وجهة نظر

الربيع التعليمي بين التآمر النقابي وأخطاء التنسيقيات

لم تعد الاتحادات النقابية والأحزاب السياسية في المغرب مرآة تعكس نبض المجتمع أو تُقدم صورة حقيقية لما يحتاجه الناس في معيشهم اليومي، ولم تعد تعبيرا عن واقع اجتماعي ناتج عن تفاعل طبيعي بين الفرد ومحيطه، بل أضحت هي سبب معاناة العمال والموظفين وكافة شرائح المجتمع، بعد أن نجحت الدولة في إضعاف جميع مؤسسات الوساطة وإنحاف دورها التفاوضي؛ وما فتئت توجه لها الضربات الموجعة كلما حاولت هذه المؤسسات ممارسة دورها في الرقابة المدنية، أو أبدت نوعا من المقاومة السلمية لسياسة الحكومات التي هي أداة من أدوات تنزيل مشروع الدولة، تارة بالتشكيك في نواياها المبيتة من هذه المقاومة، وتارة بضرب صقورها المزعجين وتشويه صورتهم إعلاميا، وتارة ثالثة بتحجيم دورها عبر التحكم القبلي في نتائج الانتخابات…

نجحت الدولة إذاً في جعل المعارضة الصادقة مجرد ذكرى جميلة تملأ أذهان من عايشوا النضال المستقيم. ومع ما آل إليه المشهد السياسي والنقابي من بؤس وانحدار في الفعل النضالي، وتطويع للعمل في صالح توجهات الحكومة الحالية دون الحد الأدنى من المقاومة للقرارات اللاشعبية المتدفقة، تحولت تلك الذكرى الجميلة إلى وجع في دواخل الشرفاء من المناضلين وغُصَّة في حُلوقهم، يتحسرون على الماضي الجميل، زمن القيادات السوية وزمن فخر الانتماء. أضف إلى ذلك الأمراض الداخلية للأحزاب السياسية والنقابات التي تقتات عليها سياسة الدولة في الإضعاف والإنهاك البطيء.

وفي ارتباط بحراك 05 أكتوبر 2023، يكاد المراقبون يتفقون على أن النظام الأساسي الجديد لموظفي التربية والتعليم شكَّل مفتاح الشرارة لانطلاق الحراك التعليمي بالمغرب، لِمَا حمله من تراجعات خطيرة استهدفت كرامة الأستاذ، ومن عقوبات ومهام إضافية لهيئة التدريس دون أية تحفيزات مادية أو اجتماعية أو مهنية ملموسة، فضلا عن فلسفته الجديدة المبنية على مرجعيات قانونية خارج نطاق الوظيفة العمومية. ولمَّا باركت النقابات هذا الإجهاز على المكتسبات ووقَّعت عليه دون تحفظات في اتفاق 14 يناير 2023، انتفض رجال ونساء التعليم من الحسرة وخيبة الأمل، وهرَّبوا ملفهم المطلبي إلى الشارع؛ إذ لم تعد هناك فائدة تُرجى من الحوار الاجتماعي بين الحكومة والنقابات الأليفة، بعد أن صارت جلسات الحوار من أجل السمعة فقط وتجميل صورة رئاسة الحكومة، وبعد أن صار التوجه العام لدى القيادات النقابية الشرسة يَجْنَحُ نحو الهدنة وتجميد الملفات المطلبية في اتفاقات مشبوهة، تنبعث رائحتها الكريهة مع مرور الأيام وإزالة الحُجُبِ عما دار خلف الكواليس في ليالي التوقيع الحالكة. مما عمَّق الفجوة بينها وبين القواعد المناضلة في هيئة التدريس وغيرها من الفئات المتضررة في قطاع التعليم.

بعد سقوط القناع عن النقابات الأكثر تمثيلية، كان لا بد من ظهور إطارات تعليمية جديدة (تنسيقيات) تتزعم النضال وتستجيب لانتظارات الأسرة التعليمية وتعطُّشها إلى قيادات قريبة منها في الميدان، وهيئات مناضلة تحمل مطالبها على مَحمل الجد، وتمارس الضغط على النقابات بأعدادها الغفيرة لتبنِّي ملفها المطلبي. فالطبيعة تأبى الفراغ، كما يقال. لكن السؤال الذي يطرح هنا هو: هل التقطت النقابات الرسائل من هذا المنعطف الكبير في تاريخ الحركة النقابية؟ والجواب: كلا. فعوض أن تتدارك النقابات أخطاءها وتنحاز في نضالها إلى مصالح رجال ونساء التعليم، غلَّبت مصالحها الشخصية وحساباتها الانتخابية، وراحت تجتهد مع الحكومة في رسم الخطط الكفيلة بردع هيئة التدريس، واختبار السيناريوهات الضامنة لفرملة نضال التنسيقيات والتحكم في سرعتها من خلال زرع الشك والفُرقة بين الصفوف، وَدَسِّ عناصرها داخل مكاتب التنسيقيات وطنيا وجهويا ومحليا خدمةً لأجندات خفية وأخرى ظاهرة. وهو ما يعيد إلى السطح سؤال موقع هذه النقابات في تمثيل الأسرة التعليمية.

لقد شكَّلت الاتفاقات بين النقابات الخمس الأكثر تمثيلية والحكومة طيلة سنتين من الجلسات المحاطة بالسرية والتكتم محطاتٍ للتكسب المكشوف والمُقَنَّع على حد سواء، وفرصة للتآمر على مصالح الطبقة العاملة وإبرام ثلاث صفقات كبرى ـ على الأقل ـ مع حكومة “أخنوش” من أجل توقيعها على النظام الأساسي الجديد لموظفي التعليم المجحف:

ـ صفقة أبريل 2022: رفعت فيها الحكومة الدعم المخصص للمركزيات النقابية بنسبة 30 % دفعة واحدة؛

ـ صفقة أبريل 2023: خصصت فيها الحكومة إعانة قدرها 15 مليون درهما لفائدة المركزيات النقابية من ميزانية التسيير الخاصة برئاسة الحكومة، في إطار مشروع القانون المالي لسنة 2023؛

ـ صفقة دجنبر 2023: ستدفع بموجبها الحكومة 20 مليار درهم للنقابات الموقعة، ومازال الكَيْفُ فيها غير معلوم. وهي آخر تجليات هذا الريع النقابي المقيت في عهد “أخنوش” وأضخم صفقاته على الإطلاق.

قُدِّرت صفقة تحرير نظام المآسي إذاً في اتفاق 26 دجنبر 2023، حسب عدد من المواقع والمحللين ـ على رأسهم الدكتور عمر الشرقاوي في فيديو متداول ـ بما يناهز 20 مليار درهم (وليس سنتيما)، ستستفيد منه النقابات الخمس الموقعة فيما بعد؛ فضلا عن حزمة من الامتيازات الأخرى التي عادة ما تتم في شكل إجراءات قانونية تصب في مصلحة هذه النقابات، وتُعينها على تأمين تمثيليتها المزيفة وإطالة عمرها في أي انتخابات سوف تخوضها في قادم السنين. وإذا صحت الأخبار التي تروج في بعض المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن ثَمَّةَ إجراءات كثيرة وعدَتْ بها الحكومة النقابات، تهدف في مجموعها إلى محاصرة الحراك التعليمي وتطويق دينامية الإطارات البديلة (التنسيقيات) باسم القانون حتى لا تَسحب منها شرعية التفاوض في المستقبل بعد أن سحبت منها شرعية الحضور الميداني، نلخصها في أربعة إجراءات كبرى:

أولا ـ عودة الوزارة إلى إشراك النقابات من جديد في تدبير الملفات الاجتماعية الخاصة بالحركة الانتقالية بجميع أشكالها، بعد أن جُرِّد منها الإشراف عليها في عهد الوزير “محمد الوفا” رحمة الله عليه. ومعلوم أن بعض النقابات تستغل هذا المكتسب في تمرير عدد من الانتقالات بناء على منطق المحسوبية (الانتماء النقابي والقرابة والصداقة)، وبعيدا عن منطق الاستحقاق والمعايير الموضوعية المتعارف عليها في الحركة الانتقالية، وتهم الانتقالات بالخصوص التبادلات والملفات الطبية والحالات الاجتماعية؛

ثانيا ـ إقبار قانون النقابات وتأجيل إخراجه إلى أجل غير مسمى، وهو ما سيُبقي الديناصورات النقابية والزعماء الخالدين المخلدين على رأس مركزياتهم النقابية، يحققون مزيدا من المكاسب الشخصية ويسهمون في إضعاف الفعل النقابي الجاد والمسؤول؛

ثالثا ـ مضاعفة عدد المتفرغين النقابيين بدعوى النهوض بالعمل النقابي تأطيرا وتكوينا، وإن كان الهدف منه هو تحويط التنسيقيات في الميدان ومحاولة تضييق الخناق عليها في عملية تأطير الجماهير الأستاذية. الشيء الذي سيعمق الخصاص في عدد الأطر الإدارية والتربوية بتحول عدد منهم إلى موظفين أشباح؛

رابعا ـ إصدار قانون الإضراب في صيغة نُكوصية سَتُكَبِّل حرية الأساتذة، وستفرض عليهم شروطا مجحفة عند رغبتهم في ممارسة حقهم في الإضراب. أحد هذه الشروط المُسَرَّبة أنه سيمنعهم من خوض أي إضراب ما لم يضمنوا مشاركة أكثر من 50 % من الأساتذة داخل مؤسساتهم عن طريق جمع التوقيعات…

مظهر آخر من مظاهر التآمر النقابي على مصالح الشغيلة التعليمية في ارتباط دائما بإدارة الحوار، يتعلق بعدم إنصاف هيئة التدريس في جميع المخرجات التي تهم ملفهم المطلبي. فالأساتذة يكادون يكونون هم الوحيدون الذين يدفعون ثمن إضراباتهم بالاقتطاع المباشر من أجرتهم، ثم عند ظهور نتائج الحوار لا يُرى لها أي أثر عليهم، إلا ما جاء من باب التعميم على جميع موظفي القطاع. فلا يُعقل أن يناضل الأستاذ يوميا في الميدان ويُقتطع له من راتبه، ثم يُكَافَؤُ غيرُه من فئات أخرى تنتمي لقطاع التعليم. فأين العدالة النضالية؟ يتساءل كثير من الأساتذة. إنه منطق معكوس ومقصود في مقاربة الملفات، ويوحي بأن الحكومة والنقابات بمكافأتهما لهيئات أخرى غير هيئة التدريس تتعمدان معاقبة الأساتذة على إخراجهم للملف المطلبي إلى الشارع، وقيادتهم لهذا الحراك الذي وُصف بالربيع التعليمي.

لسنا هنا دعاةً للفئوية في الحوار القطاعي لأنه يتنافى مع أدبيات العمل النقابي وأهدافه. نعلم جيدا أن النقابات ليست تنسيقيات تتبنى ملفا يخص فئة من الفئات، بل تتبنى ملفا مطلبيا يشمل جميع موظفي وزارة التربية الوطنية. غير أن اهتمام النقابات بحل ملفات الفئات الأخرى على حساب هيئة التدريس يجعل فرضية تغليب النقابات للملفات التي لها وزن انتخابي قائمة ويمنحها مصداقية كبرى. أي أن النقابات تتعامل بمنطق نفعي براغماتي في معالجة الإشكالات التعليمية العالقة مع الحكومة، وتعطي الأولوية في حل المشاكل للفئات القليلة التي تجلب لها المقاعد (المناديب) في انتخابات اللجان الثنائية. ذلك أن نحو 1000 صوت من هيئة التدريس يعطي مندوبا واحدا فقط، في حين نجد أن 10 متصرفين و 06,25 متصرفا تربويا (50 متصرف تربوي خُصِّص لهم 08 مناديب) و 03 مهندسين لهم الوزن الانتخابي نفسه لحوالي 1000 أستاذ، إذ يعطون بدورهم مندوبا واحدا للنقابات. وكذلك الشأن في باقي الفئات كالمساعدين التقنيين والممونين…

هذه هي الطريقة التي حصلت بها النقابات العتيدة على شرف “الأكثر تمثيلية” في الانتخابات المهنية السابقة. وهذا تآمر آخر، وحيف آخر أسَّسَ له التقطيع الانتخابي المجالي في الانتخابات المهنية لسنة 2021، حَابَتْ (من المحاباة) به الدولة نقابات الإدارة واستهدفت به النقابات الجادة والمناضلة في الميدان. ولنا عودة إلى هذا الموضوع في مقال خاص.

غير أن الربيع التعليمي لم يُؤتَ فقط من التآمر بين الحكومة والنقابات الموقعة، بل أُوتيَ أكثر من أخطاء التنسيقيات التي قادت معركة الكرامة باقتدار كبير في بداية الحراك وفي وسطه، لكنها تعثرت في الأمتار الأخيرة وخاصة بعد تجميد الحكومة العمل بالنظام الأساسي الجديد في أفق تجويده، والتوصل مع النقابات إلى بعض المكتسبات المادية والمهنية والاجتماعية لرجال ونساء التعليم في اتفاق 26 دجنبر 2023. وقبل الحديث عن هذه الأخطاء الاستراتيجية للتنسيقيات، لا بأس من شهادة صادقة في حقها حتى لا نبخس التنسيقيين المجتهدين حقهم.

   ما يحسب للتنسيقيات:

 أولا ـ القوة التنظيمية والآلية الديمقراطية:

أبانت التنسيقيات التعليمية لهيئة التدريس ـ أخص بالذكر هنا التنسيقية الموحِّدة لهيئة التدريس وأطر الدعم ـ عن مقدرة عظيمة في تنظيم صفوفها وهيكلة نفسها على أسس ديمقراطية صحيحة وشفافة، وبمشاركة وازنة من القواعد الجماهيرية في عملية الانتخاب الحر والسليم، بدءًا باختيار منسقي المؤسسات التعليمية، ومرورا بانتقاء المنسقين على صعيد الأقاليم والجهات، وانتهاء بانتخاب أعضاء المكاتب والمجالس الوطنية. ففي ظرف قياسي يستعصي على أعتد النقابات المناضلة في العالم، استطاعت هذه التنسيقيات هيكلة جميع المحليات والأقاليم والجهات بشكل سَلِس وديمقراطي، وصارت كافة الأقاليم ممثلة في الجهات، وكافة الجهات ممثلة في المكتب الوطني، بل صار لكل مؤسسة بالتراب الوطني في القرية أو المدينة صوتٌ يمثلها ويتكلم باسمها، مع استثناء مؤسسات قليلة جدا ليس بسبب سقوط شفافية التمثيل أو غياب آليات الديمقراطية في الاختيار، ولكن بسبب عدم تطوع أي أستاذ من أساتذتها لتحمل مسؤولية التنسيق المحلي فيها.

     ثانيا ـ التواصل الأفقي والعمودي:

كان من ثمرات الانتظام المجالي لدى التنسيقيات على صعيد الأقاليم والجهات سهولةٌ في التواصل على المستوى الأفقي والعمودي، وسلاسة في مواكبة الأحداث بين القواعد والقيادات المجالية والوطنية؛ وذلك عن طريق إنشاء مجموعات واتساب خاصة بكل مؤسسة وبكل إقليم على حِدة، بحيث لم تعد القواعد الأستاذية تشعر بأنها جزء من الحدث في المشهد التعليمي وحسب (مفعول به)، بل تشعر بأنها جزء من صناعة هذا الحدث والتأثير فيه (فاعل) من خلال الإدلاء بالآراء والمواقف في عدد من القضايا التعليمية التي تهم الملف المطلبي ومخرجات الحوار، كما أصبح بإمكانها توجيه بوصلة النضال بناء على النقاش الدائر داخل مجموعات العالم الافتراضي. ذلك أن جل القرارات المصيرية التي اتخذتها المكاتب الوطنية للتنسيقيات وجل الخطوات النضالية التي أعلنت عنها، هي منبثقة من القواعد في المؤسسات أو في المجال الترابي، وانعكاس طبيعي لنتائج الاستبيانات المحلية والوطنية التي تهم الأشكال النضالية المناسبة لكل مرحلة من عمر الحراك التعليمي.

     ثالثا ـ رفع منسوب الوعي بالملف المطلبي:

من المؤاخذات الكبيرة على النقابات التعليمية بالمغرب ضعف تأطيرها لرجال ونساء التعليم في القضايا التي تلامس الشأن التعليمي أو تلامس حقوقهم وواجباتهم ومطالبهم العادلة. فإذا استثنينا اجتهادات بعض المناضلين الفاعلين بمؤسساتهم أو داخل مجالهم، فإن ما يجمع النقابات التعليمية بالمنخرطين ـ في الغالب ـ هو توزيع بطائق الانخراط في بداية السنة، وتعليق بيانات الإضراب على السبورة النقابية بالمؤسسات التعليمية، وهي بيانات باردة لا يقرأها المنخرطون، فكيف بعموم الأساتذة والأستاذات. لكن مع النضال التنسيقي لمسنا تحولا كبيرا في الثقافة النقابية لدى عموم رجال ونساء التعليم، وتقدُّما ملموسا في مستوى الوعي بالملف المطلبي القطاعي في فترة وجيزة.

يمكن القول إن النقاشات الدائرة على مدى ثلاثة أشهر من عمر المعركة النضالية، سواء في مجموعات الفضاء الافتراضي، أو في الوقفات التي يتم تجسيدها داخل المؤسسات أيام الاثنين والسبت لمدة ساعتين كل أسبوع (رغم عدم قانونيتها من وجهة نظري)، خلقت صحوة نضالية ذكرتنا بأيام الجامعة مع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أوطم). أضف إلى ذلك بيانات التنسيقيات المتلاحقة والتي كشفت ـ في عمومها ـ عن قراءة دقيقة ومتأنِّية لمستجدات الحراك التعليمي لحظة بلحظة، وحققت الحد الأدنى المطلوب لدى هيئة التدريس في عدد من الملفات والقضايا: مسؤولية الدولة والنقابات في أزمة التعليم؛ التنسيقيات المناضلة في الميدان؛ مقتضيات النظام الأساسي؛ الحوار القطاعي ومخرجات الحوار؛ سقف المطالب؛ أشكال النضال؛ أهمية الوحدة…  وهو ما يجعل وصف هذا الحراك ب”الربيع التعليمي” وصفا سليما.

     رابعا ـ الصمود والثبات: سيظل راسخا في الذهن هذا الحماس الكبير في الفعل النضالي الذي عاشته الشغيلة التعليمية مع التنسيقيات، وهذه الحَمِيَّة النضالية المتمثلة في تضامن كافة الفئات المتضررة من المدرسين والمدرسات، المرسَّمين والمتعاقدين، وخوضهم جميع الإضرابات بنسب كبيرة شلت حركة المؤسسات العمومية وفاقت كل التوقعات. يأتيك شعور بأن النظام الأساسي هو الغُدَّة التي أفرزت هرمون النضال في دم رجال ونساء التعليم فجأة، واسْتَثَارَ مَنْ بقي منهم مترددا في بداية الحراك التعليمي قبل أن يلتحق بالركب ولو بشكل متأخر. أقصى ما كانت تحلم به النقابات الأكثر تمثيلية (وعددها خمسة) في دعوتها للإضراب مجتمعةً، هو ألا تنزل نسبة الإضراب في هيئة التدريس عن الثلث (33٪) في يوم واحد مرة في الشهر على أبعد تقدير. لكن من كان يتوقع أن تفوق النسبة 90٪ في سلك التدريس بأقسامه الثلاثة (الابتدائي والإعدادي والتأهيلي)، وأن يصمد الأساتذة في إضراباتهم لثلاثة أو أربعة أيام كل أسبوع لأزيد من 13 أسبوعا تواليا رغم التلويح بسيف الاقتطاعات؟

بكل تجرد، الحفاظ على هذا النَّفَس النضالي العالي في النسب وفي الحضور الميداني إنجاز غير مسبوق في تاريخ الحركة النضالية بالمغرب، ويعد نجاحا باهرا للتنسيقيات في قيادة هذا الحراك التعليمي.

     خامسا ـ الحضور الميداني: لم يكن الفضاء الافتراضي عند المناضلين التنسيقيين هو ساحة المواجهة الوحيدة. فقد عودونا على النزول إلى الميدان مرة كل أسبوع، من خلال تجسيد وقفات احتجاجية حاشدة جهويا وإقليميا أمام المديريات والأكاديميات، رفعوا فيها شعارات قوية ضد وزارة التعليم، وعبَّروا بشكل حضاري عن رفضهم للنظام الأساسي بصفة خاصة وللسياسة التعليمية بصفة عامة، ولمخرجات الحوار بين الحكومة والنقابات التعليمية الموقِّعة؛ فضلا عن المسيرات الوطنية الجماهيرية بشوارع العاصمة الرباط، والاعتصامات أمام مقر وزارة التربية والتعليم. حضور قوي وتنويع في أشكال النضال.

هذا الحضور الوازن للتنسيقيات في الميدان، سيظل لحظة فارقة في تاريخ المنظومة التعليمية بالمغرب لسببين اثنين على الأقل: أولهما أن النزول الكثيف لمختلف الفئات المتضررة بقطاع التعليم في جميع المحطات الميدانية، وفي جميع الأقاليم والجهات بدون استثناء، شكل قوة ضاغطة على وزارة “بنموسى” واضطرها لإعادة مرسوم النظام الأساسي الانفرادي إلى طاولة الحوار مرتين بعد صدوره في الجريدة الرسمية (مرة باسم التجويد، ومرة باسم التجميد)، وفتح النقاش حوله من جديد مع نقابات من خارج التمثيلية ومع التنسيقيات. وثانيهما أنه دحرج النظام الأساسي لموظفي التعليم من مشروع وزاري خاص بوزارة التعليم، إلى مشروع حكومي تدخلت فيه لجنة وزارية مؤلفة من ثلاث وزارات (وزارة التربية والتعليم، ووزارة المالية، ووزارة الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والشغل والكفاءات)، وبإشراف مباشر من رئيس الحكومة.

