وجهة نظر

أعيادنا الربانية.. على أبواب عيد الأضحى

الخطبة الأولى:

الحمد الذي جعل أعيادنا رمزًا لعبادته وطاعته، ومواسمَ للفرح والسرور بالتَّقرُّب إليهِ سبحانه، وفُرَصًا مُتَجدّدة لفعل الخير والتّنافُس للإحسان إلى الخلق. نَحمده سبحانه وتعالى كما أمَر. والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين وقُدوة للمؤمنين، وقائد الغرِّ الْمُحجَّلِين إلى جِنان ربِّ العالمين. وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة المؤمنون مِنْ عجيب ما أكرم الله به هذه الأمة أعيادُها الربَّانية الْمُتنوِّعةُ والمتجددة، أعيادٌ مرتبطةٌ بعبادة الله والتَّقرُّب إليه، وذلكم لأنَّ سعادةَ الْمُؤمن وهَمُّه طاعةَ ربِّه جلّ جلاله. قال تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» البينة 5

العيد الأول:

أما العيد الأول فعيدٌ يوْمِيٌّ يتوجّهُ المؤمنون فيه إلى ربهم سبحانه مُكَبِّرِين راكعين ساجدين. لا يُلهِيهم عن صَلاتِهم شيء، ولا يُشْغِلُهم عنها شاغِل. قال تعالى: «رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ» النور 37. 38

العيد الثاني:

والعيدُ الثاني أُسْبوعِيّ كلَّ يومِ جمعة. يتمحور بدوره على الصلاة في تجمُّع مَهيب للمُؤمنين حول كلمة الله وفي بيوت الله عز وجل وعلى تعلُّم دينِه وتلقِّي ما وجَّه إليه سبحانه. عيدٌ ما أذن الله فيه للمؤمنين بالتّخلُّف عنه إلا للمريض وللنساء… فقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» الجمعة9. وفي موطأ الأمام مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ هَذَا يَوْمَ عِيدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ»

العيد الثالث:

أما الثالث فهو عيد الفطر فرحًا بصيام رمضان، فرحا بمغفرة الله تعالى وتوفيقه.

العيد الرابع:

أما الرابع فهو عيدُ الأضحى مع أداءِ مناسك الحج. ففي سنن أبي داود عن أنَسٍ قال: “قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الـمَدينةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلعَبُونَ فيهِمَا فقال: مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ قالُوا: كُنّا نَلْعَبُ فِيهِمَا في الْجَاهِليّةِ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله قَدْ أبْدَلَكُم بِهِمَا خَيْراً مِنْهُمَا: يَوْمَ الأضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ”.

تِلكم هي الأعيادُ التي شرعها الله لعباده، أعيادٌ تتمحور حول عبادةِ الله وطاعته، وزِينتُها التكبير والذِّكْرُ والدُّعاءُ.
والغريب عن المسلم أيها الأحبة احتفالُه بأعيادٍ ما أنزل الله بها من سلطان كعيد رأس السنة أو عيد الخمور وهَلمَّ جرًّا… والأغربُ من هذا احتفاله وفق ما يُغضب الله تعالى.

دروس من وحي عيد الأضحى:

وهاهنا، بمناسبة قدوم عيد الأضحى، دروسٌ وجَبَ نقْشُها في العقول والقلوب وتَرْجَمَتُها إلى واقعٍ مَعِيش.

أولها: العيد فُرَصَةٌ لِتجديد العهْد مع الله تعالى، عهْدِ الاتِّباع والانْقياد وإِسْلام الأمر له سبحانه. ففيه نُردِّد أنَ الله أكبر سبحانه من كل شيء؛ من الدنيا، من الأهواء، من الأموال، من الأشخاص… وفيه نردّد أن الذي يستحق العبادةَ وحده هو الله جل جلاله. قال تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ، وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ» يس 60. 61.
عَهْد يتجدد يوميا وفي كل صلاة… تأمَّلْ ما ينطق به المؤمن مخاطبا ربه: «إياك نعبد وإياك نستعين»، ويتَجَدَّدُ كلَّ عيد فطر بالتوجه إلى الله تعالى بالتكبير والتسبيح والتعظيم، ويتجدد كل عيد أضحى بالتلبية والأضاحي…. مستحضرا قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» الأنعام 162. 163. إنَّه العهدُ على الطاعة والعبادة… عهدٌ بإيتاء الواجبات واجتناب المحرمات والسعيِ في خدمة الدين وإصلاح الحياة به…

ثانيها: سلامةُ القلبِ من المعاصي والشرور والآثام والأحقاد والأضغان. فهذه السلامةُ كانت مِيزةَ الخَليل عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام. وشهد له رب العزة بذلك قائلا سبحانه: «وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ، إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيم» الصافات 83. 84
وللسلامةِ معاني كثيرة وعلى رأس ذلك السلامةُ من الشرك بالله والتوجّه لغيره سبحانه؟ وقد كان إبراهيم فِعلا سيّد الموحِّدِين وإمام المخلصين. كما أن من معاني السلامة سلامةُ القلب من الأحقاد والضغائن نحو الناس مُحْسِنهم ومُسِيئِهم.

ثالثها: العيد أيها الإخوة عيد التضحية والفداء… التضحيةُ بالغالي والنفيس فيما يحبه الله ويرضاه… فحياة الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كانت تضحيةً كلُّها، وكانت فداءً كلُّها، وكانت بيْعةً حقيقيَّة للسّير وِفْق مُراد الله…

فقد جاد بنفسه لله وعرَّضَها للحرق بالنار لوجه الله الكريم… فأكرمه الله بالنجاة والنصر… «قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ. وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ» الأنبياء من 67 إلى 72

واستجاب لأمْرِ الله فذهب بابنه وزوجِه إلى أرض فلاة قَفْر ما فيها بشرٌ ولا طيْرٌ ولا ماء… فاستجاب ولم يتردد فأكرمه الله، فبدَّل وحشتَهم أُنْسا، وعُزْلَتَهُم اجْتِماعًا، وفَقْرَهُم غِنًى، وعَطَشَهُمْ رَيّاً زَمْزَمًا، «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء» إبراهيم من 35 إلى 38

وما وقَفَ الأمْرُ عند هذا الحدِّ، بل عرفتِ البَشَرِيَّةُ قِصّة الفداء العظيم من إبراهيم بابنِه لَمَّا أُمِر بذبحه… فكان ذلك رمزا للتضحية الكبيرة والفداءِ الأعظم لله… فكانت البشرى الربّانية «وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.» الصافات من 104 إلى 111

إن أعظم ما نُحييه في عيد الأضحى أيها الإخوة هو معنى التضحية هذا لله ولوجهه سبحانه… إن من رحمة الله أن الله تعالى ما طلبَ منا الآن أن نُضحِّي بأنفسنا ولا أبنائنا، ولا أن نُلقيَ بِذواتنا في النار وأن نُعرِّضَها للتَّلَف… ولو أمر الله بذلك لكان علينا أن نفعل.. وإنَّمَا أمَرنا سبحانه وتعالى أن نُضحِّي بكَسلنا وخُمُولِنا وأهوائِنا وأن نُلقي خلْف ظهورنا ما حرَّمه الله من الربا والزنا والفواحش والتبرج والأحقاد… وأن ننطلق عبادا لله خادمين لدينه ومعزين لنبيه…

إسمع أخي المؤمن إلى ما قاله النبي عليه الصلاة السلام لما حاول المشركون تطويعَه لما يريدون وضغطوا عليه لِيتركَ دعوتَه ويدَعَهُم وما يعبدون: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته»

وعلى هذا كان أصحابه فأعزَّهُم الله وبارك في أعمارهم وأبنائهم. ذكَر الحَافظ ابن حجر في ترجمة (عبد اللّه بن حذافة السهمي) أحد الصحابة أنه أسَرَته الرّوم فجَاءُوا به إلى مَلِكِهم فقال له: تنَصَّر وأنا أُشْرِكُك في مُلْكي وأُزَوِّجَك ابنَتِي، فقال له: لو أعْطَيْتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرْجِعَ عن دين محمد صلى اللّه عليه وسلم طرْفَةَ عيْن ما فَعلْتُ، فقال: إذاً أقْتُلُك، فقال: أنت وذَاك، قال: فأمر به فصُلِب، وأمر الرُّماة فرمَوْهُ قريباً مِن يَديْه ورِجليْه، وهو يَعرِضُ عليْه دينَ النَّصرانية فيَأْبَى، ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بقِدر من نحاس، فأحميت وجاء بأسير من المسلمين، فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يُلْقى فيها فرُفِع في البَكَرَة لِيُلْقى فِيها، فبَكَى، فطَمع فيه ودَعاه، فقال: إنِّي إنَّما بكيْتُ لأنَّ نفسي إنَّما هِي نفس واحدة تُلقى في هذه القِدر السّاعة في اللّه، فأحبَبْتُ أن يكون لي بِعَدَدِ كلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسدي نفسٌ تُعَذَّب هذا العذاب في اللّه. وفِي بعض الروايات: أنه سجنَه ومَنَعَ مِنْهُ الطعام والشراب أيّاماً، ثم أرْسَل إليه بِخمْر ولَحْم خنزير، فلم يقرَبْه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنه قد حلَّ لي، ولكن لم أكن لأَشْتُمك بِي، فقال له الملك: فقبِّلْ رأسي، وأنا أطْلقك، فقال: وتُطلق معي جميع أُسَارى الْمُسلِمين، قال: نعم، فقبّل رأسه، فأطلقه، وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلمّا رجع قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: حقٌّ على كلِّ مُسلِم أن يُقبِّل رأس عبد اللّه بن حُذَافَة وأنا أبْدَأُ، فقام فقبَّل رأسهُ رضي اللّه عنهما.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين….

رابعها: وأعيادنا فرص لتجديد التواصل والتراحم بين الأرحام. فذلكم هو طريق رحمة الله وعونه وبركاته. ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنّ اللّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ. حَتّىَ إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: نَعَمْ. أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَىَ. قَالَ: فَذَاكِ لَكِ» ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمّهُمْ وَأَعْمَىَ أَبْصَارَهُمْ. أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)»

أيها الإخوة صِلوا أرحامكم وأصلحوا ذاتَ بَيْنِكُم وتَذَكَّروا اليومَ الذي سنقف فيه بين يَدَيِ اللهَ تعالى. بارك الله لي ولكم في عيدنا وتقبل الله منا صالح الأعمال….