وجهة نظر

همسات حكمة في أذن أصدقائنا الفرنسيين

باتفاق كل الفاعلين والمتتبعين والمراقبين، ما تعرفه فرنسا هذه الأيام شيء مختلف تماما عما اعتادت هذه الدولة الصديقة إرساله إلى العالم من إشارات و وقائع وأخبار. وبأثر أقوى، ما تشهده نهاية كل أسبوع، عاصمة الأنوار باريس، هو رجة قوية بكل المقاييس، وحدث سيمتد أثره إلى مدى بعيد في الحاضر والمستقبل الفرنسي، كما كانت أحداث ماي 1968، بل ربما بشكل أعمق هذه المرة.

وبحسب ما سمعناه من تصريحات الساسة والمسؤولين الفرنسيين، وما طالعناه من معطيات وتحاليل خبراء جادين، يبـدو أن ما يجـري هـو تجـل من تجليـات أزمـة متعـددة الأوجـه، يختلـط فيها الاقتصادي بالاجتماعي، استفحل وقعهها مع حساسية وقع بعض الاختيارات الاقتصادية والضريبية التي اعتمدها الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون. كما أن فرنسا، بعد الزلزال الذي أصاب ساحتها السياسية الحزبية، خلال آخر انتخابات رئاسية وتشريعية، تعيش نقاشات عميقة بشأن نموذجها الديمقراطي، إلى الحد الذي انطلق معه البعض يسائل جدوى ونجاعة “النموذج الفرنسي” للتمثيلية الديمقراطية، وعجز الفعل المؤسساتي الرسمي في أن يوصل حقيقة تظلمات ومعاناة فئات واسعة من الشعب الفرنسي، خصوصا الفقراء و أصحاب الأجور الضعيفة ومتقاعدي القطاع العام، ويفرض الأخذ بعين الاعتبار احتياجاتهم وانتظاراتهم من طرف الحكومة ورئاسة الدولة.

وفي انتظار الخروج من أثر الفعل الميداني الجاري، وقراءة الخلاصات التي سيستنبطها المعنيون بالأمر أولا، ألزمت نفسي ألا أنجر، في هذا المقال، إلى مرتع تفاهة الاستنتاجات المتسرعة، والقراءات المبنية على أحكام قيمة مسبقة، كما فعـل للأسـف بعض أصدقائنا الفرنسييـن، تفاعلا مع أحداث “الخريف” ببعض الدول العربية. كما أنني لن أتـرك نفسي تسقط في أي “تشف” غير أخلاقي، خصوصا وأنني لا أشعر بتاتا بالحاجة إلى ذلك. وعليه، لن أكذب على نفسي وعلى القارئ، وأدعي أن ما يجري دليل على أن “النظام الفرنسي على وشك أن ينهار”، أو أن “الشعب الفرنسي يريد إسقاط النظام الجمهوري بفرنسا”، أو أن “ما يحدث هو نتيجة كذا مشكل…. وكذا تهميش…. وكذا استعلاء… و كذا تغييب… وكذا طغيان..”. بكل صدق، سيكون ضربا من العته أن نقول ذلك.

كما أنني لا أنصح بإضاعة الوقت أمام شاشات بعض القنوات العربية الإخبارية المتخصصة في “الجذبة الإعلامية التحريضية”، للإستماع لتحاليل “سفسطائية” يقدمها خبراء هم في الأصل لا يعرفون الكثير عن مكونات الوعي الجماعي هنالك، بأبعاده السياسية والاجتماعية والأنتروبولوجية، كما لا يعرفون لغة موليير ولا هم يتحدثون بها، إلا ما كان من عبارات “صباح الخير” bonjour و “مساء الخير” bonsoir و “هل كل شيء بخير؟” est ce que ça va ، عندما يلجون فنادق الخمس نجوم الباريسية، قرب شوارع شان إيليزي و جورج الخامس وشارع كليمنصو…

فرنسا دولة مؤسسات ديمقراطية قوية، و اقتصادها قوي رغم الصعوبات الكبيرة. وما يجري الآن، سيجد له الشعب ونخبته السياسية والفكرية، مائة حل وحل، لتجاوزه في إطار جدلية العلاقة بين المؤسسات وتفاعل المصالح هنالك. وأقصى ما يمكن أن يحدث، إذا رفض المحتجون تنازلات الرئيس وحكومته، هو إقرار انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، وإذا استعصت الأزمة وطال أمدها، قد تقرر انتخابات رئاسية قبل موعدها، ويعود القرار للشعب، وينتهي الأمر.

