منتدى العمق

الكواكبي وأسباب تقهقر المسلمين انطلاقا من أم القرى

إنه لما كان أوائل القرن 14هـ وهو عهد عمّ فيه الخلل والضعف كافة المسلمين، وكان من سنن الله في خلقه أن جعل لكل شيء سببا ، فلا بد للخلل الطارئ والضعف النازل بهذه الامة من أسباب ظاهرة غير سر القدر الخفي عن البشر.

وهو الأمر الذي أثار حفيظة الكواكبي وبعض أفاضل العلماء والكتاب السياسيين لتكوين جمعية أطلق عليها اسم (أم القرى ) في ذي الحجة 1336هـ ، والتي كان همها الرئيس هو الكشف عن الجرثومة الخبيثة التي تنخر في الأساس وتعمل على إشاعة الخمول واليأس في أوساط المجتمع الإسلامي إلى درجة جعلته عاجزا وغير قادر على مواكبة التطور الحضاري .

إذن فما هي أسباب الفتور العام التي رصدتها الجمعية (أم القرى) برئاسة الكواكبي رحمه الله؟

وما هي الحلول المقترحة للحد منها وتحقيق النهضة؟

إن مسألة تقهقر الإسلام وتهلهل المسلمين من المسائل التي خصص لها الكواكبي رحمه الله جل كتاباته في محاولة منه لتقديم دراسة جادة عن أحوال المسلمين تصف تأخرهم عن ركب الحضارة وتسلط الضوء على أسباب التخلف وتنير الطريق للقضاء عليه ، ومن أجل ذلك وبدافع الغيرة الصادقة على الدين الإسلامي وأهله توصل الكواكبي إلى رصد أهم الأسباب الكامنة وراء هذا الفتور العام والتي قسمها إلى أسباب دينية وأسباب سياسية وأخرى أخلاقية بسطها في كتابه أم القرى على الشكل التالي:

الأسباب الدينية:

المعلوم أن لكل ابن آدم دين ، غير أن هذا الدين قد يكون صالحا وقد يكون فاسدا ، فأما الصالح فهو الكافل للنظام والنجاح في الحال والمآل، وأما الفاسد فهو الذي يكون صحيحا في الأصل لكن تطرأ عليه شوائب تفسده وتخرجه من صبغته الدينية وتحوله من نعمة أنعم الله بها على عباده لهدايتهم لكل ما فيه خير الدارين إلى نقمة تقودهم إلى الفتور في الدنيا والهلاك في الاخرة ، ولعل من جملة الشوائب المؤصلة للفتور في نظر الكواكبي: ترسيخ العقيدة الجبرية في العقول التي تكبح في المسلم القدرة على الخلق والابداع إلى حد يجعل الأمة جبرية باطنا قدرية ظاهرا ، وترسيخ فكرة النفور من الدنيا واستقذراها والزهد فيها بشكل قد يشل طاقات الانسان العمرانية والحضارية ويعطله عن أداء مهامه الاستخلافية ، و ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يؤدي إلى استرسال الأمة لعبادة الأمراء والأهواء والأوهام في وقت حذر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الخذلان على تاركي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قائلا صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب) ، بالإضافة إلى تشويش الدين والدنيا بسبب العلماء المدلسين وغلاة المتصوفين الذين استولوا على الدين فأضاعوه وضيعوا أهله ببدعهم التي اقتبسوها من أصحاب التلمود فسحروا بها عقول الجهلاء وقلوب الضعفاء كالنساء وذوي الأمراض القلبية أو العصبية من العامة ، فنالوا بذلك نفوذا عظيما جعلوا به كثيرا من المدارس تكايا للبطاليين الذين شهدوا لهم زورا بالكرامات المرهبة وجعلوا زكاة الأمة ووصاياها رزقا لهم وعطايا لأتباعهم ، فدخل الدين بذلك تحت ولاية العلماء الرسميين أو الجهال المتعممين الذين اتخذهم الأمراء مقربين ليفتوا لهم بما يناسبهم ويوطد استبدادهم وظلمهم للرعية وليديّقوا الخناق على العلماء الحقيقين ويلجموا أفواههم ويجعلوا كلامهم منحصرا ومقتصرا على بعض علوم الدين مع اهمال العلوم الرياضية والطبيعية لدرجة أصبح معها المتطلع إليها يفسق ويقذف بالزيغ والزندقة ، الشيء الذي أدى إلى نتيجة التبعية والتقليد و سقوط الأمة في العمي الحضاري الذي له عواقب وخيمة نسأل الله تعالى العافية.

الأسباب السياسية:

إن ما ذكره الكواكبي من أسباب دينية هي التي لطفت الجو وهيئت المناخ الملائم أمام الحكومة المطلقة العنان للتصرف في شؤون الرعية بلا خشية حساب ولا خوف عقاب ، ويأتي كونها مطلقة التصرف كونها غير مقيدة بقانون ولا إرادة أمة ذلك أن المستبد يحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم وبهواه لا بشريعتهم، الشيء الذي أدى إلى تفرق المملكة الإسلامية الى طوائف متباينة مذهبيا متعادية سياسيا مما مهد الطريق أمام الدين ليخرج من حضانة أهله فتفرقت كلمة الأمة وأصبحت عرضة للأطماع الاستعمارية الأجنبية ، هذا بالإضافة إلى استحكام الجهل في أغلب الأمراء المترفين ، الأخسرين أعمالا الذين ضلوا وأضلوا السبيل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ناهيك عن قلب لب الشريعة المبني على أن في أموال الأغنياء حق معلوم للسائل والمحروم فصارت الأموال تجبى من الفقراء والمساكين وتبذل للأغنياء ويحابى بها المسرفون والسفهاء.

الأسباب الأخلاقية:

لقد كان للأسباب السالفة الذكر ولغيرها مما لم نذكره خشية الاطالة أثر بليغ على أخلاق الأمة حيث استولى عليها الفتور وشاع فيها اليأس والخمول والتواكل والبعد عن الجد ، والارتياح إلى الكسل والهزل والانغماس في اللهو تسكينا لآلام أسر النفس والخلود الى الخمول والتسفّل طلبا لراحة الفكر المضغوط عليه من كل جانب لدرجة ولدت للامة فقد الإحساس حتى أصبحت ترى في الفضائل رذائل وفي الرذائل فضائل وتسمي النصيحة فضولا والشهامة تجبرا والإنسانية حمقا والرحمة مرضا والنفاق سياسة والتحايل كياسة والدناءة لطفا الشيء الذي أدى إلى فقد الثقة والتعاون بين الناس .هذا وقد أرجع الكواكبي انحلال الاخلاق الى أسباب متعددة منها جهل النساء وسوء تأثيرهن في أخلاق البنين والبنات والرجال أيضا خصوصا إذا كان الزوج مسلما والزوجة أجنبية مجهولة الأصل والأخلاق أو سافلة الطباع والعادات فإن الرجل ينجرُّ طوعا أو كرها وراء أخلاق زوجته، فإن كانت سافلة تسفّل لا محالة، وإن كانت غربية بغضته في أهله وقومه وجرّته الى موالاة قومها والتخلق بأخلاقهم ، ولا شك أن هذه المفسدة تستحكم في الأولاد أكثر من الأزواج.

هكذا وبعدما كشف الكواكبي رحمه الله عن الداء وشخصه بآناة ودقة لم يبق امامه إلا وصفة الدواء الأسهل إيجادا والأضمن نتيجة وهو ما تمثل في برنامجه الإصلاحي الذي رام من خلاله تحرير الإسلام من الجمود والخرافة وجعل المسلمين مسلمون بالأصالة لا بالتبع ومسلمون بذمتهم لا بذمة أسلافهم وهو الامر الذي لن يتحقق إلا بإرجاع الدين إلى بساطته الأولى التي يسرت فهمه لمن قبلوا دعوته في صدر الإسلام عندما كان الدين والعلم توأمان بينهما منتهى التقارب والوئام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *