منتدى العمق

على هامش الاحتفال باليوم العالمي للمرأة.. المرأة الامازيغية بعيدا عن الصور النمطية النسوانية

لا احد يشك في ان جل الدراسات الاجتماعية والانثروبولوجية المغربية منها او الاجنبية ينتظمها خيط رابط واحد يتمثل في كونها تشكل محاولات لمقاربة واستجلاء بعض عناصر واوجه الثقافة الامازيغية التقليدية وبعض الرموز المتواترة التي تشكل خلفية الكثير من الممارسات والمسلكيات المتداولة حتى الان وخصوصا ما يرتبط بالمجال الاجتماعي او بالمؤسسات الاجتماعية كمؤسسة العائلة والاسرة (والمرأة خصوصا) خصوصا اذا اعتبرنا ان الاسرة الاميسية (نسبة الى الام) كانت في زمن بعيد نظاما موحدا عند الامازيغ.. غير ان العديد من هذه الدراسات والكتابات المغربية او الاجنبية وقعت في اسقاطات مفاهيمية جاهزة واحكاما قيمية مستوحاة من الكتابات الاستشراقية الخاصة بمجتمعات الشرق الشيء الذي اوقعها في الكثير من المغالطات والاضطرابات المنهجية والاوهام المعرفية ويعتبر نظام الاسرة والقرابة ومكانة ووضع المرأة الامازيغية من بين هذه القضايا التي تتحكم فيها الاهواء والاسقاطات والاستيهامات والعقد التي ترسبت عبر قرون من المناخ السوسيو ثقافي السائد كما تتحكم فيها الصياغات الايديولوجية والمقاربات المنهجية الجديدة.

والمتفحص لهذه الاسقاطات الايديولوجية والمنهجية والمفاهيمية يرى انه لا يمكن حصرها لتعدد المناهج والمقاربات والنظريات الفكرية التي واكبت فترة الاستعمار والهيمنة الامبريالية لكن يمكن الاقتصار على نمطين تفكيريين اساسيين استحوذا على مجموعة من هذه الدراسات التي قاربت الموروث الثقافي الامازيغي القديم:

اولا – نمط تفكير تقليدي محكوم بنسيج الاساطير والحكايات والمكبوتات التاريخية في عمق اللاوعي الثقافي المغربي وهو يحاول الكشف عن بعض مكبوتات اللاوعي الثقافي الامازيغي انطلاقا من هذه الاساطير والحكايات الامازيغية (حمو اونامير نموذجا)

ثانيا – نمط تفكير نخبوي يتزيا بقناع التحديث وقيم البحث العلمي لكن تتحكم فيه الايديولوجيا وبعضه يتسلح بالمقاربات الانتروبولوجية والاثنولوجية او يفسر الظواهر الاجتماعية بمفاهيم وادوات وضعية(المدرسة الدوركهايمية) او بمقاربات منهجية شمولية وذلك لأجل تحليل المجتمع الامازيغي التقليدي القبلي ودراسة بنياته ومؤسساته دراسة لغوية وانتروبولوجية وسوسيولوجية ويهم الامر اساسا القضايا المتعلقة بنظام الاسرة والمرأة في المجتمع الامازيغي التقليدي القديم.

فكيف يمكن الربط بين الميثولوجيا والسوسيولوجيا لتفسير وفهم المتخيل الجماعي عن وضع المرأة الامازيغية؟ وكيف يمكن استنطاق الموروث الثقافي الامازيغي كارث شفوي او كذاكرة للأشياء قبل ان يكون ذاكرة للكلمات؟ وكيف يتسنى لنا استكشاف بنية وطبيعة النظام الاجتماعي الامازيغي او طبيعة الصلة بين الرجل والمرأة والمجتمع وموقع المرأة الامازيغية داخل هذا النظام الاجتماعي التقليدي؟

ان الامازيغ كما تشير الكثير من الدراسات الاثنولسنية والتاريخية وكما لاحظ ذلك الكثير من الباحثين كان مجتمعا اموميا او اموسيا Matrilinéaire يقدر المرأة ويعترف لها بمكانتها الاعتبارية في المجتمع القبلي ولقد لاحظ ذلك مارسي G . Marsais في احدى مقالاته والتي اكد فيها انه لا تزال بقايا ورواسب القرابة الامومية في طقوس ما بعد ميلاد الطفل والتي في الغالب تمارسها الام ونساء عشيرتها دون تدخل الرجال، كما نعثر في الالفاظ المستعملة لتعيين الابناء على اثار هذا النسب الامومي وهكذا فان الاخوة هم ابناء الام (ايتما aytma) والاخوات ينتسبن الى الام (ايستما – تيستماتين taytmatin / tissetmatin). (كما) تعني اخي من امي و(التما) تعني اختي من امي. فالانا ego يعين اخوته بأبناء امي aytma واخوته ببنات امي  isettmaوتسمى النساء في بعض المناطق الامازيغية (تيسدنانtisednan ) وهي تسمية تعني اصلا اللبؤات وفي ذلك تكريم وتشريف لهن اذ يوصف الرجل القوي والمهيب بالأسد (ايزم izem) وتنعت المرأة الجريئة القوية باللبؤة كما تسمى المرأة في كل من سوس والريف ب(تمغارت) وهو مؤنث (امغار) رئيس القبيلة.

المرأة في اللسان الشلحى تعني (تمغارت)وجمعها (تيمغارين) وهي تسمية تطلق من باب التكريم والتشريف على المرأة لما لها من شان وسلطان في مجتمعها وبيئتها شانها شان (امغار) الذي يطلق على كبير ورئيس القوم ولقيمة هذا اللفظ وشانه الاعتباري يمكن الاحالة على شخص المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية وزعيم قبيلة مصمودة الذي كان يلقب باسم (ءامغار) وهو اللقب الذي عرف به وسط قبيلته وعشيرته واسرته.

وحتى عندما جاء الاسلام حافظت المرأة الامازيغية على دورها الاعتباري داخل القبيلة و الاسرة والجماعة وحافظت على نمط حياتها وعاداتها وتقاليدها التي لا تتعارض مع الشرائع الدينية وعندما نتفحص المصادر التاريخية القديمة من قبيل تحفة النظار لابن بطوطة او كتاب المغرب للبكري او العبر لابن خلدون او نزهة المشتاق للإدريسي او غيرها من المصادر التاريخية القديمة سنكتشف المكانة الاعتبارية للمرأة الامازيغية في تلك الحقبة الاسلامية الاولى واشارت هذه المصادر والمراجع التاريخية وغيرها الى شخصية وكفاءة المرأة الامازيغية وادوارها القوية في مجالات عدة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تفوق في بعضها قوة الرجل ومكانته ويمكن ان نقرا عن ابن بطوطة قولا طريفا اشار فيه الى اندهاشه للمكانة التي حظيت بها المرأة الامازيغية في عصره والعصور السابقة حيث انها احتلت مكانة هامة وسط افراد القبيلة والعشيرة والاسرة ولقد اشار في كتابه تحفة النظار ان نساء ( مسوفة – قبيلة صنهاجية – يتصفن بجمالهن الفائق وشانهن اعظم من شان الرجال..) وهذه القوة التي تتصف بها المرأة الامازيغية – في اعتقاده- تبرز قوة المجتمع الامازيغي في الحرية التي تتمتع بها المرأة المسوفية حيث لا وجود لسلطة مهيمنة او متسلطة او قاهرة على نساء القبيلة رغم سفورهن واختلاطهن بالرجال الا انهن حسب قوله (محافظات على العرف وعلى القوانين القبلية ومواظبات على الصلوات..)- تحفة النظار في عجائب الامصار- ابن بطوطة.

وتألقت المرأة الامازيغية – كذلك- في مجال الثقافة والادب ونالت نصيبا وافرا من العلم لا يقل عن نصيب الرجال ولو في مجتمع تسوده سلطة الفقهاء ورجال الدين (دولة المرابطين) وكان من النساء الامازيغيات اللواتي اشتهرن في ميدان الادب والثقافة الاميرة تميمة بنت يوسف بن تاشفين اللمتونية وحواء بنت تاشفين وزينب النفزاوية المشهورة في المصادر التاريخية بأدوارها الحاسمة في كثير من الاحداث التي عرفتها الدولة المرابطية وكذلك في مشاركتها وتسييرها للشؤون السياسية والادارية لمجتمعها الى جانب الفقهاء ورجال الدين وزعماء قبائل.

وفي عصرنا الحديث لعبت المرأة الامازيغية في سوس دورا هاما في صفوف المقاومة وجيش التحرير حيث كانت تشحن البنادق بالبارود وتحمل المؤن ليلا الى اعالي الجبال و الى داخل الخنادق لتزويد المجاهدين والفدائيين بالطعام والدواء والثياب والعتاد .. ولقد شاركت المرأة الامازيغية في سوس في كل الحروب ضد المستعمر الفرنسي والاسباني كمجاهدة او محرضة على الجهاد ومسعفة ومضمدة للجروح ولنا على سبيل المثال لا الحصر الدور الذي قامت به المرأة السوسية القروية في معركة ايت عبد الله (1928-1934) بقيادة الحاج عبد الله زكور وهي من اشهر معارك الجنوب.

وبعد الاستقلال تحدت المرأة الامازيغية (في سوس خاصة) ظروف الهجرة الداخلية والخارجية التي عرفتها المنطقة وتحدت قساوة الطبيعة وظروف الخصاص والتهميش والاقصاء الاجتماعي والاقتصادي في البادية السوسية واستمرت في مواجهة قساوة الحياة الجديدة محافظة على ارث اجدادها وحارسة امينة للأرض والاسرة والارث.. تحرث وتحصد وتغزل وتنسج وتنمي الارث المادي والرمزي للعائلة بل واليها يعود الفضل في الحفاظ على حروف تيفناغ (الابجدية الامازيغية) التي تخطها وتطرز بها الالبسة والحلي والزرابي والنقش بالحناء.. انها كائن مبدع حافظت على التراث المحلي وفي نفس الان هي موضوع التراث نفسه ولنا في فتيات ونساء تازناخت خير مثال عن هذا الابداع الفني الاصيل للمرأة السوسية.. هن مبدعات وناقلات امينات للتراث الامازيغي الاصيل الى جانب تحملها مسؤولية تربية الابناء والاحفاد في غياب دعم او وجود المؤسسات التربوية والاجتماعية الحكومية الموازية… كانت اما ومربية وممرضة ومزارعة وراعية وحارسة على ارث وموارد الاسرة وهذا التحدي الاسطوري للمرأة الامازيغية هو الذي جعل البوادي السوسية في اعالي جبال الاطلس الكبير والصغير تحافظ على وجودها واستمرارها رغم الظروف القاسية للطبيعة والحياة بالمقارنة مع مثيلاتها في بوادي وحواضر المغرب. هذه الصور الناصعة عن التضحية والعطاء للمرأة الامازيغية في سوس وفي ارض الامازيغ جعلها تتمتع بالاحترام حتى انه اثناء صراع القبائل تكون المرأة طرفا في السلم ففي منطقة حاحا مثلا اذا اراد احد الاهالي ان ينتقل من مكان الى اخر فعليه ان يصحب معه بعض رجال الدين او النساء من فريق خصومه.

اما عن اراء بعض الباحثين والدارسين الكولونياليين عن سفور المرأة الامازيغية فهذا ليس خروجا عن الاعراف ولا عن الآداب العامة بل هو مرتبط ارتباطا خاصا بحرية الاختلاط المباح بين الجنسين في المجتمع الامازيغي وكذلك في مواقع الحياة اليومية ( الحقول الزراعية – المراعي – الاسواق – المواسم الدينية – الاعراس..) انه نوع من العفة والثقة بالآخر اذ ان المرأة الامازيغية لها منزلة محترمة في المجتمع الامازيغي كما ان هذه الحرية في الحركة والاختلاط راجع الى الثقافة (الديموقراطية) التي ورثها الأمازيغ منذ العهود القديمة.

ومنذ اكثر من خمسة عقود تغيرت العديد من العلاقات مع التغيير في نمط الحياة العامة والخاصة بفعل التغيير في نمط الاقتصاد وسياسة تدبير الشأن العام ولاشك ان يؤثر نمط النظام الاقتصادي وسياسته ونوعية موارده في انماط العلاقات الاجتماعية تأثيرا قويا فتغيرت كثير من المفاهيم واساليب العلاقات بين افراد الاسرة الواحدة لكن مع ذلك لم يتم تهميش المرأة الامازيغية في مجتمعها المحلي بل حافظت على منزلتها ومكانتها في كل الامور العائلية والاسرية وبكل تفاصيلها فاستحقت ان تكون مفخرة للرجل في مراحل السيرورة التاريخية زوجة واما واختا .. لأنها هي اصلا كانت ملتزمة بحدودها ولا تحتاج الى من يحدد لها الحدود كما ان ذهنية الانسان الامازيغي الاجتماعية استطاعت التكيف مع شروط الحياة الجديدة دون السقوط في شباك “ثقافة” العولمة او التمرغ في براثنها وقشورها.

ان المرأة الامازيغية في سوس ماضيا وحاضرا ستبقى رمزا للهوية والتراث الامازيغي الاصيل ومثالا للعطاء والتضحية ونموذجا للكائن الاسطوري القادر على التكيف مع شروط الحياة بكل الوانها وقساوتها وصعوبتها للمحافظة على مكانتها من الاندثار وهويتها من الانهيار.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *