عزوف الشباب عن السياسة.. بين مرارة الواقع وإغراءات اللامبالاة

ليست السياسة في جوهرها مجرد لعبة انتخابية أو صراع على المقاعد، بل هي هندسة الحياة المشتركة وصياغة مستقبل الأوطان. غير أن المفارقة في المغرب – كما في كثير من المجتمعات – تكمن في أن من يُفترض أن يكونوا حَمَلةَ المشعل، أي الشباب، صاروا ينظرون إليها بعين الريبة واللامبالاة. وكأن السياسة سوقٌ فقد بريقه، تُعرض فيه وعودٌ لا تُشترى، وخطبٌ لا تُقنع، وشعاراتٌ تذوب مع أول اختبار واقعي. وبين من يرى في السياسة مجرد حيلة لتبادل المنافع، ومن يكتفي بمشاهدة المشهد من بعيد، يتسع الشرخ بين جيل يبحث عن الكرامة والجدوى، ومؤسسات حزبية غارقة في تكرار ذاتها.
هنا يطل سؤال محوري: لماذا يعزف الشباب عن السياسة؟ ومنه يتفرع السؤالان: ما هي نتائج هذا العزوف؟ ثم الأهم: كيف يمكن أن نعيد الثقة إلى ساحة باتت خاوية إلا من أصوات معتادة؟ هذه الأسئلة تفتح أمامنا أبواب ثلاثة محاور أساسية، لعلها تسعفنا في فهم الظاهرة واستشراف حلولها.
الدوافع العميقة لعزوف الشباب
ليس من السهل أن نفسر لماذا ينأى شباب المغرب عن السياسة وكأنها وباء، لكن حين نتأمل في بنية المشهد السياسي، نجد أن الدوافع أعمق من مجرد كسل أو عدم اهتمام. فالسياسة بالنسبة لهم لم تعد مجالا لتجسيد الأحلام، بل تحولت إلى مسرحية تُعاد فصولها بوجوه مكررة ووعود منسوخة.
الشباب، وهو جيل نشأ في زمن الإعلام الرقمي، يقارن بين ما يسمع من السياسيين وبين ما يراه من واقع قاسٍ .. بطالة، وغلاء معيشة، وفساد مستشري، ومؤسسات حزبية تعاني من الشيخوخة التنظيمية والفكرية. كل ذلك يغذي شعورا بأن السياسة ليست سوى لعبة محسومة النتائج. وإلى جانب هذا، يضاف عنصر الإحباط الوجودي وهو حين يدرك الشاب أن كفاءته لا تكفي لنيل وظيفة أو مكانة إلا بالوساطة والمحسوبية، يصبح الانخراط في الأحزاب مجرد مضيعة للوقت. هكذا نكون أمام دوافع مركبة .. أزمة ثقة في الأحزاب، وأزمة جدوى في الممارسة، وأزمة معنى في العمل السياسي نفسه، إذ لم يعد يُنظر إليه كوسيلة للتغيير، بل كطقس بيروقراطي لا أثر له في الواقع. ومن هنا تبدأ رحلة العزوف .. عزوف عن التصويت، وعزوف عن الانخراط، بل حتى عزوف عن متابعة نشرات الأخبار، وكأن السياسة طقس غريب لا يعنيهم. لكن إذا كانت هذه هي الدوافع الكامنة وراء العزوف، فماذا عن نتائجه؟ كيف ينعكس غياب الشباب عن الساحة السياسية على الحاضر والمستقبل؟
النتائج المترتبة عن هذا العزوف
ليس العزوف السياسي للشباب مجرد موقف فردي، بل له تداعيات عميقة على نسيج الدولة والمجتمع. حين يغيب الشباب عن الساحة السياسية، يختل ميزان القوى لصالح لوبيات المصالح التقليدية التي تستغل ضعف المشاركة لتمرير أجنداتها. وهكذا يغدو البرلمان مزدحمًا بوجوه اعتادت تكرار نفسها، وتتحول الأحزاب إلى “أندية انتخابية” بدل أن تكون مدارس لتأطير المواطنين. إن عزوف الشباب يفرغ العملية الديمقراطية من محتواها الحيوي، ويحوّل الانتخابات إلى طقس شكلي. والأسوأ أن هذا الفراغ يفتح الباب أمام الشعبوية والتطرف، إذ يبحث بعض الشباب عن بدائل خارج النسق المؤسساتي .. إما في الاحتجاجات العفوية في الشارع، أو في الفضاء الرقمي حيث ينفجر الغضب في “هاشتاغات” عابرة لا تغير الواقع، لكنها تكشف حجم الاحتقان. النتيجة إذن أننا أمام تآكل تدريجي للثقة الجماعية، ما قد يقود إلى هشاشة سياسية واجتماعية. والمفارقة أن هذه النتيجة تعمّق الدوافع نفسها، فكلما زاد عزوف الشباب، زادت قوة النخب التقليدية، وكلما ترسخت هذه النخب، ازداد الشباب نفورا، في دوامة يصعب كسرها؛ غير أن هذه الحلقة المغلقة، رغم تشعّبها، ليست قدَرًا محتوما. فإعادة الثقة للشباب في السياسة ممكنة، شريطة أن تُفتح أمامهم آفاق جديدة تتجاوز مجرد الخطاب.
الحلول الممكنة والرهانات المستقبلية
إذا كنا نتحدث عن عزوف الشباب، فإن الحلول ليست مجرد وصفات تقنية، بل تحتاج إلى ثورة هادئة في الفعل السياسي.
أولا: يجب أن تعيد الأحزاب بناء نفسها على أسس الشفافية والديمقراطية الداخلية، وأن تفتح المجال أمام تجديد النخب بدل إعادة تدوير الوجوه القديمة فتشبيب الأحزاب صار مطلبا شرعيا.
ثانيا: يجب أن يخرج الفعل السياسي من المقرات الحزبية المغلقة إلى فضاءات الشباب الحقيقية والمتمثلة في الجامعات، والمراكز الثقافية، والعالم الرقمي حيث منصات التواصل ووسائل التعبير الجديدة.
ثالثا: على الدولة أن تدعم استقلالية الأحزاب والمجتمع المدني حتى يشعر الشاب أن رأيه يحدث أثرا، لا أن قراره مجرد رقم يضاف في سجلات وزارة الداخلية.
رابعا: لا بد من الاستثمار في الثقة باعتبارها مكونا أساسيا للرأسمال الاجتماعي، وذلك عبر تحسين الخدمات الأساسية، وتقديم نماذج ناجحة لشباب في مواقع القرار.
إن الحل الحقيقي يكمن في جعل السياسة مرتبطة بالحياة اليومية للمواطن، فحين يرى الشاب أن قراره السياسي يعني وظيفة، وتعليم جيد، وصحة مضمونة، وكرامة محفوظة، فإنه سيعود طوعا إلى صناديق الاقتراع ومقرات الأحزاب. وإلا فسيظل العزوف هو القاعدة، والانخراط هو الاستثناء.
الخاتمة .. بين السياسة واللامبالاة
يقف الشباب المغربي اليوم عند مفترق طرق، فإما أن يبقى متفرجا على مسرح سياسي فقد جاذبيته، أو أن يُحدث قطيعة إيجابية تفرض تجديدا جذريا في الخطاب والممارسة.
ليس العزوف قدرا أبديا، لكنه رسالة صامتة يجب أن تُقرأ بعمق .. رسالة تقول إن الثقة لم تُبنَ بعد. فإذا استطاعت الدولة والأحزاب أن تلتقط هذه الإشارة، فقد ينهض جيل جديد من الفاعلين القادرين على تحويل السياسة إلى فضاء للأمل بدل فضاء للخيبة. أما إذا استمر تجاهل الرسالة، فإننا سنجد أنفسنا أمام هُوّة قوس يتسع باستمرار بين الشباب والدولة، وهو قوس إن تمدد أكثر قد يعصف بالتماسك السياسي والاجتماعي. فحين يُغلق الشباب أبواب السياسة، فإنهم يفتحون نوافذ أخرى، وليس دائما تهب منها رياح الإصلاح .. !
اترك تعليقاً