بصدق، أتمنى أن يجد الفرنسيون، بسرعة، أرضية توافقية تمكنهم من التغلب على هذه “المحنة”، كما تجاوزوا محنا أخرى في السابق. فأنا أومن أن غنى الحضارة الفرنسية وما أبدعته من فكر، ومن إبداعات تستحق الاحترام، سواء اختلفنا مع بعض من مضمونها، أو اتفقنا مع البعض الآخر. والعقل المنصف لا بد وأن يعترف لفرنسا بالريادة في مجموعة أمور، كمقدار ما نعترف ونلح على شجب لماضيها الاستعماري الذي تجره وراءها، وما خلفه من أذى لعدة شعوب.

ولكنني، سأسمح لنفسي، في هذا الظرف الفرنسي العصيب والاستثنائي، بوضع ملتمس فوق طاولة إعلاميي فرنسا وسياسييها ومفكريها ونخبتها عموما، وأقول لهم كمواطن مغربي :

“رجاء أصدقائنا… كما نحن الآن نعتبر، بكل رجاحة عقل، أن ما يحدث عندكم هو تدافع عادي يمكن بشكل عادي أن يقع في ظل تحديات الأزمنة المعاصرة، اقتصاديا واجتماعيا… وكما أننا نثق أنكم ستتغلبون عليه من خلال مسائلة ديمقراطيتكم وطريقة اشتغال أحزابكم ونخبتكم… وكما نحن ملتزمون أقصى درجات الاحترام لبلدكم، ولمؤسساتكم، ولهيبة دولتكم وشرعيتها… أرجوكم بكل ما أحسبه ذكاء تتميزون به، إذا قدر الله وحدث عندنا بعض احتجاج، في مستقبل بعيد أو قريب، كما حدث عندنا في الماضي، وسواء أ كان ذلك الاحتجاج ضعيفا أو قويا، وسواء ارتبطت أسبابه بسوء تدبير شأن عام معين، أو بنقص في أداء قطاع من القطاعات العامة، ظلم أنفسهم القائمون عليه، أو تهاونوا، في توفير ما كان يجب توفيره من تجهيزات وخدمات قرب، ودعم أساسي لفئات من المواطنات والمواطنين، في الوقت المناسب وبالسرعة اللازمة وفي المجالات الجغرافية المحتاجة لذلك فعلا… وإذا حدث، لا قدر الله، و تفجرت عندنا، هنا أو هنالك، احتجاجات، صاخبة أو غير صاخبة، يرغب أصحابها، بأعداد كثيفة أو بمجموعات صغيرة، في تحقيق مكتسب اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي أو حقوقي، أو الدفاع عن مكتسب قائم أرادت جهة ما التراجع عنه… أرجوكم يا إعلاميي وسياسيي ومثقفي فرنسا، استحضروا حينها أننا مجتمع حي مشكل من شعب حيوي… وأننا لسنا مواطنين في دولة “كرطونية” يمكن أن يتهاوى بنيانها في أيام أو أسابيع، بفعل مسيرة هنا أو اعتصام هنالك… وأننا لسنا شعبا سقط سهوا من القمر، لا نعلم من أين أتينا ولا إلى أين نسير… ولا نحن مجتمع ضاق بعضنا ببعض وصار يبحث عن أي سبب لينفصل ذلك البعض عن البعض الآخر…. ولا نحن نعادي الحرية و الديمقراطية، وجدلية التداول، وشرعية المؤسسات، إلى درجة ألا نستطيع تدبير اختلافاتنا مهما بدت لكم “شديدة ومعقدة”… ولا نحن شعب بدون غيرة وطنية واعتزاز بكل أبنائنا، حتى تعتقدوا أننا يمكن أن نقبل أن نسلم من نختلف معهم في الرأي والاجتهاد، أوننزع عنهم وطنيتهم وشرعيتهم وحقهم في أن يجتهدوا ويعملوا في إطار القانون… ولا نحن شعب ينقصه الذكاء الحضاري اللازم لنهضة الأمم وتجاوز الأزمات… ولا نحن رافضون للتحرك ضد الجهل والفقر والبؤس والظلم، في احترام تام لثوابت أمتنا المغربية….

رجاء أصدقائنا الفرنسيين… احرصوا في المستقبل على احترام ذكائنا عندما نختلف معكم… واحترموا قدرنا ومكانتنا عندما يقسو علينا الزمن ويتكالب المغرضون… والتمسوا لنا العذر عندما نجتهد خارج ما يروق تحاليلكم للظرفية، أو عندما ندافع عن مصالح دولتنا الوطنية، وعن اقتصادنا، وعن جذورنا، وعن حظنا من المستقبل….

ولا تنسوا… أرجوكم لا تنسوا أبدا أننا شعب مغربي حر، كنا وسنظل… وأننا هنا نحيى، منذ قرون وقرون، قبل أن تكتمل حدود دولتكم المحترمة ويستقر بنيان مجتمعكم المحترم…

* فاعل سياسي وجمعوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *