منتدى العمق

من نهاية الإنسان إلى نهاية الفرد: هل يكون الذكاء الاصطناعي آخر منعطف؟!

“نهاية الإنسان هي المعرفة، لكن شيء واحد لا يمكن أن يعرفه الإنسان: إنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كانت المعرفة ستنقذه أم أنها ستقتله. سيقتل، نعم، لكنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كان قد قُتل بسبب المعرفة التي اكتسبها أم بسبب المعرفة التي لم يكتسبها، والتي كانت لتنقذه لو أنه عرفها”.

عن روبرت وارين، “كل رجال الملك” كما ورد في مقدمة مترجم كتاب “نهاية الإنسان: عواقب الثورة البيوتكنولوجية”.

إن أبرز ما اتسمت به العقود الأخيرة في بنيتها المعرفية، هو الحديث المتوالي عن النهايات، والإعلان الدوي عن موت النماذج التفسيرية والإدراكية الشاملة، والسعي نحو تجاوز كل النصوص و البراديغمات التي كانت مؤطرة لأمد طويل للفكر البشري. وقد شكلت حقبة ما بعد الحداثة الإطار الناظم لخطاب الموت والنهاية، بما هي تلك المطرقة التي حطمت السرديات الكبرى بتعبير “جان فرانسوا ليوتار”. فمن ظلال الإله الى نهايته ومن موت المؤلف الى ما بعد البنيوية ومن ما بعد الإيديولوجيا الى نهاية التاريخ… تأتي موت الإنسان، أو ما بعد الإنسان كتتويج لمسلسل النهايات الذي بصم التاريخ الفكري للقرن العشرين وما بعده. ففي أبريل من العام ألفان واثنين أصدر المفكر السياسي الأمريكي ذو الأصول اليابانية “فرانسيس فوكوياما” كتاب بعنوان ” مستقبلنا ما بعد الإنساني: عواقب الثورة البيوتكنولوجية”؛ يستعرض فيه فوكوياما النتائج الاجتماعية والأخلاقية والسياسية المترتبة عن التطور السريع للعلوم البيولوجية، مثل الهندسة الوراثية وعلوم الأعصاب. موضحا أن هذه الثورة المعززة بالتكنولوجيا قد تؤدي إلى نهاية الإنسان كما نعرفه، عن طريق تغيير جوهر طبيعته البشرية. تلك الطبيعة البشرية الثابتة التي تعتبر أساسا للمفاهيم المعروفة في التداول السياسي والاجتماعي، مثل حقوق الإنسان والكرامة البشرية…، وأن أي محاولة لتغيير هذه الطبيعة، إنما تهدد بتقويض كل البنى الاجتماعية والسياسية القائمة. الكتاب ذو الصبغة العلمية الذي لم يلقى نفس الصيت الذي لقيه كتابه الأول، في بداية التسعينيات والموسوم بـ ” نهاية التاريخ والإنسان الأخير” الذي يمجد فيه فوكوياما قيم الديمقراطية الليبرالية، بترشيحها كنموذج سياسي ـــ كوني ختم نهاية صراع القطبية الثنائية.

لم يكن فرنسيس فوكوياما الأول الذي تحدث عن نهاية الإنسان، فقد سبقه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي قدم نعيا إبستيمولوجيا لمفهوم الإنسان؛ هذا الاختراع الحديث في الحقل العلمي حسب فوكو سينتهي كما ظهر؛ كوجه مرسوم على شاطئ البحر. غير أن ميشيل فوكو إذا كان يقصد أفول الإنسان كموضوع علمي ـــ ابستيمولوجي وجد لنفسه موضِعا في دروب المعرفة ابتداء من القرن التاسع عشر. فإن فرانسيس فوكوياما يتحدث عن النهاية الدرامية للجنس البشري ــ كما نعرفه ــ والذي سقط تحت رحمة التكنولوجيا التي ستغير معالم مستقبله البيولوجي والاجتماعي. فكيف هو وضع الإنسان بعد مرور عقدين من تحذيرات فوكوياما؟

الفرد في مضمار النهاية

يجادل فوكوياما في مفهوم الكرامة الإنسانية والحرية المطلقة، موضحا أن هذه الأخيرة قد لا تضع في حسبانها أية أهداف سامية بما فيها الاعتبارات الأخلاقية المرتبطة بتعديل الطبيعة البشرية، لأنها ستصطدم بقدسية الاختيار الفردي. الشيء الذي سيكون له تأثير على مفاهيم الكرامة، والمساواة وحقوق الإنسان. لأنها بنيت على طبيعة بشرية أصبحت الآن مقوضة أو يُتلاعب بها. ومعلوم أن الفرد هو التجسيد العيني للإنسان، حيث يمثل الأول للثاني ما يمثله العنصر للبنية او الجزء للكل، لكنه عنصر مناور،كثيرا ما يتسم بـ التمرد والانشقاق. ليعبر عن كل معاني التميز والانفراد.

في سبتمبر من عام الفين وتسعة عشر؛ أصدر غاسبار كوينغ (Gaspard Koenig) وهو ” فيلسوف” وروائي فرنسي، كتابا تحت عنوان عنوان: La Fin de l’individu (Voyage d’un philosophe au pays de l’intelligence artificielle) نهاية الفرد: رحلة فيلسوف في بلاد الذكاء الاصطناعي. يتناول فيه دور الفلسفة ـــــ بما تملكه من آليات ـــ في سبر أغوار الذكاء الاصطناعي، بعيدا عن المقاربة التقنوية، واقترابا من الأسئلة التي يطرحها الذكاء الاصطناعي في علاقته بالوجود البشري ومفاهيم؛ الفرد والحرية، والذات، والخصوصية، والوعي. ويجادل غاسبار أن استقلالية الفرد الذاتية أضحت تتآكل أمام الذكاء الاصطناعي وآلياته الموجهة التي خلقت مجتمعا تسيطر فيه الخوارزميات على اختيارات الأفراد وقراراتهم. لكن تبرز المفارقة بجلاء حينما يُكتشف أن الذكاء الاصطناعي الذي ظُن انه قد يشكل “فتحا” يزكي طرح الفردانية والتفرد والاستقلالية، إذا به هو الذي يهددها..!. قد يكمن الجواب في أن فرادة الفرد تنبع من خصوصياته وهذه الخصوصيات أصبحت تُستباح أمام أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تستغلها؛ تحليلا، وتصنيفا، وتوجيها، وحتى تنبؤ. لترسم بذلك للأفراد تفضيلات واختيارات، تتحطم معها المبادرة الحرة على صخرة ” الحتمية الخوارزمية”. لم يكن غاسبار وحده من حذر من تداعيات ذكاء الآلة على حياة الإنسان، بل سبق لمجموعة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع منهم؛ فلاسفة مدرسة فرانكفورت، وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان في سلسلته “السيولة”. أن حذروا مما تحدثه التقنية من اغتراب في حياة الإنسان وكذلك تشيئ العلاقات الإنسانية وسيولة في الروابط الاجتماعية. إلا أن غاسبار كان أكثر تخصصية في وصفه لعواقب الذكاء الاصطناعي على الفرد، فالمفهوم الذي يعد الركيزة الأساسية في الفلسفة الغربية أضحى يعيش تهديد وجودي من قبل الذكاء الاصطناعي الذي بارع ويبرع في تنميط وتوجيه هذا الفرد. إن الذكاء الاصطناعي كما يقول غاسبار ليس مجرد أداة محايدة بل قوة فاعلة تعيد تشكيل فهمنا لأنفسنا والعالم بكيفية غير مرئية للوهلة الأولى، لكن التأثير الجوهري ربما قد تكشف عنه مقبل المحطات من العمر الآلي للذكاء الاصطناعي. لهذا يدعو غاسبار الى مرافعة فلسفية، عن قيم الحرية والفردانية… في وجه الاستفحال الغير المقيد لأنظمة الذكاء الإصطناعي.

يمكن القول إذن كتتويج لما سبق، أن نهاية الإنسان سواء كحضور بيولوجي واخلاقي، أو نهايته كذات تتسم بالفرادة والخصوصية عن غيرها من الذوات، إنما هي ترجمة ونتاج هيمنة دكتاتورية رقمية ــــ قد تكون بناء على مؤشرات الحاضر منفلتة العقال في المستقبل ـــ حيث غدا معها الإنسان مسلوب الإرادة ومتوهما الحرية، كلما ظن أنه كسب الشيء الكثير من هذه الثورة الرقمية إلا وفقد معها المزيد، وليس اقصى ذلك كيانه، وحريته وخصوصيته وحسه الاختياري والنقدي. ولا شك أن هذه الدكتاتورية الرقمية أنتجت صيغة جديدة منه؛ هي صيغة انسان هش، سائل ومرتعب، يعيش على أرض رخوة من العلاقات، ودائم الترقب، ويربط عنوة بين الواقعي والمتخيل. انه نموذج الفرد الفائق (hyper individu) الذي يظل يتوسل المعنى دون أن يجده.

مراجع معتمدة:

فوكوياما، فرانسيس. نهاية الإنسان: عواقب الثورة البيوتكنولوجية. ترجمة. د. أحمد مستجير. القاهرة: إصدارات سطور، 2002.
دوغان، مارك، وكريستوف لابي. الإنسان العاري: الدكتاتورية الخفية للرقمية. ترجمة. سعيد بنكراد. الدار البيضاء: المركز الثقافي للكتاب، 2019.
Gaspard Koenig, La fin de l’individu: Voyage d’un philosophe au pays de l’intelligence artificielle. Paris, Éditions de l’Observatoire , Humensis, 2019

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *