الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال في النزاعات المسلحة: فشل الحماية وتحديات المساءلة الدولية

في زمن تتكاثر فيه النزاعات المسلحة وتتشابك فيه خرائط المصالح الدولية، لم تعد الطفولة بمنأى عن الصراع، بل أضحت قلب المأساة النابض وأكثر ضحاياه هشاشة وعمقًا. فالطفل في مناطق الحرب لا يُقتل فقط بالرصاص، بل يُغتال في هويته، في تعليمه، في أحلامه، في نموه الجسدي والنفسي، بل في قدرته المستقبلية على الحياة ذاتها. إن ما يجري اليوم في أوكرانيا وغزة وسوريا ومناطق أخرى كثيرة من العالم ليس مجرد انتهاك للحقوق، بل هو محوٌ قاسٍ لمعنى الطفولة ولفكرة الأمان الإنساني.
في غزة، حيث تتوالى الضربات الجوية وتنهار البنى التحتية يومًا بعد يوم، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 11,000 طفل قد قضوا خلال الحرب الأخيرة، من بينهم آلاف لم تتجاوز أعمارهم الخمس سنوات. لا مياه، لا غذاء، لا كهرباء، ولا مستشفيات يمكنها استقبال الجرحى. الأطفال هناك لا يلعبون، لا يدرسون، ولا يبتسمون. بل ينامون على صدى الانفجارات، أو لا ينامون على الإطلاق. بعضهم فقد والديه، وبعضهم بُترت أطرافه، وبعضهم فقد القدرة على الكلام بسبب الصدمة. مدارس مدمرة، عائلات مفككة، ومخيمات مكتظة تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة. جيلٌ كامل على وشك الضياع أمام أعين العالم، دون أن تهتز لأحد ضمائر.
في أوكرانيا، مأساة أخرى تتكشف بأشكال مختلفة. دُمرت آلاف المدارس، وتوقفت العملية التعليمية أو انتقلت إلى الإنترنت حين تتوفر الكهرباء، وهي غالبًا لا تتوفر. يتحدث الخبراء عن تأخر دراسي قد يصل إلى عامين لدى غالبية الطلاب الأوكرانيين، مما يهدد مستقبلهم الجامعي والمهني. أما الأخطر، فهو نقل عشرات الآلاف من الأطفال الأوكرانيين قسرًا إلى روسيا وبيلاروسيا، وفصلهم عن ذويهم. هؤلاء الأطفال لا يعرفون الآن أي وطن ينتمون إليه، وأي هوية يحملونها. في ظل الحرب، لا تذبل الزهور فقط، بل تذبل الجذور، وتتيه الأرواح الصغيرة في صحراء لا عنوان لها.
في سوريا، وبعد أكثر من عقد على اندلاع الحرب، لا يزال الأطفال يدفعون الثمن الأغلى. تشير التقديرات إلى أن أكثر من 12,000 طفل قُتلوا أو أصيبوا بشكل مباشر، وأن ثمانية ملايين طفل بحاجة ماسة إلى مساعدات إنسانية. أكثر من نصف مليون طفل يعانون من تأخر في النمو، وهو تأخر غالبًا لا يمكن استدراكه. في مخيمات اللجوء، يُجبر الأطفال على العمل أو الزواج المبكر أو التسول. هناك طفلات في الرابعة عشرة من العمر متزوجات، وأطفال في العاشرة يعملون في نقل الأحمال أو تنظيف الشوارع. الطفولة هنا ليست منتهَكة فقط، بل مُستعبدة، ومختزلة في أدوار لم تُخلق من أجلها.
في مناطق النزاع داخل إفريقيا، وخصوصًا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، يواجه الأطفال شكلًا آخر من أشكال الجحيم. آلاف من حالات العنف الجنسي تُسجل سنويًا، وأغلب ضحاياها من الفتيات القاصرات. يتم تجنيد الأطفال بشكل واسع النطاق، ويُستخدمون كجنود أو رسل أو حتى كقنابل بشرية. لا قانون يحميهم ولا سلطة قادرة على منع استغلالهم. تغيب الدولة وتغيب العدالة، ويعلو صوت البندقية على أي صوت آخر. وحين يُسأل أحدهم عن مصير الطفولة، تكون الإجابة في الغالب: لا وقت لذلك، فالحرب لا ترحم أحدًا.
ومع تصاعد هذه المآسي، يثور السؤال الأهم: من المسؤول عن كل هذا؟ هل يمكننا حقًا أن نغض الطرف عن الأدوار الكبرى التي تلعبها القوى العالمية؟ وهل يمكن إعفاء الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها أحد الفاعلين الأساسيين في أغلب النزاعات، من المسؤولية الأخلاقية والقانونية؟ حين تموَّل الحروب وتُزود الأسلحة وتُعطى التغطيات السياسية، فإن الفاعل يصبح شريكًا في النتيجة، سواء أكانت تلك النتيجة قرية مدمرة أو طفلة مبتورة أو جيلاً كاملًا مفقودًا.
القانون الدولي الإنساني، رغم كل ما ينص عليه من حماية للأطفال والمدنيين في النزاعات، يبدو اليوم عاجزًا. المحكمة الجنائية الدولية محدودة الولاية، وقرارات مجلس الأمن تُقيدها حسابات الفيتو والمصالح السياسية للدول الكبرى. نحن في نظام دولي يتيح للفاعل أن يكون القاضي، ويجعل من الضحية مجرد رقم في تقرير إخباري. كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يحفظ ماء وجهه، وهو يرى أطفالًا يُستدرجون، ويُجندون، ويُهجرون، ويُغتصبون، ويُقتلون، دون أن يتحرك بجدية؟
حتى حين تنتهي الحرب، لا تنتهي معاناة الطفل. الألغام تبقى لعقود، تعرقل الزراعة والتنقل، وتحول الحياة إلى حقول موت متنقلة. الأطفال الذين لم يُقتلوا قد يصبحون معاقين بسبب هذه الألغام. والمدارس التي هُدمت لن تُبنى سريعًا، ولا يمكن استدراك السنوات الضائعة من التعليم. أما الأطفال الذين وُلدوا في خضم الحروب، فهم لا يعرفون شكلًا آخر للحياة سوى الحصار والخوف والصراخ. ماذا نقول لهم حين يسألوننا: لماذا تركتمونا نعيش في الجحيم؟
هذا الواقع يستدعي مراجعة شاملة، لا في النصوص القانونية فقط، بل في ضمير الإنسانية. لا يمكن للعالم أن يتذرع بعدم المعرفة أو بالعجز عن التدخل. هناك حاجة ماسة إلى إرادة سياسية دولية تضع حياة الأطفال فوق حسابات الربح والخسارة. يجب فرض حظر شامل على تجنيد الأطفال، وتجريم تمويل الجماعات المسلحة التي تستغلهم، ومحاسبة الدول التي تغض الطرف أو تساهم في صناعة الموت. التعليم والرعاية النفسية يجب أن يُدرجا ضمن أولويات إعادة الإعمار، لأن الطفل الذي لا يُعالَج اليوم قد يصبح وقود حرب الغد.
ولعل المفارقة الأكثر قسوة، هي أن العالم ينفق مليارات الدولارات على التسليح، بينما يتقلص دعم برامج المساعدات الإنسانية والتعليمية والغذائية. هناك خلل بنيوي في التوازن بين الأمن الإنساني والأمن العسكري، خللٌ تُدفع كلفته من دماء الصغار وأحلامهم. لقد أصبح الطفل أداةً في النزاع: إما وقودًا للحرب، أو وسيلة للضغط السياسي، أو رقمًا في بورصة المعاناة. والحال أن حماية الطفولة ليست خيارًا، بل اختبار حقيقي لمصداقية الحضارة البشرية.
قد يقول البعض إن الحروب كانت دائمًا هكذا، وإن الأطفال كانوا دومًا ضحايا. لكن الفرق اليوم أن لدينا القوانين، والمواثيق، والمؤسسات، والقدرات الإعلامية، والوعي، ومع ذلك لا نفعل شيئًا. الصمت لم يعد حيادًا، بل تواطؤًا. والسكوت عن الظلم لا يعني سوى تمكينه. فحين تُسأل الإنسانية مستقبلاً: أين كنتم حين احترقت الطفولة؟ لن يكون لديها سوى المرآة لتتأمل خيبتها.
نحن بحاجة إلى أن نُعيد للطفل مكانته كمركز لأي منظومة أخلاقية وإنسانية. فالطفولة ليست مجرد مرحلة عمرية، بل هي معيار حضاري. وإذا فقدنا هذا المعيار، فإننا لا نحارب في الجبهات فقط، بل نخسر أنفسنا في العمق.
اترك تعليقاً