الأغلبية الحكومية بين التحالف والتنافس الانتخابي

مع اقتراب نهاية الولاية الحكومية، تبدو الساحة السياسية مهيأة لتحولات دقيقة في بنية الأغلبية الحاكمة، ليس بفعل صراعات صريحة أو تفكك معلن، بل من خلال مؤشرات سياسية ناعمة قد تعكس بداية مسار جديد. هذا المسار – إن تأكدت علاماته – لن يكون مجرد انزياح انتخابي أو إعادة تموقع حزبي، بل تعبيرًا عن تحول أعمق في وظيفة الأغلبية نفسها، وفي طبيعة العلاقة بين السياسة، الدولة، والمجتمع.
هذه الفرضية، وإن كانت لا تزال في طور التكوين، تستند إلى مجموعة من المعطيات والسياقات التي تستحق قراءة هادئة ومستبصرة، بعيدًا عن التهويل أو التبسيط.
أغلبية ذات طابع وظيفي: بين وحدة القرار وتباين الخطاب
منذ تشكيلها، بدت الأغلبية الحاكمة أقرب إلى صيغة تدبيرية وظيفية منها إلى تحالف سياسي فعلي. لقد وحّدها السياق الانتخابي، وربما ضرورات “الاستقرار المؤسساتي”، لكنها لم تُظهر انسجامًا كاملاً على مستوى التصورات العميقة أو المرجعيات المؤطرة للفعل الحكومي.
ومع اقتراب نهاية الولاية، من غير المستبعد أن تبدأ مكونات هذه الأغلبية – بشكل تدريجي – في استعادة استقلاليتها الخطابية، إما تحت ضغط قاعدتها الجماهيرية، أو في أفق التحضير لمرحلة ما بعد الانتخابات المقبلة. هذه العودة المحتملة إلى “الخطاب الحزبي الخاص”، لا تعني بالضرورة انهيار التحالف، ولكنها قد تؤشر إلى تغير في طبيعة الالتزام الجماعي داخل الأغلبية، من التزام استراتيجي إلى التزام تكتيكي ظرفي.
الهوية الحزبية تحت الضغط: استعادة الذات أم انكماش رمزي؟
من المرتقب أن تجد الأحزاب المكوّنة للأغلبية نفسها، في الأشهر القادمة، أمام خيار صعب: هل تستمر في الدفاع الجماعي عن حصيلة حكومية قد تكون مثقلة بتحديات اجتماعية واقتصادية حارقة؟ أم تنحو نحو تمييز خطابها، وإبراز خصوصيتها، كخطوة استباقية لتحصين حضورها في الاستحقاقات المقبلة؟
الفرضية الثانية قد تزداد جاذبية مع تنامي الغضب الاجتماعي في قطاعات واسعة من المواطنين، الذين يربطون – عن وعي أو بغير وعي – بين معاناتهم اليومية وبين الأداء الحكومي. وفي هذه الحالة، قد تبدأ الأحزاب في إعادة بناء سرديتها الخاصة، عبر التركيز على ما كانت تقترحه ولم يُنفذ، أو عبر التلميح إلى تباين داخلي غير معلن.
وهنا، يصبح التعايش داخل الأغلبية مرهونًا بتوازن هش بين “منطق التضامن الحكومي” و”منطق البقاء الحزبي”.
المشهد الاجتماعي والسياسي: أرضية خصبة للتوتر الرمزي
التحولات المنتظرة في سلوك الأغلبية لا يمكن فصلها عن المناخ الاجتماعي الآخذ في التوتر الصامت. فالمؤشرات المرتبطة بتكلفة المعيشة، الفوارق المجالية، وتحديات التشغيل، تُلقي بثقلها على المزاج العام. لكن ما يُقلق أكثر ليس فقط حجم المشكلات، بل طريقة تمثلها داخل المجتمع.
في هذا السياق، أي انزلاق في خطاب الأغلبية نحو التموقع السياسي بدل الإنجاز العمومي قد يُفهم شعبيًا كنوع من “التنصل” من المسؤولية، أو “التهيؤ للانسحاب الرمزي”، مما يهدد بإفراغ السياسة من محتواها التمثيلي، ويكرّس القطيعة المتنامية بين المجتمع والنخب.
خطاب سياسي في مفترق طرق:
إذا ما استمر هذا المنحى، فإن الخطاب السياسي العام مرشح للدخول في مرحلة جديدة، تتسم بما يمكن تسميته بـ**”الازدواج الرمزي”**: خطاب تضامني رسمي داخل الحكومة، وخطاب تمهيدي انتخابي خارجها، يتبناه كل حزب على حدة. وقد يتعمق هذا الازدواج مع اقتراب مواعيد الاستحقاقات، حيث سيُعاد رسم الحدود بين “ما تم إنجازه جماعيًا” و”ما لم يُتح تحقيقه فرديًا”، كنوع من توزيع رمزي للمسؤولية والإشادة.
والمحصلة؟ خطاب سياسي مفتت، يُربك المتلقي، ويفاقم أزمة المعنى داخل المجال العمومي.
الرهان اليوم، ليس فقط على إنقاذ الانسجام داخل الأغلبية، بل على استعادة المعنى السياسي للالتزامات الحكومية. فالتحدي الأكبر لا يكمن في الحفاظ على تماسك التحالف، بل في إعادة الاعتبار للثقة التي منحتها صناديق الاقتراع. ذلك أن تفكك الأغلبية – إذا ما حدث – لن يكون مجرد حدث سياسي، بل إعلانًا ضمنيًا عن فشل نموذج كامل في إنتاج الاستمرارية السياسية.
ما نحتاجه في المرحلة المقبلة هو وعي استراتيجي بمآلات هذا الانزياح الخطير، والقدرة على تجاوز منطق الحسابات الظرفية، نحو تفكير جماعي عميق في سؤال الدولة، التنمية، والتمثيل السياسي.
هل نُعيد التفكير في السياسة قبل أن نُعيد ترتيب التحالفات؟
قد تكون الأشهر القادمة حبلى بمفاجآت، لكنها ستظل – في الغالب – محكومة بحدود البنية السياسية نفسها. لذلك، فإن أي محاولة لتأجيل طرح الأسئلة الحقيقية، أو معالجة الإشكالات بترقيعات لفظية، لن تؤدي إلا إلى تعميق الشرخ.
الرهان الحقيقي ليس فقط في “بقاء التحالف الحاكم”، بل في استعادة السياسة كأداة عقلانية وشفافة لتدبير الاختلافات، بدل أن تصبح واجهة لتصريف تناقضات مؤجلة. فإما أن تُستعاد السياسة بوصفها أداة لبناء المشترك، أو أن نستمر في الدوران داخل دوائر مغلقة من التوافقات الشكلية .حقاقات، حيث سيُعاد رسم الحدود بين “ما تم إنجازه جماعيًا” و”ما لم يُتح تحقيقه فرديًا”، كنوع من توزيع رمزي للمسؤولية والإشادة.
والمحصلة؟ خطاب سياسي مفتت، يُربك المتلقي، ويفاقم أزمة المعنى داخل المجال العمومي.
الرهان اليوم، ليس فقط على إنقاذ الانسجام داخل الأغلبية، بل على استعادة المعنى السياسي للالتزامات الحكومية. فالتحدي الأكبر لا يكمن في الحفاظ على تماسك التحالف، بل في إعادة الاعتبار للثقة التي منحتها صناديق الاقتراع. ذلك أن تفكك الأغلبية – إذا ما حدث – لن يكون مجرد حدث سياسي، بل إعلانًا ضمنيًا عن فشل نموذج كامل في إنتاج الاستمرارية السياسية.
ما نحتاجه في المرحلة المقبلة هو وعي استراتيجي بمآلات هذا الانزياح الخطير، والقدرة على تجاوز منطق الحسابات الظرفية، نحو تفكير جماعي عميق في سؤال الدولة، التنمية، والتمثيل السياسي.
اترك تعليقاً