وجهة نظر

الأصول الدينية للحرب النووية القادمة

بعيدا عن الطرح الفلسفي الذي رافق الندوة الأمريكية الشهيرة التي أقيمة سنة 2009 في أكبر قاعة تاريخية بنيويورك في موضوع “قوة الدين في المجال العام” لكونها تتحدث عن الموقع الذي يحتله الدين في المجال الأمريكي العام، وقدرته على تزويد المجتمع برؤى أخلاقية متميزة، وبوصلات راشدة بها يتم تعقب البؤس واليأس الإنسانيين في العالم المعاصر. وباختصار لقد كانت هذه الندوة العامة تحدد أهمية وقوة تواجد الدين في الحياة.

عندما نتحدث عن قوة تواجد الدين في حياة الناس، أو في المجال العام بمعناه الإيجابي، فإنه، أي الدين، عندما يسند إلى حسن الفقه والفهم، ويبتعد عن التأويلات الخاطئة، يمكن أن يتحول إلى فاعل إيجابي قوي في مسلك الحياة، ولكن يمكن كذلك مع عدم حسن الفهم والفقه وعدم التفسير الصحيح للنصوص، وعدم إخضاعه للنزوات والشهوات والأهواء، أن يتحول إلى مدمر ومهلك لكل أنواع الحياة المتواجدة فوق الأرض، وكما قال الدكتور علي شريعتي:” الدين ظاهرة مدهشة تلعب في حياة الناس أدوارا متناقضة، يمكن له أن يدمر، أو أن يبعث الحيوية، يستجلب النوم أو يدعو إلى الصحو، يستعبد أو يحرر، يعلم الخنوع أو يعلم الثورة”.

وباستقرائنا للنصوص الدينية الغربية المتمثلة سواء في العهد القديم أو العهد الجديد، سنظيف عاملا ثانيا على عدم حسن الفقه والفهم، وسوء التفسير والتأويل، وهو التحريف المقصود الذي يعتري هذه النصوص، والذي قد يكون عن طريق دمج الشروح الشخصية على هوامش النصوص الدينية، فيعتبرها الناس جزء لا يتجزأ من الكتاب المقدس، أو عندما يقدس كتاب هو عبارة عن مجرد تفاسير وشروح دون نصوص من الكتاب المقدس، وينطبق هذا على التلموذ بوصفه مجموعة من تفاسير وشروحات واجتهادات واستنباطات أحباراليهود لنصوص التوراة، وهو أشبه بكتب الفقه عندنا نحن المسلمين.

إن طبيعة التفسير للنصوص الدينية، المحرفة أصلا، هي التي سيتولد عنها التبشير بنبوءات خطيرة على رأسها الحرب النووية المقدسة والتي هي في حقيقتها تشويه لعلامات الساعة المذكورة في جميع النصوص الدينية سواء في القرآن الكريم والسنة النبوية أو في الكتب الدينية المعتمد عند الطوائف المسيحية واليهودية وغيرها.

وهذا، في آخر المطاف، سيمنحنا ثقة إضافية، واعتزازا وفخرا بالدين الإسلامي الذي حماه الله، إذ نجد القرآن الكريم قد وعد الله بحفظه فجعله محفوظا في السطور و الصدور، وقد وصل إلينا بالتواتر أي كمشعل تتسلمه الأجيال عبر الأجيال. وفي الواقع ما يزكي هذا الحفظ وهذه الصيانة، من ذلك، عندما يقوم أحدهم بمجرد تحريف حرف واحد بل حتى وقف أو مد أو حركة، يفطن له حاملوه وحماته.

كما أن الإنسان إذا تلا شفهيا بعض آياته وأخطأ في حرف واحد يمكن أن يندفع نحوه جيش من المسلمين دفعة واحدة كرجل واحد ومن جميع الأجناس واللغات مصححين ومستدركين الخطأ على صاحبهم. وحماية واجتنابا للتفاسير الشاذة أو المغرضة التي تقوم بتحريف المعاني، حدد علماء الإسلام شروطا دقيقة وصعبة يجب توفرها في المفسر، كما أن علوما كثيرة تفرعت من خلال التعامل مع القرآن الكريم، وكلها تساهم في حفظه وحسن فهمه وتفسيره.

إن هذا التحريف المقصود الذي طال الكتاب المقدس، كما سنرى، هو الذي أسس لما سماه رجاء جرودي بالأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية. أي أن التأويل الميتافيزيقي الخرافي لما ورد في التوراة والإنجيل وما حواه التلمود هو المسيطر الآن على فكر الصهيونية بنوعيها اليهودي والمسيحي.

وأما عن العامة فإن 85 في المائة منها أقرب إلى الدهماء التي اغتالت عقلها، ولم يخطئ مايكل مور عندما وصفها بالغباء. ومن أهم خصائص الشعب الأمريكي أنه مستلب إعلاميا حتى النخاع، وهو يقدس كل ما يسمعه سواء في الكنائس أو الإذاعات أو الراديو. وبالتالي فأي أفكار يتبناها قادته وذوو التأثير في المجتمع الأمريكي يتبناها كمسلمة لا شية فيها كما سنرى فيما يخص الإيمان بالحرب النووية وما يليها.

إن مجرد كلمة قد يلقيها القس المبشر الشهير هول لندسي أو بات روبرتسون أو جيري فالويل الرجل الإنجيلي صاحب القنوات التبشيرية وجامعات القديسين تجد صداها في قلب جل الأمريكيين الذين يؤمنون بهذا التوجه في الدين، ومن أهم ما ميز فالويل هو السعي لجعل الإنسان الأمريكي يأكل ويشرب ويتنفس بالدين في كل مناحي حياته لذلك نجده يقول: “إذا لم يتعلم المرء كلام الرب، ولم يعرف ما جاء بالإنجيل، فإنني أشك في قدرته على أن يصبح قائدا فعالا، وقيادته لكل شيء، سواء أسرته أو كنيسته، أو أمته لن تكون ناجحة دون هذه الأولوية”.

وونظرا للتأثير لمثل هذا الرجل الإنجيلي، وأمثاله، في أمريكا استطاع أن يدخل في صراع مع العديد من رؤساء أمريكا إخضاعا لهم لآراء الدين وتوجهاته على رأسهم بيل كلنتون. ولهذا لا نستغرب عندما نجد بيل كلينتون، في خطابه الافتتاحي سنة 1997 قد استعمل استعارة من التوراة حينما قال: “استرشادا بالرؤية القديمة لأرض الميعاد، فلنوجه أبصارنا اليوم إلى أرض ميعاد جديدة”.

وفي خطاب فبراير 1998 أمام ألفي رجل من أهل السياسة والفكر والكونغريس حيث شبع نفسه بالملك سليمان، وشبه الأمريكين بشعب الله المختار، وشكر للأمريكيين نصائحهم وإرشاداتهم التوراتية للتعامل مع العراق وتشجيعاتهم على قصفه”.

لقد اعتمد الرؤساء الأمريكيون بدءا من جورج واشنطن فصاعدا على الحس الديني، ليس للتأثير على عقول أبناء الشعب فحسب، بل على أفئدتهم أيضا لتأييد الأهداف الرئاسية والسياسية القادمة، وهذا المنحى لم تكن أمريكا وحدها التي نحته، بل نجد كذلك المصلح البروتستانتي مارتن لوتر في ألمانيا وجون كالفن في سويسرا قد ساندا اعتماد حكومتي هذين البلدين على الدين، وقد فعلها من قبل هنري الثامن في انجلترا، وهؤلاء يعتبرون سلف وقدوة الكنائس في أمريكا.

لنبدأ إذن ونحن نسير نحو الحديث عن الحرب النووية بما قاله جورش بوش الجد الخامس في كتابه “حياة محمد” – صلى الله عليه وسلم- حيث قال: “ما لم يتم تدمير أمبراطورية سارازان (المسلمين) فلن يتمجد الرب بعودة اليهود إلى وطن آبائهم وأجدادهم” وطبعا لا يمكن أن ينطبق مصطلح تدمير إلا على حرب نووية ضخمة قادرة على إبادة الشعوب إبادة كاملة.

ويقول السيناتور ألبرت بيفردج: ” إن الله اصطفى الأمة الأمريكية من بين كل الأمم والشعوب وفضلها عليهم وجعلها “شعبه المختار” وذلك من أجل قيادة العالم وتخليصه من شروره”.

يبدو أن هذه التصريحات المتطرفة، وهذه التهديدات الخطيرة التي تستهدف المسلمين ومن على شاكلتهم من (الأشرار)، هي عبارة عن مجرد أقوال تدخل في إطار حرية التعبير وقد نعتبرها شاذة ولا نعيرها أي اهتمام.

إن الأمر ليس كذلك لمجموعة أساب أهمها أن هذه التصريحات لم تأت من فراغ لأن من ورائها نصوص دينية تمت قراءتها قراءة مغرضة متطرفة لهدف محدد وهو تدمير الأرض تسريعا للعودة الثانية للمسيح.

يقول الكاتب التوراتي هال لندسي في كتابه ” العالم الجديد القادم” فكروا في ما لا يقل عن 200 مليون جندي من الشرق و ملايين أخرى من قوات الغرب يقودها أعداء المسيح من الامبراطورية الرومانية المستحدثة “أوربا الغربية”.

ويقول في كتابه “آخر أعظم كرة أرضية”: “إن الله قضى علينا أن نخوض حربا نووية”، ثم يقول: “إن عيسى المسيح سوف يضرب أولا أولائك الذين دنسوا مدينته القدس. ثم يضرب الجيوش المحتشدة في ماجيدة أو هرمجيدون فلا غرابة أن يرتفع الدم إلى مستوى ألجمة الخيل مسافة 200 ميل من القدس .. وهذا الوادي سوف يملأ بالأدوات الحربية والحيوانات وجثث الرجال والنساء”.

ويقول: “عندما تصل الحرب الكبرى “أي النووية” إلى هذا المستوى بحيث يكون كل شخص تقريبا قد قتل، تحين ساعة اللحظة العظيمة فينقذ المسيح الإنسانية من الاندثار الكامل، وفي هذه الساعة سيتحول اليهود الذين ينجون من الذبح إلى المسيحية” وينقل هذا الكاتب التوراتي عن إصحاح زكرياء 1112 و 1616 وعن إصحاح إسحاق 3635 و 35 ” إن ساحة معركة هرمجدون سوف تمتد من سهل مجيدو في الشمال إلى إيدوم في الجنوب، مسافة حوالي 200 ميل. وتصل إلى البحر الأبيض المتوسط في الغرب وإلى تلال موهاب في الشرق، مسافة 100 ميل تقريبا. إن سهول جزريل والنقطة المركزية للمنطقة كلها ستكونان مدينة القدس. استنادا إلى زكرياء الآيان 1 و2″.

إن الرئيس الأمريكي ريغان كما يقول القس أندرو لانغ الذي قاد أهم دراسة حول إن كان الرئيس الأمريكي يؤمن بهذه الحرب النووية فأجاب: “سيكون متهافتا للضغط على الزر، وهو يشعر في قرارة نفسه أنه يساعد الله في مخططاته التوراتية المقررة مسبقا لنهاية الزمن”.

وفي سنة 1999 اعتقلت الشرطة الإسرائيلية مجموعة من الأصوليين الأمريكيين الذين قدموا من كولورادو، والذين يطلقون على أنفسهم” المسيحيين المهتمين” (أي مهتمين بالحرب النووية ومؤمنون بها) وبعدما تم القبض عليهم اتهمتهم السلطات الإسرائيلية بالقيام بعمل “نهاية دموية” من أجل تسريع العودة الثانية للمسيح. إن عملية التسريع هاته لها علاقة وطيدة بهدم قبة الصخرة حتى يتم بناء الهيكل الذي يعتبر النبوءة الوحيدة الباقية حتى تقوم الحرب النووية التي يؤمن بها أزيد من 85 مليون أمريكي ويتشوقون لشرف حضورها. ولهذا نجد أن كل المسيحيين في الأرض مطالبون دينيا أن يدعموا اليهود حتى يقوموا بدورهم الأرضي الذي يحقق النبوءة وهي عودة المسيح.

يقول لانغ إن المؤمن بالحرب النووية التي تسبق العودة الثانية للمسيح، هو أصولي يقرأ الكتاب المقدس كما يقرأ قاموسا ليتنبأ بالمستقبل. وتقول جريس هالسل: إن قادة اليمين المسيحي الجديد من أمثال جيري فولويل وهال ليندسي وغيرهم يعتقدون أن الكتاب المقدس يتنبأ بالعودة الحتمية الثانية للمسيح بعد مرحلة من الحرب العالمية النووية أو الكوارث الطبيعية والانهيار الاقتصادي والفوضى الاجتماعية.

وتقول إنهم يعتقدون أن هذه الأحداث يجب أن تقع قبل العودة الثانية كما يعتقدون أنها مسجلة بوضوح في الكتاب المقدس”. ومن غرائب الأمور أن القوم يعتقدون بما لا يدع مجالا للشك أن أثناء العودة الثانية للمسيح فإن المسيحيين المخلصين سوف يرفعون ماديا من فوق الأرض ويجتمعون بالمسيح في الفضاء، ومن هناك سوف يراقبون بسلام الحروب النووية والمشاكل الاقتصادية، وفي نهاية المحنة سيعود هؤلاء المسيحيون المولودون ثانية مع المسيح كقائد عسكري لخوض المعركة الفاصلة ولتدمير أعداء الله ومن ثم ليحكموا الأرض لمدة ألف عام.

إن الرئيس الأمريكي ريغان كان يقول: إن جميع النبوءات التي يجب أن تتحقق قبل الحرب الكبرى قد تحققت، في الفصل 37 من حزقيال أن الله سيأخذ أولاد إسرائيل من بين الوثنيين حيث سيكونون مشتتين ويعودون جميعهم مرة ثانية إلى الأرض الموعودة. لقد تحقق ذلك أخيرا بعد ألفي سنة، ولأول مرة يبدو كل شيء في مكانه بانتظار معركة هرمجيدون والعودة الثانية للمسيح.

إن الأصولية الإنجيلية المتصهينة لا تقتصر على مجرد تقديم تفسيرات معينة للدين ولكن تحاول أن تصنع المستقبل وفقا لهذه الفهوم والتفسيرات. إن الإيمان بعودة السيد المسيح المشروطة بقيام دولة صهيون، وبالتالي بتجميع اليهود في أرض فلسطين، لعب ولا زال يلعب دورا أساسيا في صناعة قرار قيام إسرائيل وتهجير اليهود إليها، ومن ثم دعمها ومساعدتها. كذلك فإن الإيمان بأن اليهود هم شعب الله المختار، لعب ولايزال يلعب دورا أساسا في إعفائهم من القوانين والمواثيق الدولية، ذلك لأن منطق الصهيوينة اليهودية والمسيحية معا يقول إن شريعة الله هي التي يجب أن تطبق على شعب الله المختار، وإن شريعة الله تقول بمنح اليهود الأرض المقدسة في عهد مقطوع لإبراهيم وذريته حتى قيام الساعة. وبالتالي فإنه حيث تتعارض القوانين الإنسانية الوضعية مع شريعة الله، فإن شريعة الله وحدها هي التي يجب أن تطبق على اليهود في فلسطين.

كذلك فإن الإيمان بأنه لابد من محرقة نووية تحضر لعودة المسيح وأنه لابد أن يذوب في هذه المحرقة كل أولائك الذين ينكرون المسيح من ملحدين وشيوعيين ومسيحيين علمانيين ومسيحيين غير إنجيليين ومن مسلمين ومن معظم اليهود،() إن هذا الإيمان يقف وراء قرار ضرورة إضعاف العرب، وضرورة تعزيز الترسانة العسكرية لإسرائيل، ووراء حتمية الاستجابة إلى جميع مطالبها بالدعم المالي والسياسي والعسكري.

وفي الأخير يمكن أن نقول: لماذا لم تقم الحرب النووية لحد الآن، مع أن الكل يدعو إليها ويعتبرها قدرا إلاهيا ولابد منه حتى يعود المسيح؟

حتى نجيب عن هذا السؤال، لابد أن نقول: لعل من أهم الأسباب التي لم تعجل بهذه الحرب المنتظرة، انتظار الأطراف للشرط ما قبل الأخير الذي هو بناء الهيكل على أنقاض قبة الصخرة، أي أن المسيحيين الإنجيليين يسعون من حين لحين لتحقيق هذا الشرط، ولكن الظروف التي تعيشها إسرائيل وسط مقاومة شرسة من الفلسطينيين، والعمليات الاستشهادية المطردة والدفاع المستميت عن الأرض والعرض على رأسهما الأقصى الشريف وقبة الصخرة، فضلا عن إكراهات المنتظم الدولي والمواثيق الدولية، ربما قد ساهمت في هذا (التأخير)، ولعل هناك سببا آخر وهو وجود كنائس وطوائف أخرى أمريكية لا تؤمن بهذه الأفكار المتطرفة بل وتعتبرها دخيلة على المسيحية، منها على الخصوص بعض الكنائس الكاتوليكية، وحتى بعض الكنائس الإنجيلية مثل الكنيسة المشيخية، فضلا عن جميع الكنائس الشرقية الأرتدوكسية.

إن العالم كله بمختلف الأجناس المتواجدة فيه، مهما اختلفت مللهم ونحلهم، مطالبون اليوم قبل الغد، بتطويق هذه الحركات الدينية المتطرفة العنصرية، إذا أرادوا فعلا أن يعيشوا في سلام ويحافظوا على السلم ليعم كل أرجاء العالم.