وجهة نظر

قول في التحكم

يعتري المغرب اليوم ضباب كثيف و تغطي سماءه سحب ملبدة داكنة ، لكن تتخللها أشعة بارقة واعدة ، تغيب أحيانا ، لدرجة يكاد المرء يظن أنها أفلت من غير عودة.لكنها باقية ما بقي الوطن وساطعة ما استمسك بها أبناء هذا الوطن .

فبعد دستور 2011 انقشع جزء كبيرمن هذه الغيوم واستبشر الناس خيرا فقالوا إنها متبددة هذه المرة لا محالة ، وإنما هي مسألة وقت فقط ، وازداد شعاع الأمل اتساعا، خصوصا بعد انتخابات 2012 وما عُرفت به من نزاهة وشفافية مقدرة ، تلاها تكليف زعيم الحزب الحاصل على أكبر عدد من مقاعد البرلمان بتشكيل الحكومة.

لكن التحكم لم يستسلم، والمتحكمون الذين فروا كالقطط الخائفة إبان أمواج الربيع العربي الجارفة، سرعان ما عادوا للظهور ، يختبرون حقيقة ما صدم غرورهم وما لم تستسغه بلادتهم ، تلك هي طبيعة التحكم، تعمى بصيرته فلا يرى وطنا إلا الواقع في قبضته، ولا يتصور شعبا إلا قطيعا يساق وفق هواه.

فما هو التحكم إذن؟ ومن هم المتحكمون ؟ وما السبل لمواجهتهم؟

التحكم في رأيي منظومة ممتدة أطرافها مندمجة مكوناتها ، أساسها عقلية انتهازية وصولية تروم استبلاد العباد ونشر الفساد ،وجدعها سلطة مختلسة وثروة مغتصبة تحتكر القرار وتخرب الديار ،أما فروعها فمتشابكة متلونة تتخفى وراء شعارات فارغة و تتدثر بلافتات مضللة ، منهجها تدليس وتلبيس وغايتها تحبيط وتيئيس.

خلال الخمس سنوات المنصرمة بل قل في العشرية الماضية تفاعلت أحداث عالمية وإقليمية جارفة ، كانت سمتها المشتركة البارزة هي صراع الشعوب المرير والعنيف ضد التحكم.

في الشرق اقتلعت هذه العواصف حصونا كان ساكنوها يظنون أنهم في مأمن من أي إعصار وامتدت إلى الغرب المستعلي ، لتتحول إلى رياح كاشفة فاضحة، أماطت اللثام عن الوجه الكالح للعقلية الغربية المستكبرة المتعالية.

وأما هذا الوطن الحبيب فقد مر به هو الآخر زلزال كبيرة آثاره ،وإن لم تكن عنيفة هزاته، لم ينتبه لها سوى فاعل مشارك في صنع الأحداث، مؤمن بقدر التدافع والانبعاث، أو ملاحظ منصف غير متحامل سرَّه ما يرى من تحولات .

و لا زالت ارتدادات هذا الزلزال تتبدى هنا وهناك، برفق أحيانا وبصخب أحيانا أخرى، تخلخل بنيات التحكم ،تخرج المتحكمين من الجحور وتكشف ألاعيبهم في التسلط والفجور، تفتح باب التباري على المناصب العليا ،كي لا يكون صاحب المنصب مدينا إلا لكفاءته ولوطنه ولضميره ، وتجفف صنابير الاستفراد بالثروة ،تكرس الشفافية في تدبير الصفقات ، وترفع سقف القدوة في ترشيد النفقات، تقتطع من ثروة الوطن نصيبا لأبناءَ مَنْسِّيِّين لهذا الوطن ، تخترق جدار احتكار الحق في الوظيفة، الذي كاد أن يصبح ريعا خالصا لأبناء الوجهاء، أو رشوة كريهة للشباب المنتفض في وجه الاستعلاء ،لم يعد الوزير ذلك الكائن المختلف عن الناس ،لا يرونه إلا على الشاشة أو من وراء حجاب ، بل لم يعد منصب الوزير نفسه حكرا على أبناء الأسر المعلومة، وغدا المواطن كل مواطن عادٍ كفءٍ هو مشروع وزير .

أما آليات قياس درجات هذا الزلزال فهي ملكية خالصة للوطن والمواطن ،فهما وحدهما دون سواهما من يملكان سلم تقييم آثاره ومخلفاته.

اليوم ونحن على أبواب محطة فارقة في مسار هذا الوطن نرى أن التحكم قد جيش خفافيش الظلام ، لعلها تحدث فزعا في النفوس، فتصدها عن هذه الرغبة الجارفة في الانطلاق،وتعرقل سيرها الحثيث نحو الحرية و الانعتاق .

ولحسن حظ الوطن والمواطن أن مكونات التحكم في هذا البلد الأمين ليست على قلب رجل واحد، كما أن رغبتها في التحكم تتفاوت تفاوت أسباب هذه الرغبة وخلفياتها .

فمنهم الخائف الذي ألف وضعا وإن كان غير مريح، ولا يريد المغامرة أو ركوب المجهول، فالعيش في كنف الاستبداد والتحكم يورث حساسية مفرطة تجاه الحرية و مرادفاتها ،وهذا الصنف وإن كان مساهما في التحكم بشكل غير مباشر فهو لا يرتبط بمنظومته، لا بود ولا بمصلحة وما يجمعه بها هي الرغبة في بقاء الحال على ما هو عليه خوفا وتوجسا ، فهو أقل الأطراف تمسكا بالتحكم ،إذ أن الثقة في النفس وفيمن يرفعون لواء التغيير ستثنيه لا محالة عن مواجهة التغيير، وتجعل خوفه اطمئنانا وإحجامه إقداما ،وهذا حال كثير من المقاطعين ، فهم من جهة يرفضون أن تكون أصواتهم مطية للمفسدين وهذا يحسب لهم، ومن جهة ثانية يمتنعون عن ركوب قطار الإصلاح خوفا من التغيير ورهبا من المتحكمين، وهذه عين مشاركتهم في التحكم .

هذه الفئة تحتاج إلى جهد أكبر يستعيد لها ثقتها بنفسها و يقنعها أن معانقة الحرية ممكنة، وأن التحرر من التحكم لا يفصلنا عنه سوى عزيمة قوية تأبى الاستسلام للواقع، وحكمة متبصرة تضبط إيقاع التدافع بما يضمن سلامة الوطن وكرامة المواطن.

ومنهم المستفيد عن بعد ، الذي استمرأ جمع الفتات والاقتيات على البقايا، فهو قد نسج علاقات مصلحية ودخل في مشاريع شخصية وأسرية تقوم أساسا على العائد القذر الذي يحصله من زبونية يستسيغها أومن وظيفة يستغلها، ليراكم ثروة ملوثة للنفس مفسدة للمجتمع ، أو امتيازا سالبا للإرادة مذهبا للمروءة ،فهولا يقوى على شد الحزام والاعتداد بالكرامة والإقدام، ليصرخ في وجه المتحكمين أن تبا لكم ولفُتاتكم ،عيش كريم في وطن آمن برأس مرفوعة خير مما تجمعون.

وهذا الصنف يمثل نسبة غير مؤثرة في المجتمع نظرا لوضعه الهش في عالم القيم من جهة، وعدم امتلاكه لوسائل المواجهة ممثلة في المال والإعلام والسلطة من جهة ثانية.

وأما الصنف الثالث من المساهمين في التحكم فهم أناس أعترف بأنني أجد صعوبة في فهم غاياتهم ، ينتقدون تجربة الإصلاح التي يقودها حزب العدالة والتنمية ، ويعتبرون هذه الحكومة ووزرائها بيادق للتحكم يحركها في رقعة خريطته السياسية والتحكمية والسلطوية متى شاء وكيفما شاء، شأنها شأن من سبقها ومن يأتي بعدها ،وأن قدر هذا الوطن هو الخضوع والاستسلام .

ينتقدون المخزن ويرونه مسؤولا عن الأوضاع اللاديموقراطية التي يعيشها المغرب، وأنه المسؤول الأول والأخير عن حلم الحالمين، وتهور المتهورين، وجشع المرتشين ، وخسة الوصوليين، وغش المتهاونين ،وسلبية المتخاذلين، وطمع البائعين للأصوات، وسفاهة المروجين للإشاعات، وجبن الساكتين على المنكرات .

ينتقدون الأحزاب جميعها ، ولست مؤاخذا لهم على انتقادهم لآداء الأحزاب وأطر الأحزاب ومبادئ الأحزاب وتصورات الأحزاب، لأنهم قلما يفعلون ذلك وإن فعلوه فليس بغاية التجويد والتحسين ،ولكن بنية التبخيس و التهوين.

ينتقدون الجميع ولا يقدمون أي بديل لهذا الجميع، تارة يحلمون بغد أفضل تجود به الأيام وينزل عليهم كما أنزل الله المن والسلوى على أمم سبقت معجزة منه لتأييد رسله ، وتارة يزرعون اليأس في النفوس بأن لا ملجأ ولا منجاة مما هو حاصل إلا بالانتحار الاجتماعي والسلبية القاتلة للهمم والآمال، وتارة أخرى ينادون في الناس أن حيى على الأوهام ،حيى على السراب.

للأسف هذه الفئة لها تأثير مقدر في النفوس لأسباب يضيق المقام لتفصيلها لكن من الأهمية بمكان الإشارة إلى بعضها ولو في عجالة.

فهي أولا تنادي الناس من برجها العالي مما يجعل لصدى ندائها وقعا على الأسماع المثقلة بالهموم والأوجاع .

وهي ثانيا تتوسل بالتسطيح الذي يأسر العقول المنهوكة بهموم الحياة ،فيمنعها من الرؤية المتأنية المنتقاة.

وهي ثالثا لا ترى بديلا للتحكم إلا تحكما أشد منه، تهجو تحكما لتسوق لبديل أشد منه وأثقل.
وهي رابعا واقعة في نرجسية إقصائية لا أثر في تقديرها للرمادي وإنما الكل أسود وأنا الأبيض.
وهي خامسا حبيسة تعصب يجعل مواقفها خدمة مجانية للمتحكمين، وطعنا من الخلف غير متعمد للمصلحين .

وأما الصنف الثالث وهو أكثرها تمسكا بالأوضاع الفاسدة وأشدها استماتة على تثبيتها وإعادة إنتاجها ،إذ لا يتصور لنفسه وجودا أصلا في غيابها ،ومن تم فهو الأعنف مقاومة لإرادات الإصلاح لأنه متحرر من كل وازع أخلاقي أو قيمي ،كما أنه راكم وفي غفلة من الناس قدرا لا يستهان به من مقومات المواجهة والمناورة ، يستأجر القلم الرخيص ليطبل له و لأكاذيبه وحيله ، يمني الموظف المستأمن على مصالح الوطن بريع لا يستحقه، أو يبتزه بذنب اقترفه ويخشى عواقب افتضاحه .

يوظف الآلة الإعلامية لهدم القيم، لتخلو له ساحة شراء الذمم ، يوهم الخائف المتوجس أنه يستطيع رد ما يهابه من فتن، وما قد تحمله رياح التغيير من ضحايا ومحن.ويملي للطامع الجشع ليزداد ولوغا في المال الحرام بل ويمده بأسباب ذلك ويمهد له الطريق إليه.

يتوسل في ذلك بكل أساليب الكذب والتزوير والبهتان ليفتري على حاملي لواء التغيير أيا كان مذهبهم، يسعى للوقيعة بين الدولة و الأحزاب تارة وبينها وبين الشعب أحيانا وفيما بين أبناء الحزب الواحد تارة أخرى، غايته بث الريبة والشك بين الجميع وفي الجميع، ديدنه وشعاره :ازرع الفرقة تحصد التحكم .

إن هذا الوطن قدرنا الذي نفخر بانتمائنا له وبانتمائه لنا ،وإن التدافع مع هذا التحكم اليوم هو حاجة وضرورة فردية لكل مواطن مواطن، فضلا عن كونه استحقاقا جماعيا لهذا الوطن، و إن المعركة معه ستكون في صولات وجولات لعل أكثرها راهنية هي الانتخابات التشريعية المقبلة ،حافزنا لمواصلة الطريق صحة وصوابية المسار الذي سلكناه ، فالمعطيات والتجربة العملية التي عشناها خلال السنوات الخمس الفارطة أكدت وتؤكد أن اختيار الإصلاح في ظل الاستقرار هي معادلة صعبة الحل لكنها الأسلم والأكثر نفعا للوطن والمواطن، لذا علينا نحن المغاربة أن نكون في مستوى المرحلة وأن نترك جانبا كل خلافاتنا وتجاذباتنا فنكون جميعنا يدا واحدة في مواجهة التحكم.

للصامتين المتوجسين نقول: لقد تأكد اليوم وبالملموس أن النية في التحرر من التحكم صادقة ،وإن كانت لم تترجم بعد على الأرض بالقدر المنتظر ، فالمهمة ليست سهلة كما قد يبدو ، وحسْب من يتصدون للتحكم أنهم ما استكانوا وما ضعفوا ،فلم يُستدرجوا لريع ولم يقعوا في خطيئة ،أما الخطأ فمن نزه الناس عنه فقد نشد المستحيل.أصنام التحكم اليوم تترنح فأجهزوا عليها تحذيرا وتوعية وتأطيرا ، تحركوا حاصروا المتحكمين ، اظفروا بشرف المساهمة في بناء وطن ديموقراطي تحترم فيه الحقوق وتصان فيه الحرمات ، لا تسلموهم رافعي ألوية الإصلاح فيستفردوا بهم ،ويوم 7 أكتوبر ادخلوا عليهم باب التصويت وإنكم لغالبون.

أما للمقتاتين من الفتات الطامعين في البقايا نقول : احلموا بغد تكونون فيه أشرف وأنظف ،ترفعون فيه رؤوسكم عالية بين جيرانكم وذويكم ، أعيدوا لأبنائكم طعم الاعتزاز بكم والافتخار بالانتساب إليكم ،لقد آذيتموهم وألحقتم بهم من الأذى ما لا تطيقه نفوسهم ، تذنبون ويتألمون لما تحدثونه من خراب لهذا الوطن،يودون لو استطاعوا أن يصرخوا في وجوهكم كفى، كفى فإن أفعالكم تخجلنا وتلحق العار بنا ، تقترفون الخطايا ويؤدون ثمنها همزا ولمزا وغمزا من أقرانهم وزملائهم، إن لم تفعلوا في سبيل أنفسكم، فارفقوا بأسركم وفلذات أكبادكم.

وأما الذين لا يرون إلا سوادا نقول لهم إن السلامة لهذا الوطن الحبيب أن نعمل بميزان الشرع والعقل فما لا يدرك كله لا يترك جله وجلب المصالح وتكثيرها و دفع المفاسد وتقليلها خير وأفضل من النقد الهدام والسلبية الجبانة فليس المطلوب منكم اعتقاد ما يعتقده الناس ولا رأي ما يرون وإنما المنتظر منكم أن تبشروا ببياض خير مم ترونه سوادا مستحكما ،وأن تشعلوا شموعا بدل أن تبكوا ظلاما تتوهمونه مطبقا ، فإن لم تفعلوا فاعلموا أن هذا الشعب قد أعيته السفسطة ولغو الكلام ، وأن قوة الأحداث الجارفة ستدفع بالغثاء إلى حافة المجرى ثم يتبدد كما تتبدد فقاعات الصابون التي يلهو بها الصغار.

وأما صناديد التحكم فلا حديث معهم، ، لاعتقادي أن سكرة التسلط آخذة بزمام عقولهم وأفئدتهم ،وأن الرعب الذي يستولي على قلوبهم ونحن على مقربة من محطة يعتبرونها معركة حياة أو موت ، تنفي أي إمكانية للحوار، فلا وجود لوسيلة يمكن أن تجسر سبل التخاطب والتواصل ،إنما أقول لهم بيننا وبينكم الوطن والمواطن، فإن صدَّاكم وفوَّتا عليكم فرصة التحكم- وهذا يقيننا- كانت لنا معكم جولات يؤطرها شعار: إن الوطن غفور رحيم ، وإن اختلستم منهما مرة أخرى زمام أمورهما ،فسنظل كما كنا مرابطين محذرين من ألاعيبكم ، محتسبين صابرين على أذاكم ،والله المستعان على ما تبيتون.