     سادسا ـ الحضور النسائي: على مدى عقود من الزمن، ظلت النقابات التعليمية تشكو في اجتماعاتها الداخلية من فقر كبير في التمثيلية النسائية داخل مكاتبها المجالية (وصل في بعض المكاتب الجهوية والمحلية إلى غياب تام لعضوية المرأة داخلها)، وفي تجسيد الأشكال النضالية التي تختارها من حين لآخر تعبيرا منها عن رفضها للسياسات الحكومية. ورغم الجهود الحثيثة المبذولة من هذه النقابات في تشجيع نساء التعليم على خلع الكعب العالي وانتعال حذاء النضال ضمانا لمقاربة النوع في هيئاتها المجالية، إلا أنها لم تنجح بالشكل الذي نجح مع التنسيقيات. ذلك أنه مع النضال التنسيقي انخرطت المرأة بشكل عفوي في العمل النضالي، فخاضت الإضرابات وتفاعلت تلقائيا مع الأحداث والمستجدات، بل وتصدرت المشهد في المسيرات والوقفات الاحتجاجية جنبا إلى جنب مع الرجل، ولم تعد مشاركتها تقتصر على التأثيث والتزيين كما كان في السابق.

ولعل الآلية الديمقراطية التي انتهجتها التنسيقيات في اختيار منسقيها (وجزء كبير منهم منسقات)، وفي التواصل مع رجال ونساء التعليم، وتحكم القاعدة (الجماهير) في اتخاذ القرار، والتزام القمة (قيادة المكتب الوطني) بتنفيذه، هي ما حفَّز المرأة في قطاع التعليم على الحضور اللافت في الفعل النضالي، حتى أضحت المرأة التنسيقية عامل قوة يضغط ـ أكثر من الرجل ـ في اتجاه التصعيد لتحقيق المطالب المشروعة. وإذا أردنا تفكيك عوامل نجاح الحراك التعليمي، فسنجد المشاركة الوازنة للأستاذات كانت أهم هذه العوامل.

إن تقييم مشاركة المرأة بهذا الوزن الثقيل في النضال التنسيقي يحتاج إلى أيام دراسية، تستخلص منه النقابات الدروس والعبر في أفق تطوير العمل النقابي عامة، والنهوض بعمل المرأة النقابية خاصة.

     أخطاء التنسيقيات:

     أولا ـ النضال لحظة واحدة:

التنسيقيات برفعها سقف النضال وتخصيصها أربعة أيام للإضراب أسبوعيا، وتجسيدها لوقفات احتجاجية في المجال الترابي، أحرجت النقابات الموقعة إحراجا شديدا أمام مناضليها ومنخرطيها وعموم رجال ونساء التعليم. ولم يجد عدد من القياديين والمسؤولين النقابيين بُدًّا من تقديم استقالاتهم احتجاجا على تآمر نقاباتهم على الشغيلة التعليمية مع الحكومة في اتفاق 14 يناير 2023، ثم اتفاق 26 دجنبر 2023. وهكذا بدت النقابات التعليمية عاجزة عن مواكبة دينامية النضال التنسيقي، مما اضطرها إلى الاقتصار عند نهاية كل أسبوع على إصدار بيانات المساندة والدعم للحراك التعليمي، حتى لا تُتهم بالتواطؤ من جديد وعدم الاصطفاف إلى جانب هيئة التدريس في معركتها من أجل الكرامة. وبقدر ما شكَّل هذا السقف النضالي المرتفع نقطة ضغط كبيرة على النقابات في طاولة الحوار، وأجبرها على العودة للتفاوض الجاد مع الوزارة المعنية، بقدر ما أنهك الأساتذة وشككهم في جدوى النضال إلى ما لا نهاية. فإدمان النضال يعطِّل النضال ويكسر عود الوحدة مهما كانت المطالب عادلة، ومهما كانت المعركة مسنودة بقوة الجماهير.

ومع دخول المعركة النضالية شهرها الثاني، وأمام مراهنة الحكومة على إطالة أمد المعركة واجتهادها في تحويلها إلى معركة بين الأساتذة وأولياء أمور التلاميذ، كان على التنسيقيات تخفيف أيام النضال إلى يوم واحد في الأسبوع حفاظا على الوحدة النضالية، وحفاظا على الدعم المجتمعي للأساتذة في معركتهم ضد النظام الأساسي المشؤوم. لكن مبالغة التنسيقيات في التصعيد بحجة كثرة القواعد، دفع بعض الأساتذة إلى تعليق الإضراب كليا أو جزئيا، وغيَّر قناعة بعضهم الآخر رغم استمرارهم في تجسيد الإضراب حفاظا على الوحدة النضالية أو خوفا من الاتهام بخيانة الحراك وبالتفكير في الخلاص الفردي من قِبَل زملائهم في المؤسسات. ومع مرور الأسابيع، بدأت نسب الاستجابة للإضراب تتراجع، وحماس التنسيقيين يخفت.

إن النضال لا يمكن أن يكون لحظة واحدة، بل هو حركة وسيرورة مستمران في الزمن ويحتاج من المناضلين إلى النَّفَس الطويل وليس إلى الحماس الشديد قصير المدى. كما أن تخفيف الإضراب لا يعني بالضرورة فشل المضربين في تحقيق أهدافهم. فقد يكون تغييرا ناجحا في استراتيجية النضال بناء على متغيرات ومعطيات موضوعية لا يمكن للقيادات المناضلة تجاهلها.

     ثانيا ـ تضخم الأنا والانفصال عن الواقع:

سبق أن أشرنا إلى أن فترة النضال التنسيقي فترة حماس شديد أرهق النقابات الموقِّعة من ناحيتين: السرعة في الهيكلة والتنظيم، والقدرة الفائقة على تعبئة الجماهير. لكن ما يلاحظ على التنسيقيات هو أنها نجحت إلى حد بعيد في التعريف بالملف المطلبي الذي صاغته الجماهير الأستاذية، بيد أنها تجاهلت ـ عن قصد ـ إمكانات تحقيق المطالب أثناء التفاوض في ظل الظرفية الاقتصادية للبلاد، وفي ظل التوازنات الإقليمية والدولية للدولة المغربية. ولذلك تراها تناضل بدون سقف مطلبي، أي بدون فرز بين الحد الأقصى والحد الأدنى للمطالب الأساسية التي لا يجب التنازل عنها كشرط أساسي للعودة إلى الأقسام. وتراها أيضا تناضل بمعزل عن الواقع، أي بدون استحضار الشروط الموضوعية لدى الحكومة (الظرفية الاقتصادية وتوجهات الدولة الكبرى) ولدى النقابات الأكثر تمثيلية (شروط التفاوض وحدود التدخل)، ولدى الأسر المغربية (هاجس السنة البيضاء). وتراها تتوشح السواد في نظرتها إلى مستقبل التعليم، فترفض الاتفاقات بين الحكومة والنقابات بشكل مسبق، حتى قبل الاستماع إلى العرض الحكومي، كما لو كان بعض القياديين في التنسيقيات يخافون أن تُحل الأزمة، فيفقدون بريق الصورة في وسائل الإعلام المسلطة عليهم في كثير من المحطات النضالية الناجحة.

إن اشتراط التنسيقيات على الحكومة الاستجابة لجميع المطالب قبل العودة إلى الأقسام، كان خطأ جسيما وشرطا تعجيزيا يُعَقِّد المفاوضات ويدخلها في خانة المستحيل مهما اختلفنا مع حكومة “أخنوش”. فمتى كانت المطالب تتحقق مئة بالمئة؟ والواقع أن الملف المطلبي عند التنسيقيات تم حشوه بالكثير من المطالب الثانوية الصغيرة، ومَرَدُّ ذلك إلى كون هذه المطالب فئوية في الأصل، صاغتها الفئات المتضررة في هيئة التدريس كلُّ فئة على حِدَة، قبل تجميعها في ملف واحد. وثالثة الأثافي، أن كثيرا من الخرجات غير المحسوبة لبعض قيادييها البارزين تُشعرك بأن التنسيقيات باتت تعاني من الإفراط في تمجيد الذات وتضخم الأنا، مع الرغبة في تجاوز النقابات من خلال خطاب التخوين والتشكيك في كل النوايا الصادقة للمناضلين الشرفاء، والدخول معهم في منازعات جدلية لا طائل منها سوى تكريس الفُرقة. فهل ستتخلى الحكومة عن النقابات المنتخبة دستوريا، لِتُحَاوِر تنسيقيات تعلم قبل غيرها أنها مؤسسات غير قانونية، بدعوى أنها القوة الأولى في الميدان؟ وإلى متى يتغاضى التنسيقيون عن دور النظام الأساسي في توحيد هيئة التدريس خلف التنسيقيات؟

على التنسيقيات أن تؤمن بأنها شريك أساسي للنقابات في النضال، لكن لا يمكن أن تحل محلها في التفاوض مع الحكومة لأنها مؤسسات غير دستورية. وعليها أن تعترف بأن الذي أخرج رجال ونساء التعليم ووَحَّدَ صفوفهم هو صدور النظام الأساسي المجحف ولم تخرجهم التنسيقيات، بدليل وجود تنسيقيتين كبيرتين (التنسيقية الوطنية لأساتذة التعليم الثانوي التأهيلي؛ الإطارات التنسيقية الفئوية التي توحدت تحت اسم: “التنسيق الوطني لقطاع التعليم”) من أصل ثلاث تنسيقيات قبل انطلاق حراك 05 أكتوبر 2023 بوقت طويل. ما يجعلنا ننتصر إلى الرأي القائل بأن التنسيقيات هي هيئات تنظيم وتعبئة بامتياز، ولم تصل بعد إلى أن تكون هيئات تفاوض وحوار مع المخزن.

     ثالثا ـ التصعيد أثناء الحوار:

في كل حراك اجتماعي يُسلط الضوء على مدى استجابة الحكومات إلى صوت الشعب قصد احتواء الأزمات وحل المشاكل؛ ولا بديل في ذلك عن الحوار والتفاوض مع الأطراف المعنية لمعالجة الإشكالات واقتراح الحلول والبدائل. وحين تدعو هذه الحكومة ـ مهما اختلفنا معها ـ مؤسسات الوساطة إلى الحوار فهو مؤشر على احترامها للاحتجاج السلمي، واعتراف منها للعمال والموظفين وعموم المواطنين بممارسة حقوقهم المدنية. وحين تستجيب الحكومة لجزء من مطالبهم المشروعة، سيُرفع عنها المَلام أمام الرأي العام وأمام عدد من المحتجين أنفسهم. واللبيب هو من يلتقط الإشارة في حينها، ويخرج من كل معركة مرفوع الرأس ولو بتحصيل مكاسب قليلة.

وعلاقة بالربيع التعليمي، وبعد تجميد النظام الأساسي المشؤوم في اتفاق 27 نونبر 2023، وعدت الحكومة المغربية النقابات المفاوضة بتجويد النظام الأساسي، وتحسين الأوضاع المادية لهيئة التدريس. وبالفعل كثَّفت الحكومة اجتماعاتها مع كافة النقابات والفاعلين في الميدان، واشتغلت أيام السبت والأحد من أجل حلحلة ملف الأزمة التي عمَّرت قرابة ثلاثة أشهر، أعقبها اتفاق 26 دجنبر 2023 المعلوم. غير أن التنسيقيات لم تكن في مستوى اللحظة، أو على الأقل لم تقرأ المتغيرات الراهنة قراءة صحيحة حين تشبثت بالتصعيد في أسبوع التفاوض، والذي صادف الأسبوع الأخير من دجنبر 2023. فمن غير المعقول في أدبيات العمل النضالي المسؤول أن تمد الحكومة يد الحوار إلى الفاعل المدني في الميدان (التنسيقيات)، ويتمسك هذا الفاعل المدني بالتصعيد حتى ولو كان هو الطرف الأقوى في المعادلة. فالأزمات والمشاكل الاجتماعية في الأول والأخير لن تُحل إلا عن طريق الحوار بين مؤسسات الوساطة والحكومة. مما قوَّى جانب النقابات والحكومة رغم تآمرهما البيِّن في قبل انطلاق الحراك على الشغيلة التعليمية، وتسبب في شقِّ صف القواعد الأستاذية التي طالبت بتعليق الإضراب لأسبوع أو أسبوعين في انتظار مخرجات الحوار، مع إمكانية العودة إلى الشارع في حالة عدم الاستجابة لمطالب الأسرة التعليمية. وهو ما كان سيضع الحكومة والنقابات تحت ضغط من نوع آخر، وينقل المعركة من مدى التزام الحكومة بالحوار الجاد مع النقابات، إلى مدى التزامها بتعهداتها في مخرجات الحوار أمام هيئة التدريس والرأي العام. ولا شك أن الحكومة على علم بأن أي إخلال منها بالتزاماتها في الاتفاقات مع النقابات، سيكلفها سنة بيضاء وهذا ما كانت تخشاه.

هكذا ضيعت التنسيقيات على نفسها فرصة كبيرة في الحفاظ على قوتها في الساحة التعليمية، وفتَّتَتْ اللحمة الأستاذية القوية بقرار غير محسوب من قياداتها الوطنية، كان من نتائجه أن التحق عدد كبير من الأساتذة بحجرات الدرس رغم عشرات البيانات التي تستجديهم من أجل الاستمرار في خوض الإضراب، بعد أن تأكد لأغلبهم أن ثمة تيار راديكالي متطرف هو الذي يتحكم في توجهات التنسيقيات (خاصة في “التنسيق الوطني للتعليم”) ويمسك بزمام القرار في المجلس الوطني. ولعل دعوة التنسيقيات إلى مسيرتين في بلاغاتها بتاريخ 21 دجنبر 2023 خير دليل على تفتت تلك اللحمة، وسط اتهامات بالخيانة وتراشق بين أعضاء التنسيقيات. فبعد أن كان مقررا تجسيد مسيرة ممركزة بالرباط دعت لها كل من التنسيقية الموحِّدة لهيئة التدريس وأطر الدعم، والتنسيقية الوطنية لأساتذة التعليم الثانوي التأهيلي؛ خرج “التنسيق الوطني للتعليم” ببيان في آخر لحظة يدعو فيه قواعده إلى تجسيد المسيرة جهويا أو إقليميا بإيعاز من هذا التيار. وهو ما حَمَلَ ممثلي التنسيقيتين الْأُخْرَيَيْنِ الذين تم استبعادهم من طاولة الحوار مع الحكومة (وانتقالها من لاعب أساسي يمكنه انتزاع المكاسب إلى متفرج على ما تتفق عليه النقابات واللجنة الحكومية) على اتهام نقابة fne بإدارة ظهرها للقواعد الأستاذية، واستخدام الدولة لها في نسف التنسيقيات من الداخل وكسر النضال الوحدوي.

هذا وتجدر الإشارة إلى أنه راجت عدة أوديوهات زادت من تعميق الانقسام في المواقف، ادعى فيها أعضاء بالمجلس الوطني لإحدى التنسيقيات أن عملية تزوير فوقية حصلت عند تفريغ نتائج التصويت الوطني في استبيان 27 دجنبر 2023، فجاءت الأصوات الداعية إلى الاستمرار في التصعيد بالمجلس الوطني صادمة لإرادة الجماهير ومُعَاكِسَةً تماما لأصوات القواعد الداعية ـ بما يشبه الإجماع ـ لتعليق جميع الأشكال النضالية بكافة الجهات، وذلك خدمة لأجندة هذا التيار الراديكالي.

     رابعا ـ عدم الوقوف على الحياد من كافة الإطارات المناضلة:

منذ انطلاق الحراك التعليمي، وقادة التنسيقيات في تدخلاتهم وتصريحاتهم يشددون على مبدأ التحرر من عقدة الإيديولوجيا أو الارتهان السياسي للأحزاب، وعلى مبدأ الاستقلالية في اتخاذ القرار درءًا لكل اتهام لها بالتبعية من لدن الخصوم والمتربصين. وإذا جاءت انطلاقة التنسيقيات الثلاث (التنسيقية الوطنية لأساتذة التعليم الثانوي التأهيلي؛ التنسيقية الموحِّدة لهيئة التدريس وأطر الدعم؛ التنسيق الوطني لقطاع التعليم) صحيحة في قيادة الحراك التعليمي باقتدار، فإن الأحداث والوقائع المتتالية سرعان ما كشفت عن مُحَاباتها الكبيرة لتيار النهج الديمقراطي من خلال التنسيق مع نقابة fne دون غيرها من النقابات المناضلة في الميدان، وعلى رأسها “الجامعة الوطنية لموظفي التعليم” التابعة للاتحاد الوطني للشغل بالمغرب (untm) التي دعمت الحراك التعليمي منذ 05 أكتوبر 2023 ميدانيا وإعلاميا وبرلمانيا (مجلس المستشارين)؛ ومن خلال جلوسها مع حزب الاشتراكي الموحد بزعامة “نبيلة منيب” في 09 يناير 2024 للتوسط لها في قضية إلغاء التوقيفات التي طالت الأساتذة المضربين عن العمل، رغم أن أحزابا في المعارضة ترافعت عن الحراك التعليمي داخل قبة البرلمان وخارجها طيلة عمر الحراك. ما يؤكد مرة أخرى أن الإقصاء مقصود لأسباب سياسية وتعصبية ضيقة، وأن القرارات داخل التنسيقيات يسيطر عليها تيار بعينه، وإنْ ادَّعت التحرر والانعتاق من أي خلفية إيديولوجية.

إن وضع التنسيقيات لبيضها في سلة نقابة واحدة، وعدم وقوفها على مسافة واحدة من جميع النقابات المناضلة في الميدان، كان خطأ استراتيجيا لأنها لم تضع في الحسبان إمكانية تطويع المخزن لنقابة fne وانقلابها على التنسيقيات في أي لحظة، كما حصل من قبل مع تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد. وستتجرع التنسيقيات مرارة التنسيق الأحادي مع fne بعد تعليقها كافة الأشكال الاحتجاجية في لحظة فارقة من عمر الحراك والتحاقها بالحوار القطاعي، والذي تُوِّج بتوقيعها على محضر اتفاق 26 دجنبر 2023 رفقة باقي النقابات الأكثر تمثيلية. ما جعل التنسيقيات حائرة بين التراجع وحماية انتصاراتها التي ستظل تفخر بها، وبين الاندفاع ومواصلة الاحتجاج رغم يقينها بالوصول إلى الباب المسدود.

     خامسا ـ تمديد الإضراب بعد إجراء التوقيف:

بعد نجاح الدولة في عزل التنسيقيات عن النقابات الأكثر تمثيلية، حيث لاحظ الجميع عدم إصدار أي من هذه النقابات لبيانات المساندة (الوطنية) في إضرابات الأسبوعين الأخيرين من دجنبر 2023، كان من المتوقع جدا أن تلعب الدولة آخر أوراقها لكبح جِماح الحراك. وبالفعل، فقد تفاجأ التنسيقيون بلائحة أولية للتوقيف المؤقت عن العمل في حق بضعة أساتذة بمديريتي المحمدية ومديونة. وحتى تعبر التنسيقيات عن تضامنها المطلق مع الأساتذة الموقوفين، أعلنت في خطوة تصعيدية متهورة تمديدها للإضراب يوم السبت 30 دجنبر 2023، بعد أن كان البرنامج النضالي يقضي بخوض الإضراب لأربعة أيام متتالية، تبتدئ يوم الثلاثاء 26 دجنبر 2023 وتنتهي يوم الجمعة 29 دجنبر 2023. كان من تبعات هذا التمديد أن جميع المديريات الإقليمية بالمملكة اتخذت قرارات مماثلة بالتوقيف عن العمل. هكذا أكلت التنسيقيات أبناءها من فرط محبتها لهم، وقدَّمت حوالي 500 أستاذ وأستاذة قرابين إلى مذابح المخزن. وهكذا نجحت الوزارة في تحويل مجرى المعركة من المطالبة الجماهيرية بسحب النظام الأساسي إلى مجرد المطالبة بإلغاء إجراء التوقيفات التعسفية في حق أساتذة مارسوا حقهم الطبيعي في الإضراب. وهو ما يفسر الانقلاب المفاجئ في مواقف التنسيقيات من النقابات الموقعة، وأصبحت تستعطفها من أجل التدخل لحماية التنسيقيين الموقوفين، بعد أن كان التنسيق مع النقابات في مرحلة من مراحل قوة التنسيقيات خطا أحمر، وعارا يجب أن يمسح من أرض النضال.

لقد أبانت التنسيقيات مرة أخرى عن قِصَرِ نظر في تقدير المخاطر المُحْدِقة بمناضليها، وفي قراءة الواقع بشكل يجنبها التضحية المجانية بمزيد من أبنائها. فالنجاح في المعارك لا يقاس دائما بالحصول على الغنائم والمكتسبات. ففي مرحلة الجَزْر والانحسار النضالي، مجرد العودة بالجنود سالمين إلى قواعدهم يعد نجاحا للقادة الواقعيين. أما في مرحلة كسر العظام، فأنْ تخرج من المعركة بِنُدُوبٍ خفيفة خير من فَقْدِ الأرواح؛ وأنْ تقرر الانسحاب بإرادتك رغم بعض الخسائر، خير من أن يحملك خصومك على المغادرة ويفرضون عليك شروطا تعسفية.

* * * * * * * *

وكما أشرنا في بداية هذا المقال، نعود للتأكيد في آخره أن هذه الانتفاضة ذات هوية تعليمية خالصة، روادها نساء ورجال التعليم، تبنت مطالبها التنسيقيات بعد تآمر النقابات الموقعة عليهم، فأجادت أدوار النضال شكلا ومضمونا، وأبدعت في البيان والميدان، لكنها أخطأت التقدير في قراءة الوقائع والمعطيات. وككل نضال لا بد من أخطاء ولا بد من ضريبة، وعلى التنسيقيات أخذ الدروس والعبر منها إن هي أرادت أن تكون ثورة تصحيحية لهذا العمل النبيل، لا مجرد حركات احتجاجية عابرة في المشهد النقابي.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *