الجهوية المتقدمة بالمغرب: إصلاح معلق بين الطموح والواقع

بعد 14 سنة من إدراج الجهوية المتقدمة في دستور 2011، ومرور 10 سنوات على صدور القوانين التنظيمية المؤطرة لها، يظل تنزيل هذا الورش محط نقاش بين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والخبراء في مجال تدبير الشأن المحلي. كان الهدف الأساسي من الجهوية المتقدمة هو تمكين الجهات من تدبير شؤونها بشكل أكثر استقلالية، وتقليص الفجوات التنموية، وتعزيز العدالة المجالية، لكن الواقع يشير إلى أن هذا المشروع لا يزال يواجه تحديات معقدة على المستويات التشريعية، المالية، الإدارية، والسياسية، مما يؤثر على تحقيق الأهداف المسطرة.
مع صدور القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، والقانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم، والقانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، تم تحديد الاختصاصات الذاتية لكل مستوى من مستويات الجماعات الترابية، إضافة إلى الاختصاصات المشتركة والمنقولة من الدولة. نظريًا، أعطى هذا الإطار القانوني للجهات هامشًا واسعًا من الحرية في اتخاذ القرارات، حيث أصبحت الجهات مسؤولة عن التخطيط الاستراتيجي الجهوي، وتنفيذ مشاريع التنمية، وجلب الاستثمارات، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية داخل ترابها.
لكن على أرض الواقع، يواجه هذا الإطار القانوني مجموعة من الإشكاليات التي تحد من فعاليته. فوفقًا لتقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2021، لم يتم نقل سوى 30% من الاختصاصات المقررة للجهات في إطار الاختصاصات المنقولة، حيث لا تزال العديد من القطاعات الحيوية مثل الصحة، والتعليم، والبنية التحتية تحت سيطرة الحكومة المركزية، مما يحد من قدرة المجالس الجهوية على تنفيذ سياسات محلية مستقلة.
لا يمكن الحديث عن تدبير جهوي فعال دون الاستقلالية المالية، ومع ذلك، فإن الجهات لا تزال تعتمد بشكل كبير على التحويلات المالية القادمة من الدولة. وفقًا لمعطيات وزارة الاقتصاد والمالية لسنة 2022، فإن 60% من مداخيل الجهات تأتي من التحويلات الحكومية، بينما تشكل الموارد الذاتية للجهات نسبة ضعيفة لا تتجاوز 30%، مما يجعل الجهات غير قادرة على تمويل مشاريعها التنموية بصفة مستقلة.
وفي هذا السياق، فإن ضعف الموارد الجبائية المحلية يمثل أحد العوائق الكبرى أمام تحقيق الاستقلالية المالية للجهات. رغم أن القانون التنظيمي للجهات منحها صلاحية فرض بعض الرسوم والضرائب المحلية، إلا أن مردوديتها تبقى محدودة بسبب ضعف النشاط الاقتصادي في بعض الجهات وغياب آليات فعالة لتحصيل المداخيل. التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لسنة 2022 أشار إلى أن 70% من الموارد الجبائية المحلية تتركز في ثلاث جهات فقط، وهي الدار البيضاء-سطات، الرباط-سلا-القنيطرة، ومراكش-آسفي، بينما تعاني الجهات الأخرى من ضعف مداخيلها، مما يكرس التفاوتات التنموية بين الجهات.
رغم أن أحد الأهداف الرئيسية للجهوية المتقدمة هو تحقيق التوازن بين الجهات، إلا أن توزيع الاستثمارات العمومية لا يزال يميل لصالح الجهات الكبرى. تقرير صادر عن المندوبية السامية للتخطيط سنة 2021 كشف أن 60% من الاستثمارات العمومية تتركز في خمس جهات فقط، بينما تعاني الجهات الأخرى من ضعف التمويلات المخصصة لمشاريعها التنموية. هذا الخلل في التوزيع يعمق الفوارق المجالية ويؤدي إلى استمرار الهجرة الداخلية من المناطق الأقل تنمية نحو المدن الكبرى، مما يزيد من الضغط على بنياتها التحتية.
وبالنظر إلى المشاريع الكبرى التي تم تنفيذها خلال السنوات الأخيرة، نجد أن معظمها موجه نحو المدن الكبرى، حيث استفادت الدار البيضاء من مشاريع مهيكلة مثل “الميتروبول الذكي”، والرباط من مشروع “الرباط مدينة الأنوار”، في حين تعاني جهات أخرى مثل درعة-تافيلالت أو كلميم-واد نون من تأخر كبير في تنفيذ مشاريع البنية التحتية.
إلى جانب المشاكل القانونية والمالية، تعاني الجهات من نقص واضح في الموارد البشرية المؤهلة لتسيير شؤونها. تقرير للمديرية العامة للجماعات الترابية سنة 2020 أشار إلى أن 44% من الموظفين العاملين في الجهات لا يمتلكون تكوينًا كافيًا في مجالات التخطيط المالي وتدبير المشاريع، مما ينعكس سلبًا على نجاعة تنفيذ البرامج التنموية.
ورغم أن القوانين التنظيمية منحت الجهات حرية التوظيف والتعاقد مع كفاءات متخصصة، إلا أن ضعف الميزانيات وعدم وضوح آليات التوظيف يعرقل استقطاب الأطر المؤهلة. كما أن استمرار التداخل بين السلطة المركزية والجهات يجعل قرارات المجالس الجهوية خاضعة في كثير من الأحيان لموافقة السلطات المركزية، مما يقلل من فعالية التدبير المحلي.
تظل العلاقة بين الجهات والجماعات الترابية الأخرى (العمالات، الأقاليم، والجماعات) غير واضحة، حيث لا يوجد تنسيق فعال بين مختلف المستويات. في كثير من الأحيان، تتضارب المشاريع التي تطلقها الجهات مع المخططات التي تضعها العمالات والجماعات، مما يؤدي إلى ازدواجية في التسيير وإهدار الموارد.
تقرير صادر عن البنك الدولي سنة 2020 أشار إلى أن أحد أسباب تعثر الجهوية المتقدمة في المغرب هو غياب إطار تنظيمي يحدد بوضوح كيفية تنسيق المشاريع بين مختلف الفاعلين المحليين، مما يؤدي إلى تعطيل تنفيذ المشاريع وتأخير إنجازها. كما أن العلاقة بين رؤساء الجهات والولاة تبقى أحيانًا متوترة بسبب تضارب الصلاحيات، حيث لا يزال الولاة يحتفظون بصلاحيات واسعة تتجاوز أحيانًا اختصاصات رؤساء الجهات المنتخبين.
بعد مرور أكثر من عقد على إطلاق هذا الورش، أصبح من الضروري إعادة تقييم السياسات المتبعة لضمان تحقيق الأهداف التي رسمها الدستور. ينبغي تسريع عملية نقل الاختصاصات الفعلية إلى الجهات، وتعزيز تمويلها الذاتي عبر إصلاح النظام الجبائي المحلي، وتوفير آليات ناجعة لتحصيل الضرائب. كما يتوجب تعزيز القدرات الإدارية عبر استقطاب كفاءات مؤهلة قادرة على تسيير المشاريع الجهوية بفعالية.
إضافة إلى ذلك، يجب إعادة النظر في توزيع الاستثمارات العمومية لضمان تحقيق العدالة المجالية بين الجهات، مع وضع إطار مؤسساتي واضح لتنسيق العمل بين الجهات وباقي الجماعات الترابية، بما يضمن انسجام السياسات التنموية ويحد من التضارب في الاختصاصات. كما أن إصلاح العلاقة بين السلطة المركزية والمجالس الجهوية يظل ضروريًا لتحقيق استقلالية حقيقية للجهات، وهو ما يتطلب إرادة سياسية واضحة للانتقال إلى مرحلة أكثر تقدمًا في تنزيل الجهوية.
الجهوية المتقدمة ليست مجرد خيار إداري، بل هي مشروع مجتمعي يروم تحقيق التنمية الشاملة والعدالة المجالية. وإذا لم يتم تجاوز العوائق الحالية، فإن هذا الورش سيظل مجرد إصلاح نظري دون تأثير حقيقي على حياة المواطنين. تحقيق النجاح في هذا المجال يتطلب مقاربة شمولية تتجاوز العوائق التقنية والمالية إلى بناء نموذج جهوي أكثر استقلالية وفعالية.
اترك تعليقاً