وجهة نظر

حينما يساءل الوطن الوطنية: نحو فعل جماعي مسؤول من أجل الوطن

عرفت بلادنا في الأيام الأخيرة حركة اجتماعية لمجموعة من الشباب أطلقوا على حركتهم اسم «GEN Z» وهو اسم يدل على فئة الشباب ممن تتراوح أعمارهم ما بين 13-28 من بين مواليد 1997-2012 وهي فئة تمثل حوالي26.3% بناء على البيانات الرسمية للمندوبية السامية للتخطيط.

انطلقت هذه الحركة من منصات للتواصل الاجتماعي خارج فضاءات التواصل الاجتماعي التقليدية التي نألفها أو تلك التي اعتمدت خلال حركات اجتماعية سابقة، معتمدة على منصات جديدة من بينها منصة «DISCORD» التي جعلها الشباب فضاء جديدا للتنسيق من أجل الخروج للشارع للاحتجاج بشأن مطالب اجتماعية كالحق في الصحة والتعليم ومحاربة الفساد.

وتأسيسا على ما سبق سنحاول تحليل وبسط هذه الحركة الاجتماعية، ومخرجات التفاعل معها انطلاقا من النقاط الآتية:

أولا: في تحديد طبيعة الحراك

إن هذه الموجة من الفعل الاحتجاجي يمكن توصيفها أوليا وإن كانت كافة العناصر العلمية غير كافية لتقديم تحديد دقيق لها، بأنها حركة شبابية تمزج ما بين بعد افتراضي وبعد واقعي.

فأما البعد الافتراضي يتجسد في كونها اتخذت من وسائط إلكترونية جديدة فضاءا للتشاور والتنسيق المشترك من أجل التعبئة وتحديد طبيعة المطالب التي يمكن رفعها والمطالبة بها، بل وأنها أضحت تجسد بعدا جديدا من تجليات تعزيز الديمقراطية الافتراضية من خلال اتخاذ القرار عبر القيام بتصويت افتراضي بشأن القرارات التي سيتم اتخاذها، كما يمكن نعتها بأنها نموذج متطور لديمقراطية تشاركية رقمية تتجاوز المنظور الكلاسيكي المؤسس له.

بينما البعد الواقعي، فتجلى في الحضور الميداني وخروج هذه الفعاليات الشبابية إلى الميدان أو الأماكن التي تم تحديدها مسبقا، وتم التداول بشأنها داخل هذا الفضاء الافتراضي، فضلا عن تحديد طبيعة الشعارات التي ستحمل فيها أو التعابير الاحتجاجية التي سيتم تداولها خلال هذه العمليات.

إن هذا الفعل الاحتجاجي يلاحظ من خلال محاولة توصيفه وسعيا إلى فهمه أنه ينطلق من “فكرة الحق”، أي أن جيل Z ينطلق من إيمان عميق بفكرة تحسين الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم مع الدعوة لمحاربة الفساد، وهي حقوق ومطالب يكفلها الدستور ويضمن تمتع جميع المواطنين والمواطنات بها دون استثناء.

غير أن البعد الذي يتخذه هذا الفعل الاحتجاجي جعله جسدا افتراضيا دون روح، أي أنه فعل احتجاجي تجاوز الأشكال التقليدية للوساطة سواء كانت أحزاب أو نقابات أو تنظيمات جمعوية، معتبرا أن مطالبه يتعين التجاوب معها من قبل الجهاز التنفيذي بشكل عام ومن قبل القطاعات الاجتماعية الحكومية ذات الصلة بشكل خاص.

إن هذه الضمانة الدستورية التي كرسها دستور المملكة لسنة 2011 ولطالما جسدتها الخطب والرسائل الملكية التي ما فتئ يذكر فيها جلالته بضرورة إيلاء أهمية للخدمات الأساسية الاجتماعية من خلال السياسات والبرامج. تُلزم الحكومة كجهاز تنفيذي تسهر على تزيل برنامجها الحكومي أن تولي عناية خاصة لمتطلبات المواطنات والمواطنين وأن تُبدع في تقديم الحلول وأن تُقدم برامجا لها من الجدة والالتقائية والتنسيق ما يسمح بتحقيق آثار فعلية على المعاش اليومي داخل المجتمع.

إن المسؤولية السياسية والمسؤولية القيمية تجاه المجتمع، والوطنية الصادقة تجاه الوطن العزيز تتطلب صِدقا في البرامج؛ صِدقا في الخطاب وصِدقا في السياسات والالتزامات الموجهة لخدمة المجتمع، بل والاستباقية والإبداع في البحث عن حلول بديلة وتدابير لها تأثير و وقعٌ مباشر على الخدمات الاجتماعية المقدمة لعموم المواطنات والمواطنين، فالأرقام والميزانيات المرصودة حتى و إن ارتفعت عدديا دون تنعكس آثارها بشكل ملموس على المعاش اليومي تظل مشوبة بالعوز والقصور وتؤثر على المصداقية.

 ثانيا: حول مخاطر الفضاءات الافتراضية

لا نختلف إن أكدنا أننا في زمن التكنولوجيات الحديثة التي أصبح تطورها يعرف تسارعا مضطردا، إنها أصبحت فضاء جديدا من فضاءات التعبير عن المواقف وتصريف وجهات النظر، بل أضحت في ظل النباهة التكنولوجية لفئة الشباب الذين أعد واحدا منهم مجالا لتقاسم الأفكار وتصريف المعرفة… وغيرها على اختلاف مجالات الاهتمامات التي تتنوع ما بين فئة وأخرى…

ولا ننكر حقا أن هذا التطور المتسارع يرافقه كذلك جانب تكنولوجي مظلم وراء شاشات الهواتف أو شاشات الحواسيب، يختفي  وراءه أشخاص بدون هويات يقومون بأعمال خبيثة وغير مشروعة قد تهدد سلامة المعطيات الخاصة للأشخاص أو قد تهدد مقاولات دولية من خلال ما يعرف بأعمال الفدية على سبيل المثال، أو ما يعرف بعمليات القرصنة  الالكترونية…، والتي  تطورت في عصرنا الحديث حيث أصبحت أيضا فضاءا لظهور ما يعرف بالحروب السيبرانية التي قد تهدد سلامة الأشخاص أو أمنهم  بل وحتى أمن  الدول الشيء  الذي  جعل الدول المتقدمة منها تسعى إلى  تقوية  ما يعرف بأمنها السيبراني.

بناء على ما سبق، يمكن القول أن هذه الفضاءات الجديدة وإن كان لها من الإيجابيات ما يسمح بجعلها فضاء للتداول والنقاش والتفاعل الافتراضي والتنسيق، إلا أن مخاطرها قد تجعلها أيضا مجالا للاختراق السيبراني، سيما وأنها لا تمكن في بعض الحالات من تحديد هوية الأفراد والمخاطبين أو الجماعات التي قد تتداول داخل هذه الوسائط الجديدة بل وحتى تحديد أجنداتها وأهدافها (…).

ثالثا: حول المطالب المرفوعة

إن التوقف عند طبيعة الشعارات والمطالب التي رفعتها حركة جيل Z في وجه الحكومة يظهر على أنها جزء من كتلة الحقوق الأساسية التي كرسها دستور 2011 سواء تعلق الأمر بالحق في العلاج والعناية الصحية (الفصل 31) أو الحق في التعليم الأساسي الذي يعتبر حقا للطفل وواجبا على الأسرة والدولة (الفصل 32)، أو ما يتعلق بمحاربة الفساد حيث نص دستور المملكة على الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها والتي تتولى مهام المبادرة والتنسيق والاشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد… (الفصل 167).

ويبدو أن الحركة تنطلق من فكرة فعلية الحقوق الأساسية كالحق في الصحة والتعليم واختارت توطين فضاء مناقشتها وتنظيمها بفضاءات افتراضية خارج الفضاءات التقليدية التي نعرفها، أي أنها حركة رقمية تتألف من جيل جعل من المنصات التكنولوجية فضاء للنقاش أو تقاسم الاهتمامات المشتركة. إلا أن هذا النقاش الافتراضي والمطالب المرفوعة، لكي تتجسد فعليا ينبغي أن تستمر من خلال نقاش وطني ومسؤول وصادق عبر المؤسسات.

إن إطلاق هذا التوصيف الرقمي لهذه الحركة يتطلب من جانب آخر أن تفهم الحكومة وباقي الفاعلين سواء كانوا حزبيين أو مدنيين، أن هذه الفئة من الشباب تعيش في زمن السرعة الرقمية أو الكليك (clic) الذي يقدم أجوبة سريعة حتى عن هواجسهم أو ما يدخل في صميم اهتماماتهم، وهو نفس التحول إذا أردنا التفسير الذي تهتم الحكومة بجانب منه في مجالات أخرى تتعلق بتدبير السياسات والعمل الحكومي الذي تعتبره أولوية وطنية في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي.

فإذا كانت بعض التوجهات الحكومية في إطار الحكومة الرقمية المنفتحة أو في إطار المغرب الرقمي تبنت سياسات تسعى إلى مواكبة الرقمنة والتكنولوجيا وتسعى اليوم إلى مواكبة الذكاء الاصطناعي معتبرة ذلك يجيب عن “العولمة”، فإنها من داخل نفس المستوى عليها أن تفكر في سبل رقمية تتيح المشاركة في صنع القرار أو على الأقل تجميع الآراء من جميع فئات المجتمع حول الرضى عن جودة خدمات المرافق العمومية وعن الاقتراحات التي يرونها مناسبة للنهوض بها وهكذا (…).

ومن منطلق المسؤولية الحكومية تجاه المواطنات والمواطنين وتجاه الوطن فإن الجهاز الحكومي مطالب بمرونة كبيرة للتعامل مع هذه المطالب وبسعة صدر أكثر من أي وقت مضى، تجاوزا لمنطق التعامل التقليدي الجامد مع مؤسسات الوساطة التقليدية (منظمات مهنية- نقابات-  أحزاب- جمعيات…)، لأن فسلفة ومنطلق الفعل الاحتجاجي مختلفة تماما عن الأنماط التقليدية التي نألفها ونتعامل معها وستظل كذلك…، ولنا في منصة أشارك ouchariko.ma التي اعتمدها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في التشخيص التشاركي لبناء تقاريره وآرائه خير تطبيق لهذا التوجه الذي كان ينبغي أن تذهب إليه الحكومة.

رابعا: في تحليل مشاهد الفعل الاحتجاجي

إن الحرص على تحصين هذا الفعل الاحتجاجي من أي اختراق سواء كان داخليا أم خارجيا، يقتضي ألا ينزاح مسار هذه الحركة الاجتماعية كتعبير شبابي يضمنه دستور المملكة لسنة 2011 عن مساره الصحيح السلمي والحضاري، لأن الانزلاقات التي عرفتها الأحداث الأخيرة في بعض المدن من مواجهة مع القوات العمومية وتخريب للممتلكات أدت إلى إصدار صوة سلبية وبنتائج عكسية (…).

إن هذا التشريح لا يجعلنا ننطلق من منطق شيطنة الآخر أو من منطق التخوين وغيرها من المسميات، أو التقليل من شأن جيل Z، بل يعكس حرصنا على بلادنا كشباب نفخر ونعتز بالانتماء لهذا الوطن.

فحتى وإن تعددت ملاحظاتنا ومواقفنا كذلك بشأن تدبير سياسيات أو تنزيل برامج أو تفعيل إصلاح؛ أو من سلوك نخب سواء كانت برلمانية أو حكومية، وهو ما لا يتماشى وطموح جلالة الملك وقد لا ينسجم وتطلعنا إليها كمواطنات ومواطنين.

إنها ملاحظات بل ومآخذات وخواطر قد نتقاسمها جميعا، لأننا لا نعيش بمعزل عن جيل GEN Z بل نتقاسم الوطن نفسه؛ وقد نسجل أيضا قصورا في خدمة عمومية؛ وقد نعاني من تقصير وزير داخل قطاع…؛ وقد نعاني أيضا من سوء تقدير مسؤول غير مسؤول وفق المفهوم الأخلاقي والقيمي للمسؤولية أمام الوطن(…)؛ 

لكن، علينا أن نفهم أن وطننا يتسع لنا جميعا كأجيال سواء كنا Baby-Boomers أو Génération X أو Y-Millennials، ولــ GEN Z ولجيل Alpha ولباقي الأجيال المستقبلية…، ومستعدون جميعا للذود عنه ولا نختلف في الدفاع عن ثوابته، وهي تعبيرات جسدتها الشعارات والعبارات التي رددها شباب الفعل الاحتجاجي.

وحري بالذكر أن فلسفة الحقوق التقليدية قد تطورت اليوم، بقدر ما أننا أصبحنا نتحدث عن حقوق الأجيال المستقبلية كمنظور جديد لهذه الحقوق، فالمسؤولية والروح الوطنية التي جسدها الفعل الاحتجاجي وإن عرفت بعض المنزلقات المؤسفة التي أزاحتها عن مسارها السلمي الحضاري وجعلت من مخرجات سلوكها أفعالا إجرامية تهدد الأمن العام والسكينة العامة وتجرمها التشريعات الوطنية.

إن المسؤولية الأخلاقية والالتزام تجاه هذا الوطن، تتطلب التحلي باليقظة المطلوبة من أجل حماية وصون حقوق الأجيال القادمة أيضا، وتفادي الانزياح عن السلمية والحوار المؤسساتي الذي تقتضيه الظرفية، لأن الرسالة فعلا قد وصلت بأبهى تجلياتها وأبعادها الحضارية التي تجسد وعيا سياسيا وطنيا تجاوز حتى كافة قنوات التأطير السياسي والمجتمعي التقليدية(…).

إن التحصين الذي تحدثنا عنه يتطلب عدم الخروج عن الطابع السلمي وعن تجاوز إلحاق الضرر بالممتلكات الخاصة، والممتلكات العامة لأنها ملك عمومي يستفيد منه جميع المواطنات والمواطنين بدون استثناء وعلى قدم المساواة حتى الفئة التي لا تنتمي إلى GEN Z، لأن الاعتداء على هذه الممتلكات العامة (مرافق- إدارات- أملاك خاصة…) من شأنه التأثير على استمرارية خدمات هذه المرافق التي يُنادى بضرورة تأهيلها والنهوض بها، وسيكون الوطن أمام تكلفتين تكلفة إعادة التأهيل والبناء وتكلفة الارتقاء بهذه الخدمات وتجويدها وضمان تحقيق أثرها الملموس على عموم المواطنات والمواطنين(…).

إن تحليل مشاهد الفعل الاحتجاجي تضعنا أمام صورتين:

  • صورة حضارية نعتز بها كمغاربة ننتمي لهذا الوطن ومستعدون للدفاع عنه وعن رموزه، لا من منطق الدفاع عن المؤسسات، بل من منطق الوطنية الصادقة والمسؤولة التي تقتضي المساهمة في مسيرة البناء ببلادنا عبر المؤسسات والحرص على استقرارها؛
  • صورة غير حضارية تعبر عن العنف والتخريب، الذي يتناقض جملة وتفصيلا مع الصور التي جسدتها التعابير والتصريحات الراقية التي عبر عنها أقراننا من الشباب، والتي تجسد قيم المغاربة الأصيلة التي ينبغي أن نحافظ عليها وأن نتمسك بها.

ومن جهتي، أتمسك كمواطن يفرض علي واجب المواطنة الحقة وحقوقها بالصورة الأولى، المنطلقة من الرؤية الحضارية للتعبير عن المواقف إزاء السياسات والبرامج وإزاء العمل الحكومي(…).

 وهذا يعني ضرورة استجابة الفاعل الحكومي والعمل على تقديم إجراءات ملموسة لها أثر مباشر في يومنا ومعاشنا، لأننا في الحقيقة نعنى بها جميعا وإن كنا لا نعنى بها مباشرة فإن أقراننا وأشقائنا أو شقيقاتنا أو عائلاتنا أو أبناؤنا معنيون بها مباشرة.

خامسا: حول التفاعل الحكومي 

من المهم التذكير أن الحكومة حينما يتم تنصيبها من قبل جلالة الملك فإنها تؤدي القسم الذي يتضمن العبارات التالية: “أقسم بالله العظيم، أن أكون مخلصا لديني ولملكي ولوطني، وأن أؤدي مهمتي بصدق وأمانة وأن أخدم الصالح العام ساهرا على سيادة المغرب ووحدة ترابه”. وبصرف النظر عن المسؤولية الدستورية للحكومة، فإن لهذا القسم الذي يؤدى أمام النظر السديد لجلالة الملك بصفته رئيسا للدولة وأميرا للمؤمنين حمولة دينية ورمزية هامة يتعين التقاطها، بما في ذلك من معانٍ فصيحة تجسد الإخلاص للدين والملك والوطن، ومن معانٍ بليغة للمسؤولية والتفاني والصدق والأمانة في خدمة الصالح العام.

ودائما داخل نفس النسق فقد سبق أن أكد جلالة الملك في خطابه بمناسبة الذكرى 18 لعيد العرش المجيد بأنه: “… ألا يخجل هؤلاء من أنفسهم، رغم أنهم يؤدون القسم أمام الله، والوطن، والملك، ولا يقومون بواجبهم؟”

ومن هذا المنطلق وفي ضوء ممارسة المهام الدستورية للحكومة، فإنها في ظل تنامي التعبير الاحتجاجي تكون مسؤولة أمام الوطن عبر التفكير والتدخل الاستباقي في آليات فعالة وفعلية تعمل على الاستجابة السريعة للمطالب بل والتفاعل معها بدل الانتظار واعتماد صيغة عرفية خارج عملها كمؤسسة دستورية (المجلس الحكومي أو تشكيل خلية أزمة حكومية للمتابعة وغيرها من السبل المتاحة قانونا للتدخل..) بما يعكس إخلاصها وصدقها ومسؤوليتها الوطنية في تدبير الشأن العام.

ترتيبا على ذلك، وخارج عمل المؤسسات الرسمية عقدت هيئة الأغلبية كجهاز سياسي للتنسيق بين قادة الائتلاف الحكومي اجتماعا ترتب عنه إصدار بلاغ جامد وخالٍ من أي روح تواصلية سياسية تعكس تواصلا سياسيا فعالا مسؤولا يقظا قادر على استيعاب مطالب المرحلة.

ودون الحديث عن التبعات المؤسفة لذلك، التي عكست الصورة غير الحضارية لمشهد الفعل الاحتجاجي الذي تحدثنا عنه، عقدت الحكومة في إطار اجتماعاتها الدورية مجلسها الحكومي الذي قدم فيه رئيس الحكومة بيانا مقتضبا تلاه من جديد بيان للناطق الرسمي رفقة أعضاء عن الحكومة يعبرون فيه عن التفاعل مع المطالب.

 إن تحليل طبيعة مخرجات العملية التواصلية للحكومة كمؤسسة دستورية بصلاحيات دستورية واسعة، يظهر منه أنها لم تستوعب طبيعة الاحتجاج ولا بنية العقل والضمير الجمعي للفئة التي تجسده، لقد تعاملت وفق منطق الملف المطلبي وموائد الحوار والجلسات والاجتماعات وغيرها كما هو الشأن بالنسبة للمفاوضات أو الحوار الاجتماعي وغيرها.

 والحالة هنا أن الأمر يتطلب تبني مرونة في التواصل وفتح القنوات المؤسساتية لها والحرص على اتخاذ تدابير مباشرة وملموسة تجيب على الأقل على جزء من المطالب المرفوعة استيعابا لمد الفعل الاحتجاجي وحرصا على الالتفاف المجتمعي بمؤسساته حول الوطن (…).

خامسا: في تحديد المسؤولية الحكومية وتوصيف قطائع السياسات

إن المسؤولية الوطنية للحكومة كجهاز تنفيذي تتطلب السرعة والنباهة السياسية في التقاط صوت الشارع، بل وحتى صوت الفاعلين السياسيين ومنظمات المجتمع المدني التي تعبر حقيقة وواقعا عن ديناميات مجتمعية تمثل جميع فئات المجتمع، وهي ديناميات وإن كانت خارج النسق فهي تعبر بشكل أو ذاك عن نبض المجتمع الذي ينبغي على الحكومة بل ومن مسؤوليتها الأخلاقية والقيمية تجاه المجتمع والوطن أن تستمع وتصغي وتتجاوب معه، فذلك من صميم صلاحياتها.

 ليس من صلاحيات الحكومة وليس  ومن مسؤولية الوزير الانتظار والنظر  إلى الأمور من الأعلى، المسؤولية تجاه الوطن وتجاه المواطنات والمواطنين تتطلب الاستماع لنبض  المجتمع، ولا أن لا تخشى  لومة لائم في ذلك حتى وإن  اختلف معها البعض في زوايا  النظر ومقاربات العمل، بل إن ذلك  يعد من صميم  العملية  التواصلية ومن صميم عملية التجاوب الإيجابي حتى وإن  كان ما يُسمع إليه مختلفا عن مقاربات الاشتغال، لكنه  وجه من أوجه  العملية الاتصالية التي  تعني التجاوب مع الرسالة كيفما كانت حتى و إن كانت مختلفة عن التصور الحكومي.

فقد سبق أن ربط جلالة الملك في خطابه بمناسبة الذكرى 18 لعيد العرش المجيد المسؤولية بالإنصات إلى انشغالات المواطنين حين أكد جلالته: “…وما معنى المسؤولية، إذا غاب عن صاحبها أبسط شروطها، وهو الإنصات إلى انشغالات المواطنين؟…”.

فعلى سبيل المثال، إن كان الأمر يتعلق بالصحة فيمكن اتخاذ تدابير لها أثر مباشر وملموس كتحسين بنيات الاستقبال من جهة والحرص على جودة الخدمة الصحية وفعالية وجاهزية الآليات المعتمدة في التشخيص الطبي بدل الإحالة بشأنها إلى القطاع الخاص….، والحرص على تقديم المواعيد في آجال معقولة تتناسب وطبيعة البينة العمرية للمرضى وتراعي وضعهم وحالتهم الاجتماعية بل واستعجالية الحالات(…).

إن تجاوز هذه الإشكالات اليومية البسيطة تتطلب قليلا من المسؤولية السياسية للحكومة بتقديم جميع سبل الدعم المالي المناسبة…، مع حس وطني يفكر في إيجاد صيغ بديلة للتعامل مع الإشكالات البنيوية ومواجهتها بدل التطبيع معها والبحث عن صيغ لتعليق المسؤولية على طرف دون الآخر…فالوقت والزمن السياسي ليس مناسبا لذلك.

وإذا تعلق الأمر بالتعليم فإن التفكير في النهوض بوضع بلادنا على مستوى المؤشرات الدولية، والتفاعل مع المطالب الشبابية لا يتطلب صيغا أو تدابير سحرية للارتقاء بجودة التعليم العمومي، لأن الأمر لا يعدو إلا أن يكون مرتبطا بالتجاوب مع مطالب الشغيلة والموارد البشرية التعليمية لأنها أساس ومرتكز كل إصلاح تعليمي للنهوض بالمنظومة التعليمية ببلادنا..

فكل برنامج أو تصور جديد للإصلاح سيما وإن ارتبط الأمر بالتعليم لأنه أساس نهضة كل بلد، يتطلب نوعا من الاستقرار في التدابير واستقرارا في البرامج وألا يكون مسألة ترتبط بتوجه كل مسؤول حكومي على حدة وهكذا…، ففي زمن المدرسة العمومية التي نفتخر بالانتماء إليها والتي ساهمت في بناءنا المعرفي، كما ساهم الأستاذ والمعلم إلى جانب الأسرة في زرع اللبنات الأولى للوطنية والمساهمة في التربية مع الحرص على أداء الرسالة التعليمية بكل مسؤولية وضمير…

لكل حينما تتعدد وجهات النظر بل وتتعدد وتتنوع البرامج والمرتكزات التي يكون أساسها تنزيل برنامج حكومي أو سياسة قطاعية قائما على تغييب لبنات الإصلاح كجمعيات الآباء والتلاميذ والتمثيليات النقابية والمؤسسات الدستورية التي قدمت تقارير تشخيصية هامة من شأنها أن تسعف الفاعل الحكومي في تبني أي إصلاح أو تدابير جديدة أو غيرها، وحينما تصبح البرامج والسياسات القطاعية منزلة بشكل عمودي رأسي دون أن يتم إعدادها بشكل أفقي ينخرط فيه الجميع سننتظر آثارا  ونتائج عكسية.

لازلت أتذكر الحقيبة المدرسية (الشكارة بلغتنا الدارجة) التي كانت توزع علينا حينما كنت تلميذا بالابتدائي وما كانت تزرعه في قلبي وفي قلوب الملايين من أقراني من سعادة وفرحة، وبنفس القدر وكلما تدرجنا في المسالك التعليمية تزرع في نفوسنا مسؤولية كبيرة تجاه بلدنا، وبأنه ينبغي أن نساهم في البناء المشترك للوطن الذي أيضا ساهم في بناءنا التعليمي والتكويني وهكذا (…).

غير أنه اليوم أعتقد أن الأستاذ أو المعلم قد أصبح خارج أي نسق إصلاحي للمنظومة، أصبح خارج نسق المساهمة في التربية والتكوين إلى جانب الأسرة لأن طبيعة التدابير الإصلاحية تغيبه عن منطلقات التغيير والإصلاح، بل يصبح فقط أحيانا جزءا من التنفيذ العسير لها.

وأقول بكل وطنية ومسؤولية كمواطن أن تدابير الإصلاح خلال كل زمن سياسي (ولاية حكومية) لم تكن سليلة تقييم موضوعي قائم على مؤشرات موضوعية بل إن رؤية الإصلاح لدى كل حكومة تتأسس على فكرة إقبار التصور السابق والتفكير في تصور جديد قد لا يتأسس كما أشرت سالفا على تقييم موضوعي، بقدر ما أنه ينطلق من منظور سياسي إيديولوجي حزبي (أدلجة السياسة القطاعية) أو من تقدير فردي للوزير المسؤول عن القطاع.

للأسف هذه (الفردانية الأيديولوجية) التي تنعكس سلبا على مسار بناء السياسات والبرامج لن تؤدي لنتائج عملية تسعف الوطن وتخدم عموم المواطنات المواطنين، علينا التفكير وخصوصا إذا تعلق الأمر بقطاعات اجتماعية كالصحة والتعليم(…) أن نفكر بمنطق استمرارية السياسات والبرامج حتى وإن كان يفرض الزمن السياسي والمنطق الدستوري القطيعة (من ولاية حكومية لأخرى..)،حتى يتسنى لكل قطاع مواصلة الإصلاح والتمكن من تنزيله بشكل سليم وكذلك تقييمه بشكل موضوعي لتجاوز العثرات والإشكالات من أجل بناء تصور لسياسة قطاعية جديدة(…).

 لأن تفريخ السياسات أو البرامج سيما وإن تعلق الأمر بقطاعات اجتماعية زمن كل حكومة جديدة، يجعلنا أمام سياسات بنتائج عكسية تساهم في خلخلة نموذج الإصلاح المنشود وفي لا استقرار نموذجنا الاصلاحي، ولنا في منظومة التعليم العالي خير مثال (خلال الفترة الممتدة ما بين 2016-2024) من تجسيد حي لقطائع السياسات ومنظور الإصلاح وقس على ذلك(…).

سادسا: نحو فعل جماعي مسؤول من أجل الوطن 

من أجل بناء فعل جماعي مسؤول من أجل الوطن أقترح كمواطن المداخل الآتية لتعزيز الثقة في المؤسسات وبناءها مع المرتفقين، وهي كالتالي:

  • بناء الثقة

يعد بناء الثقة بين الحكومة والمواطنات والمواطنين لبنة وأساس بناء مجتمع مستقر ومتقدم، ولتحقيق ذلك يتعين الالتزام بالشفافية في جميع الأعمال التي تقوم بها الحكومة وتوفير المعلومات الدقيقة في الوقت المناسب، وتبني سياسات وفق منهج تشاركي، مع الحرص على تحسين جودة الخدمات العامة وضمان العدالة والمساواة في توزيع الموارد تحقيقا للعدالة المجالية.

  • وضوح الخطاب السياسي

يعتبر وضوح الخطاب السياسي مرتكزا لبناء علاقة وطنية شفافة ومسؤولية بين الحكومة والمجتمع، فوضوح الخطاب يعبر بدقة عن وضوح الرؤية والسياسات والتوجهات والبرامج كما يجنب اللبس وسوء الفهم ويساهم في رفع الوعي المجتمعي بالقضايا والسياسات الوطنية ويعكس احترام الحكومة لحق المواطنات والمواطنين في المعلومة، كما أن صدق الخطاب السياسي يعزز بناء الحوار القائم على الوضوح والمصداقية.

  • فعلية وأثر المنجز

تعكس فعالية المنجز الحكومي مدى قدرتها على تحويل السياسات والبرامج والخطط إلى نتائج مباشرة وملموسة تمس حياة المواطنين، فأثر المنجز لا يقاس بتكلفته بقدر ما يقاس باستدامة أثره في تحسين جودة الحياة وتعزيز العدالة المجالية وتحسين جودة الخدمات.

  • فتح مساحات جديدة للنقاش العمومي

إن تقديم مساحات جديدة للنقاش العمومي ومرونة الفاعل الحكومي يعد خطوة هامة نحو تعزيز المشاركة المدنية وترسيخ مبادئ الديمقراطية التشاركية، ففتح النقاش والانفتاح عليه يتيح للمواطنين التعبير عن آرائهم وتقديم مقترحاتهم حول السياسات بل وحتى تقييم آثارها، فعندما يفتح النقاش بروح تعكس تنوع المجتمع وتستمع لنبضه فإنها ستمكن من صياغة حلول واقعية ومستدامة، ولعل إشراك الشباب فيها الحوار المؤسساتي من شأنه أن يضمن رؤية شاملة تعزز شرعية القرار السياسي ونجاعة السياسات.

  • لامركزة الحوار الحكومي 

تعد لامركزة الحوار والتشاور العمومي خطوة لتحقيق العدالة المجالية وتمكن من المساهمة الفعلية لجميع المواطنات والمواطنين في رسم السياسات التي تلبي الحاجيات اليومية، ومن شأنها المساهمة في تجاوز احتكار النقاش العمومي بين النخب، بل تجعله ممتدا وأكثر استماعا للهامش والمداشر ويشمل جميع المستويات الترابية، بما يعزز الثقة في المؤسسات.

ونافلة القول، أختتم بقول جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده بمناسبة حلول الذكرى 18 لعيد العرش المجيد حينما أكد جلالته: “…فعندما تكون النتائج إيجابية، تتسابق الأحزاب والطبقة السياسية والمسؤولون، إلى الواجهة للاستفادة سياسيا وإعلاميا، من المكاسب المحققة.

 أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي، وإرجاع كل الأمور إليه….”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *