منوعات

العدل والإحسان والخروج من مأزق الاحتجاج

العدل والإحسان جماعة سياسية صوفية مغربية، لها كامل الحق في التفاعل بطريقتها الخاصة مع مجريات الحراك السياسي الاجتماعي والاقتصادي. الجماعة الصوفية حركة احتجاجية، ولهذا فهي وفية لمرتكزاتها المعتمدة على الحشد من داخل دائرة الساخطين لصالح رؤيتها السياسية.

مشكلة الجماعة الظاهرة، أنها لا تملك تصورا سياسيا للوضع الحالي، ولا تقترح منظورا مستقبليا لتجاوز أزمات المغرب المتعددة؛ لذا تجد نفسها مشغولة بالاحتجاج وتنتعش به، وتعتبره أسلوبا في الخطاب والممارسة السياسية الرابحة، ترسل من خلالها رسائلها للداخل التنظيمي، وللمنافسين السياسيين وللنظام السياسي المغربي.

تنظيم المرحوم عبد السلام ياسين، لا يحتج على العدالة والتنمية وحكومة بنكيران أو الدولة فحسب. فعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن الجماعة تنظيم احتجاجي بامتياز، وأن هذا المنطلق “التصوري” سبب رئيس في الانفصال عن البوتشيشية؛ غير أن ذلك لا يعني أن التنظيم يملك فكرا سياسيا إسلاميا معاصرا، أو أنه تنظيم يربي الفرد والجماعة على بناء الوعي التعارفي التعاوني؛ بل إن التنظيم يتقوى بالفرد ويذوبه في الجماعة وهواجسها السياسية الصوفية الاحتجاجية.

وهي عندما تنظر للعدالة والتنمية فإنها تنطلق من هاجس الاستقطاب ومن صراع بناء النفوذ الاجتماعي والقاعدة السياسية. فالحزب اكتسب مساحات في المجال العام لا يمكن للجماعة أن تكتسبها في الأمد المنظور. كما أن العدالة والتنمية توسع فكريا وتنظيميا داخل الطبقة المتوسطة، بشكل يفوق قدرة العدل والإحسان على الحشد؛ وهذا المستجد يعني أن الفعالية الاجتماعية، والقدرة على التأثير السوسيو سياسي يمتلك الحزب بعض مفاتيحه بشكل يؤثر على مبادرات العدل والإحسان التعبوية، وعلى مساحات النشاط الاستقطابي السياسي الديني للجماعة وطنيا؛ أكثر من ذلك إن العدالة والتنمية أصبح جزءًا من تركيبة مؤسسات الدولة الحديثة المغربية، في الوقت الذي تعتقد الجماعة أنها قادرة على تجاوز نظام الدولة الحديثة، وتنظيماتها المؤسساتية، وأنها قادرة على العبور “للخلافة على منهج النبوة”.

وتبعا لذلك لا يمكن للعدل والإحسان أن تنتج غير ما تنتجه الآن من نظام “معرفي” احتجاجي، يروم التموقع وبناء النفوذ الاجتماعي، في ساحة ” تتصارع” فيها الجماعة مع “الكل”، مع النظام السياسي، والحكومة “المحكومة”، ومع النخب التي لا تقبل “بالميثاق الإسلامي”.

غير أن الخيار الاحتجاجي للجماعة يضعها أمام مسؤوليتها التاريخية، في ظروف وخبرة الإسلاميين لما بعد 2011م عربيا. فالواقع الذي لا يرتفع يؤكد أن الجماعة لا يمكنها أن تنجح فيما فشل فيه الإخوان المسلمون بمصر، فهم أكثر خبرة سياسية، وأكثر تعرضا للظلم. لكنهم فشلوا في مجرد التموقع السلس داخل الفضاء العام المصري، لأنهم أساسا، ظلوا يعيشون في جمود تنظيمي، وفكري، وفقهي، وسياسي.

ورغم أنهم كانوا مشاركين في التجربة السياسية لدولة الاستقلال المصري وأنظمتها الفاسدة، ونظام ما بعد الثورة؛ لكنهم لم يراجعوا منظومتهم الفقهية والفكرية المتجاوزة، ومارسوا الاحتجاج السياسي واعتمدوا على ما يرونه تفوقا تربويا على سائر المجتمع المصري، والنتيجة معروفة للجميع.

علينا أن نستحضر كذلك أن الاحتجاج السياسي الديني المنظم عبر التاريخ العربي الإسلامي، ينتج وينمي الكوارث والصراعات السياسية الدينية؛ وإن طبيعة المأزق العربي الإسلامي يوجب على العدل والإحسان وعلى قيادتها الخروج من “البركة الآسنة” للاحتجاج السياسي، ومن مأزم الفقه الديني السياسي المتخلف؛ لأن المكان الطبيعي للجماعة هو مركب التنظيمات الإسلامية المجددة منهجا وفكرا وسلوكا، والمتفاعلة مع محيطها الوطني وتعقيدات وتغيرات الواقع الدولي.

ويمكن للجماعة بيسر تنظيمي أن تخلق منعطفا جديدا، فكريا وفقهيا وسلوكيا، مثل ذلك الذي خلقته حركة النهضة بمراجعات جادة تراكمية، ابتدأت منذ حوالي سنة 1992م. فأصبحت حركة النهضة أنموذجاً حياً لتجربة الاتجاه الإسلامي الذي عانى من التقتيل والسجن ومن التضييق من طرف نظام استبدادي.

لكن قيادات النهضة، وفي ظلت الاستبداد والمعاناة خلقت التجديد والدينامية الذاتية، بشكل يفوق كل النخب السياسية والدولة البوليسية التونسية؛ ومازال التنظيم يجري مراجعات بعد وصوله للسلطة السياسية إثر ثورة تعرضت لمحاولات انقلابية متعددة.

في المغرب يمكن القول إن التغيرات السياسية الأخيرة تفتح آفاقا جديدة للعدل والإحسان لرفع الحصار الذاتي الذي يفرضه التنظيم على نفسه. كما تساعد هذه الظروف الجماعة على إعادة الاندماج في الحقل السياسي الديني بشكل انسيابي غير مكلف جماهيريا.

إن المراجعات الفكرية والسلوكية والتنظيمية، لا تضعف التنظيمات التي تؤمن بقوتها، وبجدوائية مشروعها السياسي؛ والعدل والإحسان ليس تنظيما وليد اليوم. لكن وجب أن نسجل أن أزماته…ونقطة ضعفه الشديدة، تكمن في كونه تنظيما أحادي الفعالية، والرؤية السياسية. حيث لا تجد له فعالية حقيقة إلا في جمع الناس في تنظيم متكلس البنية، ومسدود الأفق الفكري والسياسي، ولا تجد لهذا الجمع من غاية وفعالية حقيقة إلا في فعل الاحتجاج السياسي.

العدل والإحسان جماعة كبيرة، ولن تظل كذلك إلا بتغيرات حقيقية على المستوى التنظيمي والفكري، ذلك أن التحولات الاجتماعية المعاصرة تجاوزت بقوتها وشموليتها قدرة الدولة القطرية العربية، فكيف لا تتجاوز جماعة محكمة التنظيم، تصر على الإبقاء على القديم فقها وفكرا وتنظيما، في زمن التحولات الدولتية، والإقليمية والدولية.