وجهة نظر

تحرير الشعب من التحكم سابق عن الاختيار الأرشد

يبدو أن ساحة التدافع السياسي لم تكن أطرافها أوضح وأجلى من اليوم، حيث تتجه نحو فسطاطين أساسيين لا يكاد يكون لهما ثالث، فسطاط أحرار المغرب وأصلاء المغرب وأحفاد جيل المقاومة، وفسطاط عبيد التحكم وأزلام التسلط وورثة أمثال الكلاوي ممن ألفوا الريع والأخذ بلا جهد يذكر ولا حساب.

لقد أفلح المخزن أو الدولة العميقة أو التحكم أو قل ما شئت من أمثال هذه الكلمات التي توصل المعنى ذاته، ولفترة طويلة في إسقاط الفرقاء والفاعلين في المجال السياسي في فخ رهيب وشراك محكم الحبال لا تكاد تنجو منه ضحاياه، قوامه لعبة قديمة يتقنها المستبدون من زمان سحيق، ويجددون إخراجها في كل حين بلون جديد، وهي لعبة فرق تسد، وشتت الجموع تكن أنت السيد الحكم، لعبة الأسد والثيران حيث يغدو الثور عدوا للثور ويظفر الأسد مع قوته بالأمان وأكل فريسته في كل يوم في هدوء وهناء بل ومعهما بلادة فرح واستبشار بقية الثيران.

فهذا الشيوعي خطر على الاسلام والمسلمين ويهدد القيم بالبوار والثوابت بالاندثار والأصول بالاجتثاث، وهذا الاسلامي خطر على التقدم والحداثة ونذير شؤم يهدد البلاد ومصالح العباد بالتطرف والرجعية والظلام، وهكذا مع باقي التيارات، حيث جعلت لكل تيار فزاعة مخيفة تجعل الناس يفضلون ما هم فيه ألف مرة عن أن يؤول الأمر إلى هذا أو ذاك.

وقد كان الخوف في مرحلة على الأمن والاستقرار، حيث لم يكن من أمل عند بعض أطراف المعارضة إلا التغيير بالقوة والامساك بالسلطة لمباشرة الاصلاح وتنزيل المشروع المجتمعي المنشود، وقد انكشفت بحمد الله هذه الغمة، غمة الصراع على السلطة، وحفظ الله بلادنا من شر الانقلابات وفهم الجميع وجوب التعايش وفتح قنوات الاصلاح والتدرج في التنزيل، وهكذا تم ما تيسر من انصاف ومصالحة مع جزء من النخبة الراغبة في التغيير وتم شيء من الانتقال الديموقراطي وجاء دستور 2011، وفي كل ذلك ومعه وبعده تقع ارتدادات بين الحين والآخر من التحكم تريد العودة الى الماضي. فكان الامر في السابق بحجة استقرار السلطة والأمن وأما الآن لما زالت تلك التهديدات لم يعد من مبرر سوى التسلط والنهب.

ولعلنا اليوم من خلال مؤشرات عديدة فصل فيها غير واحد من المحللين نعيش ارهاصات ردة أخرى من ارتدادات التحكم، إذا لم تكن ثمة يقظة وتماسك وصمود لرفض النكوص والردة الديموقراطية. ولا يمكن أن نعيش حياتنا كلها نحن المغاربة مع حكاية الانتقال الديموقراطي وإلى ما لا نهاية، فقد بلغ الشعب رشده وآن له أن يختار مثله مثل شعوب الدنيا المتحضرة، والمعركة اليوم هي معركة الحرية قبل كل شيء، الحرية من التحكم وليس شيئا آخر من تفاصيل البرامج والرؤى والاختيارات المجتمعية، لقد ساد قبيل الاستقلال نقاش بين تيار مقاومة الاستعمار وبين أقلية مشغولة ببرامج الاصلاح وتحقيق مكاسب جزئية في التدافع مع المستعمر، وانتصر تيار المقاومة وظهر صواب اختياره.

والمفروض الآن ترك اختلاف الرؤى والبرامج جانبا، وتوحيد الجهود للتحرر من التحكم أولا، فقديما أغار بعض العرب على قبيلة عبس وأستا قوا إبلهم فقال أبو عنترة لابنه: كُرّ يا عنتر فقال : العبدُ لا يحسن الكَرّ إنّما يحسنُ الحِلاب والصّر، فقال كُرّ وأنت حُر، فقاتل قتالاً شديداً حتى هزم القوم واستنقذ الإبل .

ومنذ تلك اللحظة … دخل عنترة التاريخ من أوسع أبوابه … 
فمن الحلاب والصر إلى الكر والفر 
ومن ذل العبودية إلى فضاء الحرية، فلا فعل حقيقي ولا إبداع في إيجاد الحلول لقضايا الوطن والمواطنين بغير حرية من التحكم كيفما كان شأنه.

المرحلة الآن مرحلة تسوية الملعب وإزالة حفره وألغامه والأشياء الطفيلية الزائدة فيه والتي تعرقل تحرك اللاعبين وفي هذا المستوى تنزل كل الفرق المتبارية ومعهم الجمهور المتعاطف للقيام بمهمة واحدة ووحيدة وهي جعل الملعب مناسبا ومهيئا لإجراء مباريات طبيعية وعادية تتوفر فيها الشروط المطلوبة، وفق قواعد لعب معروفة ومبادئ مشتركة تتوحد بها ومعها الجهود المبذولة وهي هنا الدفاع عن القرار الحزبي المستقل، واحترام الإرادة الشعبية، وتعزيز البناء الديمقراطي، واحترام صلاحيات المؤسسات المنتخبة، والتأويل الديمقراطي للدستور. والبداية بدستور 2011.

ولا معنى للتنازب والاختلاف قبل الانتهاء من هذه المهمة الحيوية والمصيرية وإلا تعطلت المباراة السياسية من أصلها، وبقي التحكم يصول ويجول وحده في الساحة ينتج نسخا مكرورة ومتخلفة من الفساد والاستبداد.
هكذا تحدث رئيس الحكومة في بداية ولايته في مقابلة مع قناة الجزيرة، ويبدو أن خمس سنوات لم تكن كافية للمهمة باعتبار ما اكتشف في الملعب من أعطاب لا تزال بحاجة الى تضافر جهود الجميع من علمانيين وشيوعيين واسلاميين وسلفيين وكل من يضع نفسه في خانة التحرر أولا قبل الفعل والابداع، وقبل تنافس الرؤى والبرامج والاختيارات المجتمعية.

ومن خصوصيات المغرب أن التقابل بين الفسطاطين والتيارين ليس نهائيا ولا جبريا بخصوص الانضمام الى كليهمامن أعلى هرم السلطة الى آخر فرد من أفراد الشعب، فقد حدث قبيل فجر استقلالنا أن انضم إلى تيار مقاومة التحكم الذي كانت تقوده فرنسا يومئذ، محمد الخامس رحمه الله ومعه الوطنيون الشرفاء من علماء وسياسيين وأغنياء وفقراء وبعض من كان في السلطة يخفي تعاطفه ومساعداته وأحرار في البوادي والمدن، وكان في التيار الآخر قواد وبشوات وأشباه علماء ورجال أعمال وأعيان وعملاء هنا وهناك.

نحن بحاجة الى ثورة ثانية وجميل أن تكون ثورة ملك وشعب،لإعطاء انطلاقة قوية لقطار الوطن، نزيل أمام عجلاته كل المعوقات والعراقيل ونطلق سراحه من مختلف أشكال التحكم ويأتي بعد دستور 2011 حسن تأويل الدستور وحسن تنزيله، فالحياد بين الفسطاطين غير مناسب وغير معقول، ومصلحة الوطن مع تحرير إرادة الشعب وليس أبدا مع تكبيلها، فالحرية شرط ضروري للإقلاع والابداع.