وجهة نظر

ابن كيران.. بين نوستالجيا المظاهرات ومقامرات الإخوان

مرة أخرى، يطل عبد الإله بن كيران بخطابه المعتاد: فلسطين، التطبيع، الشارع. الرجل يكرر نفسه منذ عشرين عاما وكأنه لم يتعلم شيئا ولم ينس شيئا. في آخر خرجاته أمام شبيبة حزبه، دعا إلى “تعبئة قوية لإسقاط التطبيع”، مذكرا بما وقع سنة 2001. لكن الحقيقة أن ابن كيران يبيع الوهم، ويعيد تدوير أسطوانة مشروخة، متغافلا عمدا عن أبسط الحقائق: التطبيع ليس شعارا حزبيا، بل قرار استراتيجيا مرتبطا بالأمن القومي وبمصير المغرب في صراعه مع جار معاد يسّلح نفسه حتى الأسنان.

لنبدأ من النقطة التي يصر عليها بن كيران: سنة 2001. يومها، يزعم أن “المظاهرات الشعبية” أسقطت العلاقات مع إسرائيل. وهذا تضليل فج. الجميع يعرف أن القرار كان سياديا اتخذه جلالة الملك محمد السادس بعد أحداث المسجد الأقصى التي هزت العالم الإسلامي. الدولة تصرفت وفق رمزية المغرب في رئاسة لجنة القدس، ولم تكن مضطرة لإرضاء شارع غاضب. كان ذلك قرارا سياسيا ودبلوماسيا مرتبطا بالسياق الإقليمي، لا صدى لهتافات بن كيران وأشباهه.

اليوم، السياق تغيّر جذريا. المغرب يواجه جارًا عدوانيا في الشرق، يعقد صفقات تسلح بالمليارات مع روسيا، ويستضيف جنرالات يسعون لزعزعة استقرار المنطقة. أي عاقل يفهم أن التطبيع مع إسرائيل ليس نزوة سياسية، بل ركيزة في منظومة الردع المغربية. طائرات مسيرة، تكنولوجيا دفاعية متقدمة، تعاون استخباراتي… كلها أوراق حاسمة لحماية حدودنا وصحرائنا. فهل يريد بن كيران أن نعود عزّلا في مواجهة “السوخوي” و”الإس-400”؟

ابن كيران يتحدث عن فلسطين وكأنه وصي عليها. لكننا نعلم جيدا أن كل خطابه لا يخدم سوى تنظيم الإخوان في غزة: حماس. هذه الحركة التي رهنت القطاع لإيران، ودفعت بأهله إلى الهلاك باسم “المقاومة”، بينما قياداتها تتمتع بالرفاه في الدوحة وإسطنبول. عندما يهاجم بن كيران التطبيع المغربي – الإسرائيلي، فهو عمليا يردد ما تمليه عليه ماكينة حماس وطهران.

المفارقة أن المغرب، الدولة التي احتضنت لجان دعم القدس، والتي ظلت تاريخيا من أكثر المدافعين عن الفلسطينيين، تتهم اليوم بالخيانة لأن مصالحها اقتضت بناء تحالف استراتيجي جديد. أما حماس التي تتاجر بدماء الغزيين وتفرط في المصالحة الفلسطينية، فهي بالنسبة لبن كيران “المقاومة الشرعية”. أي منطق أعوج هذا؟

لنكن واضحين: بن كيران لا يخاطب الدولة، بل يخاطب قواعده الإخوانية. بعد الهزيمة الساحقة في انتخابات 2021، يبحث الرجل عن طوق نجاة يعيد حزبه إلى المشهد. والشارع، في نظره، هو الملعب الوحيد الممكن. لذلك يستحضر “التعبئة الشعبية” و”المظاهرات”، وكأن المغاربة لا يميزون بين الدفاع الصادق عن فلسطين وبين الاستغلال السياسي البائس لها.

المغربي العادي يعرف أن أمن بلاده واستقرارها فوق كل اعتبار. يعرف أن نصرة فلسطين لا تعني الانتحار الاستراتيجي. ويعرف أيضا أن من يتباكى اليوم على “التطبيع” كان بالأمس رئيس حكومة يوقع تحت عينه اتفاقيات التعاون مع إسرائيل ولم ينبس ببنت شفة.

المضحك المبكي أن حزب العدالة والتنمية نفسه، الذي يقوده بن كيران، كان شريكا في السلطة عندما انطلقت أولى خطوات التعاون المغربي – الإسرائيلي. وزراؤه جلسوا على الطاولة، وقعوا الاتفاقيات، التقطوا الصور، ثم صمتوا. اليوم، وقد فقدوا الكراسي، صاروا فجأة “مناضلين ضد التطبيع”. هذه هي البراغماتية الإخوانية: المبادئ مجرد ورقة في لعبة السلطة، ترفع عند الحاجة وتطوى عند المصلحة.

المغرب اليوم يقف على مفترق حساس: تحديات أمنية، صراع مفتوح مع الجزائر، رهانات كبرى على ملف الصحراء. في مثل هذا السياق، لا مكان للشعارات الجوفاء. الدولة تتحرك بمنطق المصالح العليا، لا بمنطق البكاء على المنابر. التطبيع بالنسبة للمغرب ليس انخراطا في “حب إسرائيل”، بل استثمار في أوراق قوة لحماية السيادة الوطنية.

أما من يريد أن يحوّل المغرب إلى حديقة خلفية لحماس، أو إلى فرع من فروع الإخوان المسلمين، فليعلم أن المغاربة تعبوا من المتاجرة بفلسطين.

ابن كيران، بخطابه الأخير، يكشف كل شيء: شعبوية فجة، خدمة مجانية لحماس وإيران، وجهل – أو تجاهل – للمصالح الاستراتيجية العليا للمغرب. الرجل يعيش على “نوستالجيا المظاهرات” ويتخيل أن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه. لكن الحقيقة أن المغرب ماض في بناء تحالفاته بعقلانية وواقعية، بعيدا عن زعيق المنابر والشعارات.

إن أخطر ما في خطاب بن كيران ليس فقط أنه يضلل الرأي العام، بل أنه يحاول جرّ المغاربة إلى معركة ليست معركتهم. معركتنا الحقيقية هي حماية الصحراء، تعزيز قوتنا الردعية، وضمان أمننا القومي. أما فلسطين، فهي في قلوب المغاربة بلا حاجة إلى مزايدات حزبية.

وبين دولة تتحرك بمنطق المصالح، وزعيم إخواني يعيش على فتات الشعارات، لا شك أن المغاربة يعرفون أي طريق يختارون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *