منتدى العمق

دستور 2011: بين الوعود الكبرى وحقيقة التطبيق.. هل حان وقت المراجعة؟

في عام 2011، شهد المغرب محطة تاريخية بإقرار مراجعة دستورية استجابةً لمطالب شعبية وإصلاحية. هذا الدستور، الذي حظي بموافقة 98.49% من المصوتين في استفتاء بلغت نسبة المشاركة فيه 72.65%، جاء ليعزز من صلاحيات الحكومة والبرلمان، ويؤكد على استقلالية القضاء، مع الحفاظ على مكانة الملك كقائد أعلى ورمز لوحدة الأمة.

دستور 2011 جاء استجابة لحراك اجتماعي وسياسي دفع نحو إصلاحات جوهرية في بنية الدولة وعلاقتها بالمجتمع، حيث شكل لحظة فارقة في تاريخ المغرب الدستوري، نظرًا لما تضمنه من مقتضيات تروم تعزيز الديمقراطية ودولة القانون. وقد كان الهدف الأساسي منه تجاوز أعطاب الدساتير السابقة، عبر تكريس مبدأ فصل السلطات، وضمان استقلالية القضاء، وتوسيع صلاحيات البرلمان والحكومة، وتعزيز آليات الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة. غير أن مرور أكثر من عقد على اعتماده يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى تطبيقه، وما إذا كان لا يزال قادرًا على الاستجابة للتحولات العميقة التي يعرفها المغرب سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، أم أن الحاجة باتت ملحّة لإصلاح جديد يأخذ بعين الاعتبار التحديات الراهنة.

رغم أن الدستور حمل في طياته وعودًا كبيرة بإصلاحات مؤسساتية، إلا أن تنزيله الفعلي لم يكن متكاملًا، حيث ظلت بعض مقتضياته حبيسة التأويل السياسي أو تأخرت في التنفيذ، مما أدى إلى تفاوت بين ما هو منصوص عليه نظريًا وما تم تطبيقه على أرض الواقع. على سبيل المثال، مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، الذي يعتبر من أهم الضمانات لمكافحة الفساد وسوء التدبير، لم يجد تفعيلًا بالقدر المطلوب. تقارير المجلس الأعلى للحسابات، وهيئة النزاهة والوقاية من الرشوة، تشير إلى استمرار اختلالات في التدبير المالي والإداري للعديد من المؤسسات، وهو ما يعكس ضعف الإرادة السياسية في محاسبة المسؤولين عن الاختلالات المالية، رغم توفر الترسانة القانونية التي يتيحها الدستور.

الجهوية المتقدمة، التي اعتُبرت إحدى ركائز الدستور الجديد، لم تحقق الأهداف المرجوة منها بعد، رغم المصادقة على القوانين التنظيمية المتعلقة بها. فقد أظهرت التجربة أن نقل الاختصاصات للجهات لم يكن بالعمق الكافي، حيث ظلت الميزانيات المخصصة لها ضعيفة، وظلت العديد من القرارات تخضع لوصاية المركز. هذا الوضع جعل من الجهوية المتقدمة مشروعًا مؤجلًا أكثر منه إصلاحًا مكتملًا، خاصة في ظل غياب عدالة مجالية حقيقية بين الجهات، واستمرار الفوارق التنموية بشكل كبير بين المدن والمناطق القروية.

فيما يتعلق بالحقوق والحريات، نص الدستور بشكل واضح على مجموعة من الحقوق الأساسية، مثل حرية التعبير، وحق التجمع، والحق في الوصول إلى المعلومة. غير أن تقارير المنظمات الحقوقية، سواء الوطنية أو الدولية، لا تزال تشير إلى استمرار بعض الممارسات التي تحد من هذه الحقوق، وهو ما يؤكد أن التحدي لا يكمن فقط في وجود نصوص متقدمة، ولكن في ضرورة احترام روح الدستور وتطبيقه بعيدًا عن التأويل الضيق أو الانتقائي.

أما على مستوى السلط، فرغم توسيع صلاحيات رئيس الحكومة والبرلمان نظريًا، إلا أن التوازن الفعلي داخل المشهد السياسي ظل مائلًا لصالح المؤسسة الملكية، مما يجعل البعض يعتبر أن النظام السياسي لم يشهد تحولًا جذريًا بقدر ما خضع لتعديلات شكلية لم تمس جوهر مراكز القوة في الدولة.

التجربة أثبتت أن الدستور، مهما كان متقدمًا في نصوصه، يظل رهينًا بالإرادة السياسية ومدى التزام الفاعلين بتنزيل مقتضياته. فالبعض يرى أن دستور 2011 لم يتم استنفاد إمكانياته بعد، وأن الحل يكمن في التطبيق الفعلي لمقتضياته، بينما يرى آخرون أن المغرب بحاجة إلى مراجعة دستورية جديدة تستجيب للتحولات التي شهدها العالم والمغرب خلال العقد الأخير. فالأسئلة التي كانت مطروحة في 2011 لم تعد نفسها اليوم، خاصة في ظل تنامي متطلبات الشفافية، والحكامة، وضرورة إصلاح النظام السياسي بشكل أكثر عمقًا.

بين من يدعو إلى احترام الدستور الحالي وتفعيله بكل مقتضياته، ومن يرى أن الحاجة أصبحت ملحة لمراجعته، يظل الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمغرب هو المحدد الأساسي لمستقبل النقاش حول الوثيقة الدستورية. فإما أن تتجدد الإرادة السياسية لتطبيقه بروح ديمقراطية حقيقية، أو أن يبقى مجرد حبر على ورق، يُحتكم إليه نظريًا دون أن يجد طريقه إلى التطبيق الفعلي.

وفي النهاية، يبقى دستور 2011 وثيقة متقدمة من حيث النصوص، لكنه ظل معلقًا في التطبيق، ما يجعله في نظر البعض إنجازًا لم يكتمل، وفي نظر آخرين حبرًا على ورق لم يغير موازين القوى الفعلية في البلاد. السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم: هل المغرب في حاجة إلى دستور جديد أم إلى إرادة سياسية حقيقية تخرجه من حالة الجمود؟

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *