وجهة نظر

زنازين وموازين

حاول أن تتخيّل هذا المشهد .. أنت في حالة حزن عظيم وإحساس بالظلم المختلط بالغرابة، تقعد ببطن زنزانة انفرادية في أحد أجنحة السجن، وتريد أن ينتهي عذابك إما بالإفراج أو الإفراج، فيأتيك صوت المطربة نوال الزغبي من جهاز الراديو الصغير الموضوع بجانبك، بعد أن ضبطته على موجة إحدى الإذاعات المستفيدة من إشهارات مهرجان “موازين”، تغني قائلة: “كم ليلة وأنت عني بعيد.. كم ليلة قلبي عاشها وحيد”.

لتغني بدورك بازدراء: “كم ليلة عاشها وسيعيشها ابني وحيدا بلا أب ولا معيل؟ كم ليلة يحتاجها حارس سيارات بعيون مفتوحة لا تنام، ليجني مقدار ما ستأخذينه يا “نوال” في ليلة واحدة؟ كم من الليالي سينتظرها مرضى “الدياليز” للحصول على سرير فارغ بجانب آلة تصفية الدم الوحيدة، التي مازالت تشتغل بعد أن تعطلت بقية الآلات القديمة التي لم تعوض بأخرى جديدة، والسبب -حسب المسؤولين- يعود إلى ضعف الميزانية المخصصة للوزارة؟

لم يكن هذا مشهدا متخيلا، إنه مشهد حقيقي من تجربة مُعاشة سنة 2017، وهي نفس التجربة التي سيعيشها -حتما- كثيرون هذه السنة، حينما سيشغلون جهاز الراديو الخاص بهم، المؤنس الثاني بعد الكتاب -إن وجد- في الزنازين، فيستمعون لسهرات مهرجان موازين المبثوثة على أمواج الإذاعات.

سيعيش سكان الزنازين من “ضحايا” الحراكات الاجتماعية والأفكار الحرة تجربة الاستماع إلى موسيقى العالم المتنوعة، التي يقول المشرفون على مهرجانها أن التنوع الموسيقي ببلادنا دليل تعايش ونبذ للعنف، ودعوة للتسامح والسلام، وتعبير عن الإيمان بالاختلاف وتقبل الآخر.

وسيتساءل المعتقلون من وراء القضبان وهم يحاورون السقف: “أليس هناك -بين الراقصين- رجل رشيد يتذكرنا.. يستحضر بكاء أمهاتنا وحزن أبنائنا، وعدالة قضيتنا، وحبنا للبلد، فيوقف الرقص على “أحزان الوطن” عائدا إلى المعقول؟

صحيح أنه لا أحد بيننا هو ضد الفن ومظاهر الفرح، إذ كلنا نحب الاستمتاع بالاستماع للأغاني والألحان، ونستحسن الرقص على إيقاعات أغاني نوال الزغبي، إلا أن حظنا “الزغبي” في هذه الأرض، وقدرنا المكتوب، جعلنا نسمع عن أزمات صندوق التقاعد وصندوق المقاصة، وقلة الميزانيات المرصودة التي قد تمكننا من حل مشاكل التنمية والرفع من أجور الموظفين، وأن نرى بأم أعيننا -بالمقابل- الملايير تصرف لتنظيم مهرجانات الغناء والتظاهرات التي لا يستفيد منها فقير.

قُدِّرَ لنا أن نرى بعيوننا التي “سيأكلها الدود” ضخامة رواتب المدربين الرياضيين الأجانب، وتعويضات كبار المسؤولين، وأجور المغنيين “العراة” الذين يتم استقدامهم من الغرب والشرق ليغنوا بمهرجانات “منفوخ فيها” كمهرجان “موازين” وغيره، وأن يُقال لنا اصبروا وصابروا رغم الغلاء، ولا تتوقفوا عن شراء “حليب فرنسا”، لأن أي تراجع -لا قدر الله- في مبيعات شركة “المستعمر القديم” قد يتسبب في أضرار مهمة لاقتصاد الوطن.

قُدر لنا أن نعاين الإعلام الرسمي يدعونا -بلا خجل- إلى الرقص على أنغام ليالي “موازين”، متناسيا أن هذا التمايل في الأصل سيكون رقصا على أحزان الأمهات المكلومات ببعد أبنائهن، والزوجات المشتاقات لأزواجهن، الذين خرجوا ذات يوم للمطالبة بالكرامة وبتنمية مدينتهم، فوجدوا أنفسهم متابعين بتهم “غريبة”.

قُدِّر لنا أن نرى بعض القوانين “المكيفة” تساهم بوعي أو بدون وعي في خدمة سياسة “التدجين” التي تريد أن تجعل “عنادل الوطن” تصدق “أكذوبة” مفادها أن حياة الأعشاش خير وأبقى من التحليق في جو إبداء الرأي والتعبير، وأن الصمت يطيل العمر، وأن التغريد خطيئة وانتحار.

قدر لنا أن نتساءل بعد كل نشرة أخبار: أما آن الأوان لتتخلى السلطة عن أدواتها القديمة، وأن تعيد للمغاربة الأمل والثقة في مؤسسات الدولة وفي إرادة الإصلاح والبناء الديمقراطي؟

أمَا آن الأوان لتدخلٍ حكيم، يُصلح –كما عهدناه دائما- ما أفسده شطط البعض، فيُصالح بذلك المغاربَةَ مع بعض المؤسسات التي أخطأت التقدير في لحظة من اللحظات؟ أما آن الأوان لإطلاق سراح المعتقلين ضحايا الحسابات السياسية والحراكات الاجتماعية، علّنا نرقص ونغني جميعا جذلا وفرحا وافتخارا بالوطن؟

لنكن صرحاء، إن مهرجان موازين اليوم لا يشكل أولوية عند المغاربة، ولن تجمل أضواؤه وإشهاراته وجه الوطن العبوس، فمادامت بطون الزنازين ممتلئة بضحايا الحراكات والمطالب الشعبية وكتاب الرأي الحر، ستظل -بالتأكيد- موازين هذا الوطن مُختلة مهما حاولنا تعديل الميل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *