مجتمع

مباراة التوجيه والتخطيط.. هروب ناعم من القسم أم بحث عن أفق مهني آمن؟

نظّمت وزارة التربية الوطنية أمس السبت بمختلف أكاديمياتها الجهوية مباراة للتخطيط والتوجيه التربوي، والتي حُدّد عدد المناصب المتبارى بشأنها في 90 منصبا، خُصّص منها 60 منصبا لمسلك التخطيط التربوي.

وقد عرفت هذه المباراة إقبالا غير مسبوق، حيث تقدم للمشاركة فيها أزيد من 14 ألف أستاذ، ما يعكس فجوة كبيرة بين عدد المرشحين وعدد المناصب المفتوحة، ويطرح تساؤلات مشروعة حول الدوافع الحقيقية لهذا الإقبال الكثيف.

ويرى العديد من المتتبعين أن أحد العوامل الرئيسة وراء هذا التهافت هو التحفيزات التي جاء بها النظام الأساسي الجديد، والذي منح لفئة مستشاري التوجيه والتخطيط امتيازات مهنية ومادية جعلت هذا المسار أكثر جاذبية مقارنة بمهنة التدريس داخل القسم.

وفي المقابل، لا يُخفي بعض المشاركين أن رغبتهم في مغادرة حجرات الدرس لم تعد مرتبطة فقط بالجوانب المادية، بل تعكس أيضا واقعا مهنيا مرهقا، إذ يشكون من تدهور ظروف العمل داخل الفصول الدراسية، وارتفاع عدد التلاميذ في القسم، إضافة إلى أعباء إدارية وبيداغوجية متزايدة أثّرت سلبا على جودة الأداء وشروط الممارسة.

وأشار العديد من رجال ونساء التعليم على منصات التواصل الاجتماعي إلى أن هذا الإقبال يعكس في جانب منه قصور السياسات التعليمية المتعاقبة في جعل مهنة التدريس أكثر استقرارا وجاذبية، سواء من حيث الآفاق المهنية أو من حيث الأوضاع النفسية والاجتماعية لرجال ونساء التعليم.

وفي هذا السياق، صرّح كبير قاشا، عضو المكتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم (FNE)، لجريدة “العمق”، بأن الإقبال الكبير لآلاف أطر التدريس على مباراة التوجيه والتخطيط، رغم محدودية المناصب المتاحة، يعكس حالة من التذمر والاحتقان داخل القطاع. وأضاف أن هذا التوجه لا يقتصر فقط على الترشح لهذه المباريات، بل يتجلى أيضا في تنامي طلبات التقاعد النسبي، ما يكشف عن رغبة متزايدة لدى العديد من الأساتذة في مغادرة القسم بأي وسيلة ممكنة.

وأشار المتحدث إلى أن الفضاء المدرسي أضحى في كثير من الحالات بيئة طاردة، تتسم بارتفاع مؤشرات العنف اللفظي والجسدي، وهو ما تؤكده المشاهد المتكررة في وسائل الإعلام التي توثّق الاعتداءات المتكررة التي يتعرض لها نساء ورجال التعليم داخل قاعات الدرس وخارجها، سواء من طرف التلاميذ أو أوليائهم.

واعتبر قاشا أن هذا الوضع يفاقمه ما وصفه بـ”غياب الإرادة الحقيقية للإصلاح”، ملمحا إلى أن غياب الوزير عن الواجهة وتفويضه أغلب صلاحياته يُسائل جدية تدبير هذا الملف الحساس، مشيرا إلى وجود “صمت رسمي” قد يُفضي إلى تداعيات وخيمة في المستقبل القريب.

كما انتقد المتحدث الصورة النمطية التي تروجها بعض المنابر الإعلامية عن الأستاذ، معتبرا أنها تُسهم في تقويض مكانة المدرس داخل المجتمع، وتُكرّس عزوفا واسعا عن المهنة التي لم تعد، في نظره، تحظى بالجاذبية المطلوبة، بفعل تدهور أوضاعها الاجتماعية والمهنية.

وختم تصريحه بالتنبيه إلى أن استمرار السياسات الحالية قد يؤدي إلى مزيد من النزيف في القطاع، محذرا من أن هذه الاختيارات قد تُمهّد الطريق أمام منطق السوق ورأس المال على حساب المرفق العمومي، ما قد يُفقد المدرسة المغربية دورها التربوي والاجتماعي الحيوي.

يذكر أن تقرير النمـوذج التنمـوي الجديـد قد شدد على ضرورة تجـاوز الأزمـة ثلاثية الأبعـاد التـي يعيشـها النظـام التربـوي المغربـي المتمثلة في أزمـة جـودة التعلمـات، التي تتجلى فـي عـدم إتقـان أغلبيـة التلاميذ للمهـارات الأساسـية فـي القـراءة والحسـاب واللغـات، فـي نهايـة مسـارهم الدراسـي؛ وأزمـة ثقـة المغاربـة إزاء المؤسسـة التربويـة وهيئتهـا التعليميـة؛ وأزمـة فــي مكانــة المدرســة التــي لــم تعــد تلعــب دورهــا فــي الارتقــاء الاجتماعــي وتشــجيع تكافــؤ الفــرص.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • عبدالحق
    منذ 3 أشهر

    وبغيت غير نفهم واش البوليسي إلى دوز امتحان الترقية إلى مفتش أو عميد بغي يهرب من الكسوة. واش العامل إلى مشى يقرا وخا دبلوم نقولو ليه باغي يهرب من العطش. بأن لكم غير الاستاذ إلى بغا يرقي راسو راه باغي يهرب من القسم تفو على تفكير.

  • ولد لمديمع
    منذ 4 أشهر

    بقلم : نور الدين الداودي أستاذ متقاعد سنة 2017 مديرية العيون في بلد يمني نفسه بإصلاح التعليم، تخرج علينا مباراة ولوج مركز التوجيه والتخطيط التربوي بمشهد عبثي أكثر من 13000 مترشح ومترشحة يتنافسون على 60 منصبا فقط، قد يبدو في الظاهر أن الإقبال الكبير نابع من جاذبية هذا السلك، فالجميع يتحدث عن مهنة المستشار في التوجيه بوصفها الجنة التي يحلم بها كل أستاذ عالق في مستنقع القسم: تعويضات محترمة، حرية في الحركة، عمل مكتبي شبه إداري بعيد عن صراخ التلاميذ، وروتين لا يحمل الضغط اليومي القاتل داخل الفصول الدراسية، لكن الحقيقة التي لا يريد أحد أن يواجهها، هي أن هذا الإقبال المهول ليس سوى هروبا جماعيا من القسم، من واقع تعليمي متهالك، تحوّل فيه الأستاذ إلى ضحية يومية لمهزلة مستمرة، اسمها المدرسة المغربية. لم يعد التلميذ راغبا في التعلم، جيل الهواتف الذكية لا ينام إلا بعد أن يزحف الفجر، ساهرا على مقاطع تيك توك وسنابتشات، غارقا في محتوى خليع، وضائعا في فراغ القيم، يأتي إلى القسم نائما، كسولا، متذمرا، لا يميز بين جملة مفيدة وفيديو مضحك، كيف للأستاذ أن يدرّس، أن يقيّم، أن يخطط، أن يربي، في ظل هذا الانهيار السلوكي والمعرفي؟ لقد صار المشهد شبيها بمباراة في العبث: الأستاذ يشرح بحرقة، والتلميذ غائب بالحضور، حاضر بالغياب. لكن التلميذ نفسه لا يلام وحده، إن الإدارة التربوية هي الأخرى شريكة في هذه الجريمة الجماعية، حين تمارس أكبر كذبة تربوية تحت اسم الخريطة المدرسية، يُنقل التلميذ من مستوى لآخر رغم جهله الفاضح بأساسيات القراءة والكتابة، فقط لأن الخريطة تريد ذلك، تلميذ لا يستطيع قراءة جملة عربية بسيطة، يجد نفسه في الثالثة إعدادي يُطالب بالتحليل والتفسير والتركيب، في حين أن جدته تقرأ وتكتب أحسن منه. المديرون يوقعون على محاضر مجالس الأقسام كأنها إجراءات بنكية، والأساتذة بدورهم أصبحوا جزءا من هذا الروتين القاتل: وقع ومرّر، لا تسأل ولا تعارض. الدولة، ممثلة في وزارة التربية الوطنية، غيبت الصرامة كليا، ورفعت شعار العقوبة الناعمة بدل الانضباط. لم تعد هناك مجالس تأديبية حقيقية، لا طرد، لا توقيف، فقط أنشطة بديلة: بستنة، رسم، تشجير... وكأن من يخرّب حرمة المدرسة يحتاج إلى علاج فني. هذه السياسة هي التي جعلت التلميذ يتطاول على أستاذه، وعلى حرمة الفصل، وعلى كل شيء. وبدل أن نصحح الخلل، خرج علينا مشروع إعداديات الريادة، الذي لا يعدو أن يكون مسخا تربويا مموها، يلمع في الإعلام، بينما الواقع صادم: تلاميذ يجهلون أساسيات اللغة، ويحصلون على نقط خرافية، وكلها مزورة. كيف يُعقل لتلميذ حصل على 2 من 20 في العربية أن يُمنح 17 في الفرنسية؟ بأي منطق؟ بأي مصداقية؟ لقد تم تمييع الفروض والامتحانات، صار بعضها يشبه أسئلة دوزيم في التفاهة والسذاجة. تُطلب من التلميذ كتابة سطرين، والفراغات تمتلئ بكلمات مبعثرة، والنقط تتوزع بلا روح ولا مبدأ. وحتى المتفوقون – قلة قليلة – تسقط منهم أخطاء إملائية تقشعر لها الأبدان. لا تعبير، لا تحليل، لا استنتاج، لا تركيب... أي تعليم هذا؟ الأسرة هي الأخرى انسحبت من المعركة. معظم أولياء الأمور لا يراقبون أبناءهم، لا دراسيا ولا سلوكيا، وكأنهم تخلوا عن دورهم التربوي لصالح اليوتيوبرز والتيك توكرز. البعد عن الرقابة الأسرية فتح الباب على مصراعيه لانهيار القيم والسلوكات، ولم يعد التلميذ يميز بين المربي والمؤثر، بين القدوة وبين التفاهة المصورة. أما الأستاذ – هذا الجندي المنهك – فمنهم من بقي وفيا للرسالة، ومنهم من سقط في الروتين، ومنهم من غرق في اللامبالاة. البعض لم يتلق تكوينا متينا، والبعض الآخر لم يكلف نفسه حتى عناء تطوير ذاته، يدرّس بلا تخطيط، بلا تقويم، بلا تدبير، كمن يحرث في البحر. في المقابل، بعض المفتشين لا يظهرون إلا في موسم التفتيش الرسمي، فاقدو الشيء لا يعطونه، ولا أثر لهم في تكوين أو مواكبة أو تحفيز. التعليم بلا تأطير جدي، والتعليم بلا محاسبة. إننا نعيش سياسة دعهم يمرون، حتى صار شعار المدرسة المغربية: العام زين والنجاح مضمون. الفروض تُنفخ، الامتحانات تُميع، المديرون يتنافسون في نسب النجاح كأنها بورصة وهمية، والتلاميذ يدركون أن لا أحد يعاقب، ولا أحد يُحاسب، ولا أحد يُسائل. أي تعليم هذا؟ كيف نُنتج نخبة إذا كانت الثالثة إعدادي تعج بأميين مقنعين؟ متى نصلح حال التعليم إذا استمررنا في تزوير الأرقام، وتلميع التقارير، وتزييف الواقع؟ نحن لا نحتاج لخطابات سياسية رنانة، بل إلى الصرامة، إلى الحزم، إلى القرار الجريء. نحتاج إلى وزير يملك الجرأة على قول الحقيقة، لا وزيرا يرقص على أنغام الريادة والميثاق والنموذج التنموي بينما الواقع ينهار. رسالتي إلى الآباء: راقبوا أبناءكم، خاصة الهواتف النقالة، فهي تدمر عقولهم رسالتي إلى المديرين: كفى تزويرا للإحصائيات، فأنتم تلعبون بالنار رسالتي إلى الأساتذة: لا تكونوا جزءا من المهزلة، حافظوا على ما تبقى من كرامة المدرسة رسالتي إلى الوزارة: إن كنتم فعلا تسعون للإصلاح، فابدؤوا من الحقيقة أما إن استمر الحال على ما هو عليه، فلا تستغربوا إذا هرب كل أستاذ من القسم، وتحوّل التعليم إلى مقبرة جماعية لروح الوطن.