إعادة تربية الحس المشترك.. حينما تجاوزت البشرية شهادة الحواس

إن الخطاطة المفهومية القديمة لرؤية العالم، تشكلت في انسجام تام مع الحواس، ويكفي التذكير بالنظام الفلكي الذي تم ابتكاره بتظافر جهود الحضارات، ليستقر في نظرية صارمة مع اليونان ويصبح منوالا من خلاله يفسر الإنسان ظواهر السماء ويضبط حساباته وتنبؤاته ويجيب عن حاجاته النفسية العميقة التي تبعث في كيانه الأمان والسكينة وتسمح له بالتموقع في الكون وكذلك تحدد له علاقته مع الله وهكذا من القضايا التي من خلاله يسكت الإنسان مخاوفه وهواجسه القلقة.
هذه النظرية الفلكية التي تسمى بنظرية مركزية الأرض أو نظام الكرتين كما يحلو لتوماس كوهن صاحب مفهوم البرادايم تسميتها ويقصد كرة الأرض المحاطة بكرة النجوم الثابتة…كانت ناجعة جدا لأنها ليس فقط تحقق شرط الاقتصاد، أي تتميز بالبساطة والقدرة على تكثيف التفاصيل في توليفة متناغمة،و حل المعضلات الطارئة، وليس فقط لما تحققه من خصوبة، أي قدرتها على فتح الباب على تنبؤات ومعارف جديدة دون مشاهدة أو تجربة حتى. بل هي كانت ناجعة بالأساس لانسجامها مع الحس المشترك المعتمد على شهادة الحواس.
يجب أن نعلم أن الحواس بشكلها الخام لعبت دورا أساسيا في نجاح الخطاطة المفهومية {البردايم، النظرية…} القائمة على مركزية الأرض، وطرد الأخرى المنافسة لها، إذ أن كل المقترحات البديلة القديمة{ هراقليطس، الفيتاغوريون،أرسطرخس (يسمى كوبيرنيكوس العصر القديم)…} والتي حاولت الخروج من قفل مركزية الأرض وثباتها لم تجد نجاحا ولم تؤخذ بمحمل الجد، بل كانت محط سخرية، إلى الحد الذي جعل صاحب كتاب “المجسطي” وهو أعظم فلكي في القديم( القرن2 م) يعتبر “دوران الأرض” افتراضا سخيفا، بل هو ما جعل كوبيرنيكوس في مقدمة كتابه “في دوران الاجرام السماوية”( 1543) يحرص على إبراز أن تحريكه للأرض ليس حمقا.
إن أكبر حائط حال دون ظهور الكوبيرنيكية مبكرا هو شهادة الحواس، التي أكدت، ولاتزال عند البعض، على أن الأرض مجرد منصة ثابتة تسمح بمراقبة السماء المليئة بالكرات المضيئة والبراقة كالمصابيح، حيث الدوران الخالد( الدائرة أكمل شكل هندسي، فهو بلا بداية ولا نهاية) المعبر عن قداسة ورفعة، لا نملك مثلها في الأرض السافلة، التي قدت من حجر وطين، إنها محل التغير والفساد، محل سقوط الأشياء، محل تنفق فيه الحيوانات والنباتات، محل تنهار فيه الحضارات وتتغير فيه ملامح الأرض وطوبوغرافيتها جراء الفيضانات والأعاصير…لذلك كان من العبث عند الحس المشترك القديم أن تكون الأرض شبيهة بالأجرام السماوية المتميزة بالثبات الذي لا نجد له مكانا في الأرض.
كل هذا جعل فكرة تحريك الأرض حمقا وهو ما نسف كل الجهود الرامية قديما في ذلك، حيث ظل قفل مركزية الأرض وثباتها صامدا، فالقول بحركتها كان يعني مباشرة شتات الأشياء على الأرض وتناثر الصخور والأشجار والحيوانات والبشر كما تتطاير الأحجار من المقلاع، بل سيتخلف الهواء والسحب والطيور عن الأرض، والذي سيقفز سينزل في غير مكانه، لأن الأرض ستكون قد تحركت مسافة عنه…
إن شهادة الحواس كانت ركنا ركينا في استمرار المنظومة الفلكية التراتبية لقرون عديدة، إلى أن جاء الفرج النظري بعد مغامرة كوبيرنيكوس الشهيرة حينما قذف بالأرض في السماء، فبدأ الانسان يغادر شهادة الحواس ويعيد تهذيبها وتصويبها وتنقيحها وتمحيصها وهو ما اشتهر في العصر الحديث بالمنهج لحسن قيادة العقل والعمل على إخراجه من سذاجة النقل الخام للعالم.
إن الطفل الصغير وجراء سطوة شهادة حواسه سينظر للعالم كما نظر إليه الأقدمون وسيرى في الأرض الثبات وأن السماء فوق… لكن وجراء إعادة تربيته وجراء سلطة المدرسة… سيقتنع أن الأرض مجرد كوكب وحصاة في عالم لانهائي، لقد تمكن الزمن الحديث من خلق حس مشترك جديد قوامه عدم تصديق الحواس والعمل على تمحيصها دوما، وهو ما يسمى أحيانا بالتفكير النقدي، فالحداثة في المحصلة هي منظومة تؤكد على أنك مطالب بالسير في هذه الحياة وأنت تكذب حواسك (بصرا وسمعا) لأنها مضللة ولا تقدم العالم إلا مزيفا. فالسلطة كل السلطة للعقل القادر على التصويب والترميم، فإذا كانت الشمس تبدو قريبة بالحواس، فإن العقل سيعيد لك الحسابات ويقول لك إنها بعيدة ب 150 مليون كلم، وهي الحقيقة التي لن تقدر عينك على بلوغها.
نخلص إلى التالي: إذا كانت فكرة لا نهائية العالم قد أصبحت ذائعة، وهي أفق رؤيتنا اليوم للعالم، بل هي الآن ضربا من الحس المشترك، فإنه ينبغي التذكير أن هذا الحس المشترك قد تم إعادة تربيته، علما أن الحس المشترك القديم المعتمد على شهادة الحواس ما كان كما هو الآن ( أرض ثابتة، عالم ممتلئ ونهائي ومتراتب…). إن إعادة برمجة وصناعة العقول ممكنة دوما بواسطة التربية، علما أن المدرسة لم تعد إلا جزء صغيرا من أدوات هذه الصناعة.
اترك تعليقاً