فقه التغيير: على هامش حركة جيل “زد” المغربية

كنتُ أتابع وضع الاقتصاد العالمي في سياق التنافس الصيني–الأمريكي، وأدرس أثر هذه التحولات على الدول النامية، فإذا بي أفاجأ بظهور حركة “جيل زد” التي رفعت مطلبين حضاريين أساسيين: الحق في الصحة والحق في التعليم. يقود هذه الحركة تلاميذ وطلاب متمسّكون بالسلمية ومصرّون على تحقيق عدالة مطالبهم.
تابعتُ ما يجري على وسائل التواصل الاجتماعي، وكنتُ حريصًا على عدم التورّط في التعليق على أيّ خلاف داخل وطننا العزيز. لكنّ صورة الدماء والإهانة جعلت من الصمتِ تواطؤًا، بل شراكة في ما قد يصيب الوطن من أذى. لذلك قرّرت أن أكتب بلغة بسيطة ومباشرة، موجّهة إلى شباب جيل “زد”، لأشاركهم تجربة متواضعة في الاحتجاج والمطالبة بالتغيير، تمتدّ لأكثر من عشرين سنة. فأصوات المظاهرات الاحتجاجية في جامعة فاس، وشعارات المطالبة بالكرامة والحرية التي صدحت بها مدن طنجة والرباط ومكناس والجديدة، ما زالت راسخة في ذاكرتي ولم تغب عن مسامعي قط، إلى أن برزت حركة جيل “زد”.
لقد كنا، على مدى أكثر من عشرين عامًا، نصف المغرب بأنه من أغنى الدول، غير أنّ شريحة واسعة من شعبه ما تزال ترزح تحت وطأة الفقر المدقع، فيما تُحرم شريحة أخرى من التعبير بحرية كاملة عن واقعها.
خلال هذه الفترة شهد وطننا تحولات مهمة، من قبيل إنشاء الطرق ومحطات القطار والمطارات، وتشجيع الاستثمار، وإقامة شركات كبرى، ومحطات لمعالجة المياه، إضافةً إلى زيادة مهمة في عدد الجامعات. حتى إنني صرت أزور بعض الأماكن فلا أكاد أتعرف عليها لكثرة ما طرأ عليها من نشاط عمراني وتجاري.
وقد أصبح من الممكن ملاحظة تحسن واضح في أوضاع العديد من الأسر، التي لم تعد ترتبط بالمدرسة أو الصحة العمومية بعدما بات في مقدورها تحمّل تكاليف القطاع الخاص. غير أنّ هذه الأسر نفسها لم تكفّ عن التذمر من ارتفاع الأسعار، لا سيما في السنوات الأخيرة، حيث كادت الطبقة المتوسطة أن تنزلق إلى دائرة الفقر، فيما ازدادت أوضاع الطبقة الفقيرة سوءًا.
بالمقابل، ما زالت هناك نقاط سوداء في عدد من المدن لم يطلها أي تغيير، وبقي سكانها يعانون من الاكتظاظ في السكن، وانعدام الأمن، والهدر المدرسي، وانتشار الأمراض، إضافة إلى سوء التغذية. هذه الأوضاع المزرية كانت ولا تزال محل انتقاد من مختلف الحركات السياسية و النقابية، بل إن الخطاب الملكي نفسه طالما حذّر من خطورة المضي بسرعتين في مغرب الألفية الثالثة.
اليوم، وبعد مرور عشرين عامًا، التقيت ببعض رفاقي القدامى في درب النضال. منهم من ظلّ في الوطن، ومنهم من غادر إلى الخارج بحثًا عن حياة أفضل. ورغم أنّهم يستحضرون الماضي باستمرار، فإنهم يذكّروننا دومًا بأهمية الاعتماد على الذات، وتنمية القدرات، والبحث الجاد عن فرص العمل. فالاعتماد على أدوات مثل الاحتجاج وحده لا يوفّر لقمة العيش، إذ إن النضال الشريف لا يدرّ أموالًا، بل يخلّف آلامًا وجروحًا قد تندمل مع الزمن، وقد ترافق صاحبها ما بقي من عمره.
جلستُ مع أصدقاء النضال في المقهى نسترجع عفويتنا في سن العشرين، حين كانت مطالبنا عالية وسقف أحلامنا بلا حدود. يومها كنا نعتقد أن الفساد سينتهي بمسيرة هنا أو هناك، أو بعد صدور تقارير عن اعتقال شخصيات نافذة، أو مع مجيء حكومة جديدة، أو من خلال تجربة “اليسار”، ثم لاحقًا تجربة “الإسلاميين”.
لكننا لم نكن ندرك أن الفساد الذي نحاربه – والذي يواجهه اليوم جيل “زد” – لا يظهر في العلن، بل يتخفّى بإتقان ويجيد المراوغة. والأسوأ من ذلك أنه قد يرتدي أحيانًا قناع المصلح الذي يزعم محاربة الفساد، ويدّعي في حالات أخرى الدفاع عن الديمقراطية ونشر مبادئ حقوق الإنسان.
فالفساد الذي ينخر المجتمع لا علاقة لرجل الشرطة به، إذ إن المؤسسة الأمنية دورها ضبط الأمن في المغرب، وهي لا تحتكر السلطة، ولا تتحمل مسؤولية غلاء الأسعار أو ضعف الدولة الاجتماعية.
محاربة الفساد مهمة لا ينهض بها فرد أو فئة محدودة، بل تحتاج إلى جيل كامل يناضل بوعي، ويحتج بطرق سلمية وحضارية داخل النقابات والهيئات السياسية القائمة، بل ويؤسس أحزابًا جديدة تتبنى مشروعًا حقيقيًا لمحاربة الفساد في المغرب. غير أنّ هذا المسار لن يتحقق إلا عبر تحول ديمقراطي فعلي، يقطع مع الوجوه القديمة التي راكمت السلطة والثروة بطرق غير مشروعة.
إنّ حركة التغيير لا ينبغي أن تتوقف، بل يتعيّن أن تتطور بأساليب سلمية وحضارية متجدّدة، من أجل بناء مستقبل أفضل. وعلى العقلاء في هذا الوطن أن يتعاملوا مع حركة جيل “زد” باعتبارها فرصة تاريخية ومنعطفًا حاسمًا في مسار المغرب؛ مغرب يؤمن بالتعددية، ويكرّس التنمية، ويصون العدالة الاجتماعية بين جميع أفراده. ولن تتحقق هذه المطالب إلا من خلال تفعيل وتسريع مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد.
إنّ هذا الانتقال كفيل بأن يزرع الأمل في نفوس الشباب الغاضب، ويُرسّخ مبادئ المواطنة والانتماء، ويحصّن المغرب من التجاذبات الدولية والمؤامرات الخارجية، مهما كان مصدرها، شرقيًّا أم غربيّا.
اترك تعليقاً