خطاب بنكيران بين الشعبوية وإكراهات الواقع

يُعدّ خطاب عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة المغربية الأسبق، نموذجًا دالًا على التوتر القائم بين منطق الشعبوية ومتطلبات الواقعية السياسية. فالرجل، الذي استقطب اهتمام الرأي العام بأسلوبه غير المألوف في التواصل السياسي، قدم نموذجًا خطابيا مركبًا يعكس استراتيجيات متعددة تتراوح بين التعبئة الجماهيرية والامتثال لإكراهات الدولة ومؤسساتها.
من خلال تتبع خطابه في مختلف المحطات، يمكن استنتاج أن بنكيران قد استثمر أدوات الشعبوية لا فقط لجذب القواعد الشعبية، بل أيضًا لإعادة تشكيل العلاقة بين الحاكم والمحكوم. إذ اعتمد لغةً بسيطة، مباشرة، تخاطب المشاعر أكثر مما تخاطب العقل، واستند إلى مفردات قريبة من اليومي المعيش، ما أتاح له بناء صورة الزعيم القريب من هموم المواطن. هذه الشعبوية الخطابية لم تكن معزولة عن السياق، بل جاءت كاستجابة ذكية لمرحلة ما بعد “الربيع العربي”، حيث تصاعدت مطالب الشفافية والمحاسبة وانخفض منسوب الثقة في النخب التقليدية.
غير أن هذا المنحى لم يكن كافيًا لتدبير الشأن العام. فعندما انتقل بنكيران من المعارضة إلى رئاسة الحكومة، واجه بنية مؤسساتية ذات تعقيد عالٍ، وأجندة اقتصادية واجتماعية لا ترحم. هنا، بدأ منحى الواقعية يتسلل إلى خطابه. فقد أقر في أكثر من مناسبة بوجود “جهات فوق الحكومة”، واعترف بحدود صلاحياته، بل وأحيانًا برر قرارات غير شعبية، كإصلاح صندوق المقاصة، انطلاقًا من منطق الضرورة الاقتصادية لا من منطلق الالتزام الإيديولوجي. من هذه الزاوية، يمكن القول إن بنكيران مارس نوعًا من “الواقعية السياسية الاضطرارية”، تقتضيها توازنات الحكم وليست نابعة من قناعة مبدئية.
الجدير بالاستنباط هو أن هذا التذبذب بين الشعبوية والواقعية لم يكن مجرد ارتباك في الخطاب، بل كان في جوهره محاولة لإنتاج توازن سياسي هش، يحفظ لبنكيران حضوره الجماهيري من دون أن يقطع مع متطلبات الدولة العميقة. وفي هذا التوازن، برز نوع من البراغماتية المبطنة، التي تُخفي أحيانًا أكثر مما تُصرّح، وتُناور أكثر مما تواجه.
ما يمكن الخروج به من قراءة هذا الخطاب هو أن بنكيران لم يُعد إنتاج الشعبوية في سياقها التقليدي، بل عمل على تطويعها بما يتناسب مع شروط السلطة. لم يكن ثوريًا ولا إصلاحيًا صِرفًا، بل جسّد تجربة هجينة، تقف عند تخوم الحماسة الخطابية ومحدودية الفعل السياسي. هذه الهجنة، وإن بدت مربكة في بعض لحظاتها، تعكس واقع السياسة في المغرب، حيث تتشابك الاعتبارات الحزبية مع حدود الدولة وموازين القوى.
في المحصلة، لا يمكن الحكم على خطاب بنكيران إلا باستحضار السياقين: سياق الصعود الذي استدعى أدوات الشعبوية، وسياق الحكم الذي فرض الواقعية. وبين هذين القطبين، نجح بنكيران في تأمين حضور رمزي قوي، غير أن مسافة القول والفعل ظلّت قائمة، تطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الخطاب السياسي في المغرب وحدود تحوله من أداة تعبئة إلى أداة تغيير فعلي.
اترك تعليقاً