وجهة نظر

آفاق إصلاح المندوبية السامية للتخطيط.. بين الرؤية الملكية الطموحة والمقترح البرلماني والهدر الحكومي للزمن الإصلاحي

أحدث الملك محمد السادس بتاريخ 12 ديسمبر 2019 اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، وعين على رأسها السيد شكيب بنموسى، وتكتسي هذه اللجنة طابعا استشاريا وترتكز مهامها على إعداد نموذج تنموي جديد، ولذلك تقوم بتشخيص دقيق وبكل موضوعية للواقع، حيث اعتمدت هاته اللجنة نهج التشاركية، وقامت بصياغة نموذج تنموي جديد وتقديمه بتاريخ 21 ديسمبر 2021 أمام جلالة الملك.

ومن بين أهم ما تم اقتراحه في هذا التقرير هو وضع مؤشرات لتقييم النتائج في أفق 2035 تروم بلورة الأهداف الرئيسية للنموذج التنموي الجديد بشكل صريح ومرفق بالأرقام وقابل للقياس، وتهدف هذه المؤشرات حسب نص التقرير إلى: “قياس الأثر النهائي لمدلول التنمية، كما تبرز أهمية النتائج المحققة بالنسبة للفاعلين المكلفين بالتفعيل، مع الاحتفاظ بالمرونة اللازمة في إيجاد الحلول والإجراءات المناسبة من أجل تحقيقها”، وذلك لإرساء ثقافة النتائج وحسن الأداء وإضفاء شفافية أكبر على الفعل العمومي.

في نفس الإطار ، وبتاريخ 8 أكتوبر 2021، دعا جلالة الملك إلى إصلاح عميق للمندوبية السامية للتخطيط وجعلها آلية للتنسيق في سياسات التنمية، ومواكبة تنفيذ النموذج التنموي وفق معايير مضبوطة ووسائل حديثة للتتبع والتقويم، وعين بتاريخ 18 أكتوبر 2024 السيد شكيب بنموسى مندوبا ساميا على رأسها ، وهو ما يعتبر استكمالا للخطاب الملكي الإصلاحي للمندوبية السامية للتخطيط بربطها بالنموذج التنموي الجديد، فجلالة الملك كلفها بتتبع النموذج التنموي الجديد لما يعلمه مسبقا من استقلالية نهجها وعدم تبعيتها لأي جهة سياسية أو إيديولوجية كانت، بالإضافة إلى تجرد أطرها وتقنيتهم وكفاءتهم العالية، والى اليوم لم تقدم الحكومة أية رؤية إصلاحية للنظام الاحصائي المغربي وهو ما يعتبر هدرا للزمن الإصلاحي وللزمن التشريعي دون أي مبرر.

نتساءل في هذا المقال عن مآل الرؤية الملكية وتفاعل كل من الحكومة والبرلمان معها؟ وفي نفس الوقت، عن فعالية النظام الاحصائي في تقييم السياسات العمومية؟

أولا: فاعلية النظام الإحصائي في تقييم السياسات العمومية

يساهم النظام الإحصائي في وضع خطط للتنمية، حيث يضع مؤشرات لقياس مدى نجاحها، وقد أوكل الفصل 101 من دستور 2011 لأول مرة للبرلمان مهمة تقييم السياسات العمومية، في هذا السياق، تنص المادة 303 من النظام الداخلي لمجلس النواب على ما يلي: “يهدف التقييم الذي يقوم به مجلس النواب إلى إنجاز أبحاث وتحاليل دقيقة بهدف التعرف على نتائج السياسات والبرامج العمومية، وقياس أثرها على الفئات المعنية بها وعلى المجتمع، كما يهدف إلى معرفة مستوى الإنجاز الذي تم تحقيقه قياسا بالأهداف المرسومة وتحديد العوامل التي مكنت من بلوغ تلك الأهداف، وذلك بغية إصدار توصيات وتقديم اقتراحات بشأن التحسينات التي يمكن إدخالها على السياسة العمومية موضوع التقييم”، وتضيف المادة 307 على: “(…) يمكن لرئيس مجلس النواب، (…) أن يوجه طلبا إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أو إحدى هيئات الحكامة والمؤسسات الدستورية بحسب الحاجة، لإبداء الرأي أو إعداد دراسة أو بحث حول البرنامج العمومي موضوع التقييم”.

لتفعيل التقييم، يواجه البرلمان مجموعة من الإكراهات في ممارسة هذا الاختصاص، حيث يجد صعوبة في وضع منهجية تقنية للتقييم، فالصورة النمطية للبرلمان تتمثل في تسجيل مناقشات حول السياسات العمومية، ولا يمكنه وضع معايير لمبادئ عمل تقييمي تقني يقوم على الاحتكام إلى مؤشرات دقيقة تربط النتائج بالآثار، فالبرلمان لا يتوفر كذلك على منظومة تقنية لاستخدام المناهج التقييمية، فالبحث عن أثر السياسات العمومية في المجتمع يتطلب إنجاز بحوث ميدانية ودراسات تقنية ذات مصداقية تفحص الوثائق والأهداف والأساليب لكل مرحلة على حدة وتأثير النتائج على المجتمع. وهو ما يقتضي مؤسسة تقنية ذات أطر عالية، ترقى إلى مستوى مؤسسة دستورية تتمتع بالاستقلالية والمصداقية لدى المؤسسات الوطنية والدولية، يشمل عملها تقييما استباقيا ومواكبا وبعديا.

في هذا الإطار، لا توجد مؤسسة بهذه المواصفات غير تابعة للسلطة التنفيذية تقوم بما تقوم به المندوبية السامية للتخطيط، فالبرلمان يمكنه طلب رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ولكنه لا يطلب رأي المندوبية السامية للتخطيط ولا يمكنه تكليفها للقيام بدراسة إحصائية لفائدته. وفي المقابل، يقوم البرلمانيون باستعمال مؤشرات ونتائج الإحصائيات التي تنتجها المندوبية لمواجهة الحكومة في حال عجزها عن بلوغ الأهداف التي تضعها في برامجها، ويلاحظ الاستعمال المكثف لمؤشر البطالة والتضخم. وبالتالي، فنظريا وقانونيا لا يمكن تكليف المندوبية السامية للتخطيط لإجراء دراسات لتقييم السياسات العمومية لفائدة البرلمان، ولكن عمليا يستعمل البرلمان نتائج دراساتها لمواجهة الحكومة.

للخروج من هذا المأزق، نقترح ثلاث سيناريوهات:

الأول، بالرجوع إلى خطاب جلالة الملك الموجه لإصلاح المندوبية السامية للتخطيط يمكن وضع مؤشرات واضحة لتتبع وتقييم ومواكبة النموذج التنموي الجديد من طرف المندوبية السامية للتخطيط، وضمان استقلاليتها وتجرد نتائجها، لذلك سيسهل على البرلمان الاعتماد على نتائجها لتقييم السياسات العمومية.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا تم وفقا للمادة 307 من النظام الداخلي لمجلس النواب انتداب المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لإعداد دراسات وتقارير حول سياسة ما، يمكن لهاته المؤسسة أن تكلف المندوبية السامية للتخطيط بإجراء دراسات تقنية محايدة، فيما تتكلف هي بإعداد تقرير للبرلمان وذلك لن يتأتى إلا في حال تغيير التشريع الخاص بالمندوبية السامية للتخطيط أو القانون التنظيمي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أو عقد اتفاقية شراكة بينهما.

في سيناريو ثالث، إحداث مجلس وطني للإحصاء مختص بتقديم تقارير احصائية للبرلمان. وهو ما يجعلنا نساءل عن المسار المتعثر لإصلاح المندوبية السامية للتخطيط.

ثانيا: تعثر إصلاح النظام الإحصائي المغربي

يأتي سياق إصلاح وتأهيل المندوبية السامية للتخطيط في إطار ما جاء به القانون الإطار رقم 50.21 المتعلق بإصلاح المؤسسات والمقاولات العمومية، وهو ما سبق أن أكدت عليه الخطابات الملكية في العديد من المناسبات، لاسيما الخطاب الملكي السامي الموجه إلى الأمة بمناسبة تخليد عيد العرش بتاريخ 29 يوليوز 2020، وكذلك الخطاب الملكي الموجه إلى أعضاء البرلمان بتاريخ 09 أكتوبر 2020.

لتفعيل هذا القانون، تم إصلاح العديد من المؤسسات كالمندوبية السامية للمياه والغابات، وإحداث المجموعات الصحية الترابية، وإحداث الشركات الجهوية متعددة الخدمات.

في هذا السياق، دعا جلالة الملك لإجراء إصلاح عميق للمندوبية السامية للتخطيط لتعزيز المنظومة الإحصائية وتجويد نتائجها وترسيخ مكانتها بين المؤسسات بما يتطلب استقلاليتها وحيادها وإدماجها في منظومة تقييم السياسات العمومية ومواكبة النموذج التنموي الجديد.

تفاعلا مع الخطاب الملكي، وبتاريخ 21 مارس 2024، تقدمت عدد من المستشارين بمجلس المستشارين بمقترح قانون لإحداث مجلس وطني للإحصاء ووكالة وطنية للإحصاء والمعلومات، وقد تم احالته على لجنة المالية والتخطيط والتنمية الاقتصادية بتاريخ 5 ابريل 2024، وقد تضمن المقترح تسعة عشر مادة وخمسة أبواب؛ منها الإحداث والمهام، أجهزة الإدارة والتسيير، الموارد والتنظيم المالي، والموارد البشرية.

نص هذا المقترح على تأليف المجلس الوطني للإحصاء من ثلاث أعضاء يعينهم الملك، وعضوان يعينهم رئيس الحكومة، وعضوان يعينهم رئيس مجلس النواب، وعضوان يعينهم رئيس مجلس المستشارين، الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، والي بنك المغرب، والذين يعينون لمدة خمس سنوات غير قابلة للتجديد. يتبين من تأليف هذا المجلس أنه يتميز بالتعيين الثلاثي (الملك، الحكومة، البرلمان) بالإضافة إلى بعض رؤساء المؤسسات العمومية. وللإشارة فقط، فإن المجلس الوطني للمياه والغابات والذي أحدث بموجب قانون لإصلاح المندوبية السامية للمياه والغابات، فيتشكل من ممثلي الإدارة، الأحواض المائية، مؤسسات التكوين، والمهنيين. و بموجب هذا المقترح فصل الاختصاص التكويني للوكالة الإحصائية ونقله للمؤسسات الجامعية، دون التطرق لتعزيز صلاحيات الهيئة الإحصائية ولا ربطها بالمعايير الأممية للإحصاء.

في هذا المقترح كذلك، تمت الإشارة إلى رئيس الوكالة، والمدير العام للوكالة واللذين يعينان بظهير شريف. ولرئيس الوكالة أن يفوض بعض اختصاصاته للمدير العام، حيث يعتبر رئيس الوكالة هو رئيس المجلس والآمر بالصرف للوكالة.

تعليقا على هذا المقترح، نشير أنه وقع جمع لمهام الرئيس والمدير العام، فإذا كانت تركيبة المنظومة الإحصائية مكونة من مجلس ووكالة، فإن المجلس يعتبر الجهاز التداولي للوكالة ولا يمكن أن يكون الرئيس هو الآمر بالصرف، والرئيس التسلسلي لموظفيها. وفي نفس الوقت المشرف على الوكالة والمراقب لأنشطتها والذي يصادق على أعمالها. وبذلك، سيكون الرئيس المدير العام، لذلك وجب الفصل بين الرئيس والمدير العام.

في المقابل، لم تضع الحكومة أي تصور لإصلاح المنظومة الإحصائية بالمغرب، ولم يتم التفاعل مع هذا المقترح البرلماني ولا الاستجابة للتعليمات الملكية التي دعت لاعتماد إصلاح شامل للمندوبية السامية للتخطيط، وقد كان في التعيين الملكي للسيد بنموسى إشارة قوية لتفعيل الرؤية الملكية الشاملة والتي تنطلق من تشخيص الواقع واعتماد النموذج التنموي الجديد، الى وضع معايير إحصائية دقيقة لتتبع وتقييم البرامج الحكومية المختلفة.

خاتمة:

تبقى هاته المساهمة مقدمة لدراسة آفاق الإصلاح وتقديم مقترحات علمية بناء على تدراسة تجارب مقارنة سيتم نرها لاحقا. فقطاع الإحصاء يحتاج إلى اهتمام أكثر من مختلف المخابر العلمية الجامعية، حيث إن الأطروحات الجامعية ورسائل الماستر تكاد تكون شبه منعدمة في هذا التخصص بالرغم من أن المندوبية السامية للتخطيط إطار قانوني في التنظيم الإداري شبه استثنائي يحتاج للمزيد من الدراسات والبحوث، حيث تغيب الندوات العلمية، وإبرام اتفاقيات بينها وبين الجامعات في هذا المجال. لذلك توصي هذه الدراسة ب:

 أن يكون هذا الإصلاح عميقا يتناسب مع رؤية جلالة الملك.

 تكوين فريق عمل مكون من خبراء في التشريع الإحصائي، ومن أطر المندوبية السامية للتخطيط، الأمانة العامة للحكومة، مسؤولين بالوزارات المتدخلة.

 صياغة مشروع قانون مع الاستئناس بالقانون الإطار للإحصائيات المعد من طرف الأمم المتحدة.

 إعمال الديموقراطية التشاركية حول هذا الإصلاح بإجراء استشارات موسعة مع كل مستعملي المعلومات الإحصائية من القطاع العام والخاص.

 إشراك الأحزاب السياسية والفرق البرلمانية وأجهزة الحكامة وفعاليات المجتمع المدني والإعلام.

 الاستشارة مع مندوبي الموظفين والنقابات حول وضعية الموارد البشرية في هذا الإصلاح.

 تسريع تفعيل البحوث الجهوية وإعداد بنك بيانات جهوية لمواكبة المخططات الجهوية للتنمية، وبرامج عمل الجماعات.

 تعزيز بعد الجهوية المتقدمة بإحداث وكالات جهوية للإحصاء ذات صلاحيات تقريرية لإسناد المؤسسات الجهوية والجماعات الترابية.

 اعتماد الحكامة الجيدة، وإعداد هيكلة للوكالات الجهوية تتماشى مع الميثاق الوطني للاتمركز.

 إشاعة الثقافة الإحصائية في المجتمع، عبر اعتمادها وتعميمها في المناهج الدراسية، وبرمجة زيارات للمؤسسات التعليمية وللجامعات للتعريف بمنظومة الإحصاء وأثرها على المجتمع.

 إعداد خطة إعلامية للتعريف بالإحصاء ودوره في التخطيط والتنمية.

 إلزام الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية في مشاركة المندوبية السامية للتخطيط بياناتها الإحصائية لاستغلالها.

 تحسيس المواطنين والأسر والمقاولات الخاصة بضرورة الاستجابة للبحوث الإحصائية لما لها من أثر تنموي.

 إدماج البعد الحقوقي في البحوث الإحصائية ودراسة تطور حقوق الإنسان في المغرب خاصة بعد دستور 2011 “دستور الحقوق والحريات”.

 استغلال السجلات الوطنية في جمع المعطيات والبيانات الفردية، وفي الدراسات التقنية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، والبحوث الوطنية والإحصاء العام للسكان والسكنى القادم.

 الاستعمال الأمثل للموارد الرقمية، وإدماج الاستمارة الرقمية في البحوث الوطنية والجهوية.

 حوكمة إدارة الإحصاء، وتحفيز الموارد البشرية، وتكوينها تكوينا علميا يستجيب للطموحات خاصة في استعمال الثورة التكنولوجية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *