جيل Z.. صرخة ما بعد الصمت

في زمنٍ تتحطّم فيه خطابات الخشب على جدار الواقع الصلب، خرج جيل Z شباب مغربي اصيل ليعلن ويعبّر عن ذاته؛ لا عبر الأحزاب ولا المنابر التقليدية، ولكن من رحم الرقمنة .. من شارع افتراضي تحول إلى شارع حقيقي.
جيلٌ لم يعد يثق في برلماني يوزّع الابتسامات كل خمس سنوات، ولا في وزير يجترّ خطابات منسوخة .. لقد أدار وجهه نحو المؤسسة الوحيدة التي ما زالت تحتفظ بمكانتها في وجدانه: المؤسسة الملكية.
ومن هنا تبدأ الحكاية .. حيث سياسة عرجاء تعجز عن اللحاق بشبابٍ يركضون بسرعة الضوء، وحيث كل تأخيرٍ في الإصغاء ليس إلا وصفةً لمزيدٍ من الانفجار.
جيل .. Z النشأة والتحوّل
لم ينشأ جيل Z في مقاهي الأحزاب ولا على خطابات المنصات الخشبية، إنه جيل نشأ في حضن التكنولوجيا، حيث كانت الشاشة نافذته الأولى على العالم. فبضغطة زرّ يرى قارات وبحارًا، ويقارن حياته بلحظة مع أقرانه في الخارج المتقدّم، فيدرك الفجوة ويأمل سحقها. لم يتربَّ على الشعارات الجوفاء ولا على الخطب المعتادة بنغمات متكررة، ولكن جيل تربى على صور متحرّكة وصوت عالمي يهمس: هناك إمكانيات أكبر مما يُعرض عليكم من بعض السياسيين الفاشلين.
كبر جيل وهو يشاهد وزراء يكررون الكلام نفسه، بينما الواقع يزداد ضيقًا عليه .. فاكتشف سريعًا أن المدرسة لا تواكب سرعة الرقمنة، وأن المستشفى لا يُداوي كما ينبغي، وأن السياسة لا تُصلح إلا جيوب أصحابها. وحين بدأ وعيه يتفتّح، أدرك أن خطابات السياسيين أقلّ مصداقية من شبكة “الواي فاي” في قرى الأطلس، تلك التي تظهر لحظة وتختفي أخرى.
لم تكن هذه النشأة بيولوجية فحسب، بل كانت ولادة وعي جديد .. وعي نقدي بالفطرة، يرفض العيش على إيقاع وعود تُقال في النهار وتُمحى في الليل، وعي لا يقبل بالقليل ولا يُستدرج بالخداع. إنه جيلٌ يكتب قصته بنفسه، لا يتركها في يد سياسي يعيد تدوير المسرحية نفسها منذ عقود.
من هنا، تبدأ أسباب الانفجار .. فجيل بهذه الحدة وهذا الوعي، لا يمكن أن يقبل أن تُقابَل مطالبه باللامبالاة، ولا أن يُباع له وهم الإصلاح فيما الواقع يزداد تأزمًا. وهكذا تنساب الحكاية من النشأة إلى الصرخة، من شاشة الهاتف إلى شوارع المدن، حيث يفرض الواقع نفسه في غياب التواصل.
حين غاب الإصغاء .. حضرت السخرية
ما الذي يحدث حين يطالب الشباب بحقوقهم البسيطة – صحة، تعليم، شغل، ..– فلا يجدون سوى صمت سياسيين كاذبين؟
يحدث أن تتحول الأكاذيب المتراكمة إلى وقود يغلي، وأن يصبح الصمت نفسه ميكروفونًا يضخم الغضب. لقد توهمّ السياسيون أن التجاهل يُخمد الأصوات، فإذا به يشعلها، وظنّوا أن إعادة تدوير الوعود تطمس الحقيقة، فإذا بالحقيقة تسخر منهم في كل شارع.
لكن جيل Z لم يقابل الخيبة بالدموع، وإنما اخترع سلاحًا غير مسبوق .. إنه سلاح الضحك. بدلاً من الحجارة أطلقوا “ميمات” (memes)، وبدلاً من الخطابات أطلقوا مقاطع قصيرة تُضحك وتُعرّي في وقت واحد. كل صورة ساخرة كانت محاكمة، وكل ضحكة جماعية كانت حُكمًا علنيًا. وهكذا سقطت الهيبة المصطنعة، حتى صار السياسي مهرّجًا بربطة عنق، والوزير الفاشل مجرّد نكتة تتداولها الهواتف.
غير أن وراء هذه القهقهة مرارةً عميقة: بطالة تستنزف الطموحات، وغلاء يخنق الجيوب، وتعليم متعثّر عن مواكبة العصر الرقمي، وصحة متردية. فالضحك هنا ليس عبثًا، بل فلسفة وجودية؛ يقاوم بها الشباب القهر بالفكاهة، ويحوّلون الغضب إلى عدالة ساخرة. ضحكة واحدة من جيل Z تكفي لإسقاط خطاب كامل من على منصّة رسمية، وتحويل سياسي متذاكٍ إلى أضحوكة أمام الملأ.
غير أن الخطر الأكبر ليس في الضحك ولا في الغضب، بل في الفراغ الذي يخلّفه العجز السياسي. فإذا استمر الوضع على هذه المهزلة، مهزلة السياسيين الكَذَبة، واستمرت مظاهرات جيل Z بلا إصغاء ولا حلول، فإن الفجوة ستكبر، وحينها يجد الدخلاء وأعداء الوطن الفرصة للركوب على الظاهرة وتوجيهها حيث يشتهون. وهنا يتحول الضحك إلى فوضى، والغضب إلى مطية للغرباء. لذا وجب الحذر، فصرخة الشباب نداء صادق، لكن الإهمال يحولها إلى باب مفتوح للانزلاق.
إنها عدالة الضحك .. عدالة لا تُصدر أحكامًا مكتوبة، لكنها تنزع الهيبة عن الكاذب وتعيد الكرامة للمقهور. من لم يسمع أنين الشباب سيسمع ضحكتهم، ومن لم يفهم غضبهم ستفضحه سخريتهم. وهكذا انصهر القهر في القهقهة، وتحولت المظاهرات إلى مسرحية شعبية بطلها شباب Z وضحيتها سياسيون مشعوذون وفي الحقيقة هم الجلادون .. فهل من حلول ممكنة ..؟
الحلول الممكنة .. من الإنصات إلى تجديد القيادة
إذا كانت غضبة جيل Z قد كشفت عمق الشرخ بين الشباب والسياسيين، فإن الحلول ليست مستحيلة، لكنها تتطلب جرأة وصدقًا. فأول الطريق يبدأ بالإنصات الحقيقي؛ لا بخطب خشبية جوفاء ولا بلقاءات استعراضية مضحكة، وإنما بفتح قنوات مباشرة مع الشباب حيث هم، على شاشاتهم ومنصاتهم، وبلغة يفهمونها ويثقون بها. فليس الإنصات هنا مجاملة، ولكن التزام بترجمة المطالب إلى أفعال ملموسة.
أما ثاني الدواء، فهو تغيير الحرس القديم. كيف يُعقل أن يُساق مستقبل الرقمنة بعقولٍ بالكاد تعرف تشغيل حاسوب؟ السياسي العجوز الذي يقيس الزمن بدفاتر ومحاضر مهترئة، لن يفهم جيلًا يقيس العالم بسرعة “الواي فاي”. لا بد من فسح المجال أمام شباب قادر على قيادة الركب، بعقول سريعة، ورقمية، ومبدعة، تعرف أن الحكم اليوم ليس توزيع وعود وإنما إدارة بيانات، وليس التلاعب بالكلمات بل بناء حلول فعلية وملموسة.
الحل الثالث يكمن في تجديد العقد الاجتماعي: تعليم يفتح الأفق بدل أن يُغلقه، وصحة تصون الجسد بدل أن تقتله في قاعات الانتظار، وشغل يصنع الكرامة بدل أن يوزع الإعانات. فالعدالة الاجتماعية ليست شعارًا انتخابيًا، بل أساس السلم والاستقرار.
إنها وصفة منطقية واضحة: إنصات صادق، وقيادة شابة، ومؤسسات فاعلة. ومن يرفض هذه الوصفة سيكتشف أن تجاهل الشباب ليس سياسة، وإنما هو انتحار بطيء. فجيل Z لا ينتظر خمس سنوات ليسقط ورقة في صندوق، إنه جيل يُسقط الكذبة في لحظة، بضغطة زر وضحكة صاخبة .. فهل من متعظ .. ؟!
في الختم .. لقد علّمنا جيل Z في مغربنا الحبيب أن السياسة ليست مسرحية أبدية، وأن الصمت لا يُسكت الغضب، وأن الضحك قد يكون أبلغ من ألف بيان رسمي. إنه جيلٌ كتب قصته على الشاشات قبل أن يكتبها في الشوارع، ورفع شعاره بالسخرية قبل أن يرفعه باللافتات. غضبته هي غضبة Z وليست نزوة عابرة، وإنما هي نداء تاريخي لإصلاحٍ عاجل، لا يتأخر ولا يتجمّل.
إنصاتٌ صادق، وتجديدٌ للقيادة، وعدالةٌ اجتماعية .. كلها مطالب مشروعة وليست كماليات؛ فهي شروط حياة يكفلها دستور المملكة. فمن لم يفهم أن زمن الوعود قد انتهى، سيفهم قريبًا أن زمن الحساب قد بدأ. . وليرحل عنا من غير عودة، فالوطن لم يعد يحتمل خداع وبهتان السياسي العجوز.
لا يطلب جيل Z المستحيل، هو يطلب أن يُعامل كبشر لهم كرامة، لا كأصوات انتخابية تُستعمل مرة كل خمس سنوات ثم تُرمى في سلة النسيان. والحقيقة الجارحة أن السياسيين الكذبة يعيشون زمنًا آخر، زمن البطء الممل، بينما الشباب يقودون المستقبل بسرعة الضوء، والمغرب لن يقبل أن تسير تنميته بسرعتين. فمن لم يُبدل جلده، سيذوب تحت حرارة غضب جيل Z وضحكته معًا. فالسياسي الذي يكذب ليحكم جيل Z، كمن يحاول بيع شمعة وسط النهار .. لا حاجة لأحد بها، وسرعان ما يذوب شمعه في يديه .. فهل وصلت الرسالة .. ؟!
اترك تعليقاً