

استهلك التلاميذ عددا كبيرا من أوراق التحرير والتسويد.. كتبوا كثيرا وأغلبهم غير راض عما يكتب لكنه يكتب، على الأقل يتعب المصحح، والمصحح يمر على ثلاث أوراق ولا يكاد يجد ما يحارب به الصفر، وعندما يتذكر أن هذا التعب بدرهمين يتكئ على الكرسي ويصيح “أوووف”…

يبدو أن الوقت غير كاف لمجمل التلاميذ ولذلك لم يغادروا قبل أن يرن الجرس.. يخرجون بوجوه غير راضية “والله تا قسحو معنا أوستاذ” يقول أحدهم… بينما بدأ صاحبنا يوزع ابتساماته على الخارجين، ويترك لك أنت المسموم أن ترتب الأوراق وتجمع توقيعات المترشحين.

أمام الباب شرطة وقوات مساعدة وتلاميذ متحلقون حول أستاذ الرياضيات يعالج معهم الامتحان… أمر بجانبه وأقول له “سأختم بك يوميات حضاي امتحان 3”

ومرة أخرى يضغط صديقي على الدواسة… عااااان

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *