كيف تغير مفهوم النضال؟

شهد مفهوم النضال تحولات عميقة عبر التاريخ السياسي، إذ بدأ كفعل مقاومة ضد الاستبداد، مستندا إلى فلسفات العقد الاجتماعي عند هوبز ولوك وروسو التي ربطت شرعية الحكم برضا المحكومين ومشاركتهم. ثم ارتقى مع الفكر الليبرالي إلى مطلب مؤسساتي يتمثل في الدساتير والبرلمانات التي تكبح تغول السلطة، قبل أن يصبح في الفكر الماركسي أداة لتحرير الطبقة العاملة وصياغة مشروع مجتمعي بديل. وفي القرن العشرين تطور إلى فعل منظم تقوده الحركات الاجتماعية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، فصار يهدف إلى التأثير في السياسات العمومية وصناعة الوعي الجماعي. أما في زمن العولمة والرقمنة، فقد اتخذ النضال أشكالا أفقية ولا مركزية تتجاوز الهياكل التقليدية، مع حضور قوي للفضاء الرقمي كمنصة للتعبئة وحشد الرأي العام.
ويعد المناضل الحزبي أحد الأعمدة المركزية للعمل السياسي المنظم، إذ يشكل حلقة الوصل بين القيادة الحزبية والقاعدة الشعبية، فهو يمثل تجسيدا لفكرة التأطير السياسي التي تهدف الأحزاب من خلالها إلى تحويل المطالب الاجتماعية إلى برامج وسياسات قابلة للتنفيذ، يشارك في التعبئة الانتخابية، لكنه يتجاوزها إلى بناء الوعي السياسي وتنشئة الأفراد على قيم المشاركة والمواطنة بما يضمن استمرارية الفعل الحزبي عبر الأجيال.
غير أن الواقع المعاصر يكشف أن طريق المجد الحزبي لم يعد يمر بالضرورة عبر قوة الأفكار أو عمق البرامج، ولا حتى عبر النضال الميداني، بل عبر اجتياز امتحان الولاء وإتقان فنون جديدة أعادت تعريف مفهوم النضال.
أول الشروط التي يجب أن تتوافر في المناضل الجديد حتى ينال رضا القيادة هي التوقف عن التفكير النقدي، فالتفكير يولد الأسئلة، والأسئلة تخلق المشاكل، والمشاكل تعكر صفو الاجتماعات، المطلوب اليوم أن يحفظ بيانات الحزب كما تحفظ جداول الضرب، وأن يرددها في أي نقاش مع جرعة محسوبة من الحماس المصطنع، ولا ينس القاعدة الذهبية: التصفيق قبل الجميع وبعد الجميع، وبملامح وجه توحي بأن القرار عبقري، حتى لو اقتصر على إعادة طلاء جدران المقر.
أما فن التملق فهو ليس مجرد سلوك جانبي، بل اصبح مادة إلزامية في تكوين أي مناضل طموح يسعى إلى الصعود في السلم الحزبي، ففي القاموس السياسي اصبح التملق آلية رمزية للتقرب من مراكز القرار عبر الإطراء المبالغ فيه وإظهار الولاء المطلق للقيادة، وهو لا يقتصر على المدح المباشر، بل يشمل تبني خطاب القيادة بشكل كامل، والدفاع عن اختياراتها حتى قبل أن تعلن بشكل رسمي، وكأن المناضل صار مرآة تعكس إرادة القيادة أكثر مما تعكس تطلعات القاعدة الشعبية.
التملق هنا ليس مجرد مجاملة اجتماعية عابرة، بل استثمار استراتيجي طويل الأمد، فالمناضل الذي يتقن هذا الفن يضمن لنفسه موقعا مميزا في الصفوف الأمامية للمؤتمرات الحزبية، ونصيبا أوفر من المكافآت الرمزية مثل الصور مع الزعيم، والذكر العابر في الخطب، وأحيانا فرصة للترشح في الانتخابات أو التعيين في منصب داخلي، ويصبح التملق وسيلة لتجاوز المنافسة على أساس الكفاءة أو الرصيد النضالي بحيث تتحول العلاقة مع القيادة إلى علاقة ولاء شخصي أكثر منها علاقة مؤسساتية مبنية على المبادئ.
من الناحية السوسيولوجية، يمكن فهم التملق كآلية لضبط التراتبية داخل التنظيمات الحزبية، فهو يوفر للقيادة شعورا بالهيبة والشرعية، ويمنح المناضل نوعا من الحماية الرمزية التي تجنبه الصراعات الداخلية، غير أن الإفراط فيه قد يقتل النقاش الداخلي ويحول الحزب إلى فضاء مغلق لا يسمح بظهور أفكار جديدة، ما يؤدي إلى فقر إبداعي وتكرار نفس الخطاب والشعارات، وفي هذه الحالة، يصبح التملق ليس فقط تكتيكا فرديا للصعود، بل ثقافة حزبية جماعية تعيد إنتاج نفس النخبة وتقصي كل صوت نقدي.
ثم يأتي الاستقطاب الكمي، وهو علم دقيق يقوم على تحويل البشر إلى أرقام في الجداول الحزبية، الهدف ليس إقناع الشباب بالبرامج السياسية بقدر ما هو تسجيل أسمائهم وإدراجهم في صور “النضال” على منصات التواصل الاجتماعي (فيسبوك وإنستغرام..)، كل منخرط جديد يحتسب انتصارا، حتى لو لم يسمع يوما باسم الحزب، المهم أن تكون الأرقام جميلة عند تقديم التقرير أمام الصحافة.
لكن رغم كل هذا “النضال”، على المناضل أن يتقبل حقيقة مرة: بعض القيادات تتعامل مع المنخرطين كمتسولين سياسيين، يستدعون عند الحاجة، وتمنح لهم الوعود كفتات يلقى على الطاولة، وتعامل طلباتهم بالتجاهل أو بالتأجيل الذي قد يمتد لسنوات، من يجرؤ على المطالبة بحقه في التكوين أو المشاركة الحقيقية يتهم بتهديد وحدة الصف، أما من يكتفي بالصمت والتصفيق فيكافأ بجرعة إضافية من رضا القيادة.
وفي النهاية، التحول إلى “مناضل نموذجي” لا يتطلب شجاعة ولا إبداعا، بل مرونة نفسية تجعلك تغير موقفك مع كل تبدل في التحالفات، وابتسامة دائمة حتى في وجه القرارات الأكثر غرابة، حينها فقط قد تنال “شهادة شرف” حزبية، وربما ترقى إلى رتبة “مناضل قديم” يروي للأجيال القادمة كيف قضى نصف عمره يصفق وينتظر الفرج.
اترك تعليقاً