وجهة نظر

في العمارة الإسلامية.. الحلقة الأولى: المبادئ الأساسية

كاتب رأي

قد يتبادر إلى ذهن البعض أن الحديث عن العمارة الإسلامية بالمغرب يحتاج إلى طرح العديد من الأسئلة حول وجود هذا المصطلح والاختلافات المطروحة حوله.
فما خلفه الأجداد العباقرة من تراث معماري ،وارث إنساني مشترك، اشتركت فيه أفكار وأذواق متعددة أعطت للمدينة الإسلامية لوحة غنية فسيفسائية ومزينة ومضيئة ، تعانقت فيها الروح بالجسد في صفاء رباني.

ولا غرو إذا كان أجدادنا تركوا لنا هذا الإرث الحضاري ليس من باب الترف ، ولكن ليؤكدوا لنا أن الرسالة والأمانة التي عليها وجدت هذه الحياة لاتحتاج إلى عقول جامدة ، بقدرما هي في حاجة إلى عقول تفكر وتنتج لكن بأمانة وقوة.

قد تكون الطريقة التي طرحت بها الموضوع في حد ذاته، تقلق راحة بعض المنكرين لمفهوم مؤسس منذ قرون للعمارة الإسلامية ،ولكن ربما بعض الحلقات التعريفية يمكن أن يزيل غشاوة على هذا الجهل بالتراث الإسلامي الذي أصبحنا لانعرف عنه إلا القليل.

وللإشارة فقط فانه لابد من التأكيد على أمر واحد ، هو أن مايجري الآن من عمليات بيع لهذا التراث المعماري بهذا الشكل المخيف يهدد سلامة وبيئة المدينة العتيقة، لأنها تمثل نوعا من التحطيم التدريجي لها ،وتحطيم ما فيها من معاني الحضارة الإسلامية والتراث الإنساني.

والحديث عن المبادئ الإسلامية للعمارة يحتاج إلى أن نحدد المصطلح ليسهل علينا الإحاطة بالمبدأ الذي أسست عليه العمارة،وفي هذا الصدد يرى الدكتور المهندس يحيى وزيري، أن مفهوم العمارة الإسلامية يختلف باختلاف الرؤى ،فالبعض يرى أنه لايجوز أن نصف المباني والعمائر التي بنيت في مناطق العالم الإسلامي عبر التاريخ بأنها إسلامية أو يطلق عليها مصطلح العمارة الإسلامية ،وبين من يرى أنها توجد عمارة إسلامية تتمثل في مجمل المباني والمدن التي يحفل بها العالم الإسلامي ومناطقه بما فيها البلاد التي كانت جزءا منه في فترة من الفترات كالأندلس وصقلية.

ولذلك فالعمارة الإسلامية هي رؤية شمولية تأثرت بعدة عوامل شكلتها وأنضجتها روافد عدة دينية وحضارية ومناخية.

وعليه تأتي من جملة هذه المبادئ:

-1-مبدأ الثبات في الأرض:

الأصالة والمنطلق شرعة ومنهاجا .

يقتضي العمل في العمارة على مراعاة أحكام الشريعة الإسلامية في عمليات التخطيط والتشييد والبناء والزخرفة وكل الفنون المتعلقة بالعمارة الإسلامية ،ويؤكد الأستاذ يحيى وزيري في مقدمة كتابه” عمارة الأرض في الإسلام” ،حيث يعتبرها مجموعة من المباني والأماكن التي شيدها المسلمون بإتباع مبادئ الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية واستخدام مواد البناء المتوفرة في تلك الفترة دون تدخل السلطة إلا في حالات الخلاف بين الملاك” * ،واطرح سؤالا أساسيا كيف كانت تراعى أحكام الشريعة الإسلامية في عمليات البناء كتثبيت للقانون الإسلامي في العمارة الإسلامية؟

-إن هذا الأمر كان يدخل ضمن اختصاصات الدولة الإسلامية الأساسية وكانت هناك هيآت رغم بساطتها إلا أنها كانت تحمل في طياتها مشروعا ورؤية تحدد أبعاد أي عمل تريد أن تقوم به .

2-مبدأ الإنسانية:

إذا سلمنا أن الحضارة هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته ،سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى الثمرة مقصودا أم غير مقصود ،وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية.

ومن حيث ارتباط العمارة الإسلامية بالإنسان، فإنها قامت عليه وعلى مقياسه، هذا الإنسان من حيث هو روح وتاريخ، ومن حيث هو كائن اجتماعي مرتبط بتقاليد، فلقد كان دائما مقياس المدينة العربية مند نشوءها قبل التاريخ بأربعة آلاف عام وحتى اليوم.

إلا أن إنسان الشريعة كان يرتبط في تدبير معاشه بمنهاجها وكانت له فلسفة خاصة به غير مجردة من إنسانيته، كما حصل في المادية المعاصرة حينما أزاحت عن الإنسان العديد من القيم فأصبح يتحرك في هذا الكون بلا هدف ولا غاية

– -3مبدأ العمارة في الأرض

في الإسلام يستوقفنا مفهوم “الخلافة والاستخلاف” ويرادفه مفهوم العمارة والاعمار “هذين المفهومين المتلازمين الشرعيين ، يجعلان من مصطلح العمارة الإسلامية أساسي في الثقافة الإسلامية ونزيد في توضيح الأمر من خلال جرد لبعض المواد التي ذكرت في القرآن الكريم :

3-1-الآجر: “فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى الاه موسى*

الحضارة الفرعونية مثال تاريخي في ارتباطها بالعمارة وما الأهرام التي مازالت رابطة آلاف السنين لدليل قاطع على أن الإنسان المصري استطاع أن يطور فيها ويبتكر العديد من الوسائل والتقنيات كاستعمال الآجر الساخن في النار والذي له مفعول متين في الصلابة والقوة المعمارية،ويطرح القرآن الكريم في حكيه عن الغلو والقوة التي وصلت إليها حضارة فرعون ليس من باب التأريخ ولكن من باب التدبر وأخد المسلمون بأسس القوة الحضارية والعمرانية حتى يكون لهم شأن كباقي الحضارات الأخرى ،وهذا الأمر رد فقط على بعض التعابير التي أعتبرها مجانبة للقصد القرآني منها

3-2-استخدام الحديد والنحاس

*وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس*

للحديد منافع هامة كما حددها القرآن الكريم وارشد إلى ضرورة الاهتمام به كمادة نافعة في الحياة فشيدت به المباني وتبثث به الأعمدة والبنايات الشاهقة حتى الآن.

3-3-الزجاج:

قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة…”

جاء في تفسير الطبري عن ابن حميد ،قال :ثنا ابن سلمة :عن ابن إسحاق ،عن بعض أهل العلم ،عن وهب بن منبه ،قال :أمر سليمان بالصرح وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضا ،ثم أرسل الماء تحته ؟،ثم وضع له فيه سريره ،فجلس عليه ،وعكفت عليه الطير والجن والإنس ،ثم قال ادخلي الصرح ليريها ملكا هو أعز من ملكها وسلطانا هو أعظم من سلطانها فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها لا تشك أنه ماء تخوضه ،قيل لها ادخلي انه صرح ممرد من قوارير فلما وقفت على سليمان دعاها الى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس دون الله.

لا حظ عظمة العمارة القديمة التي وصلت الى مستوى راقي باستخدامها للزجاج في البناء والتقنية العالية التي جعلت ملكة من الملوك تفتتن بذلك البناء ،في ذلك
العصر القديم.

ويحكي القرآن الكريم عن التقدم المعماري الذي وصلته مملكة سليمان وكيف تفننت أيدي معمارييه في ذلك الوقت حتى افتتن بها ملوك الأرض..

4-3استعمال نماذج من بيوت المخلوقات الصغيرة:

-بيت العنكبوت: *كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ،وان أوهن البيوت لبيت العنكبوت لوكانو يعلمون*
-بيت النحل: *وإذ أوحى ربك للنحل أن اتخذي من الجبال بيوتا*

جاء في تفسير المنير:إن الله قد أمر النحل وهم زنابير العسل واحدتها نحلة.

ويعرشون يجعلونه عريشا ،وقرأ ابن عامر ،وأبو بكر عن عاصم “يعرشون بضم الراء وهما لفتات يقال “يعرش “ومثل فيه قولان.

أحدهما :مايعرشون من الكروم ،قال ابن زيد.

والثاني :اتنها سقوف البيوت ،قاله الفراء ؟،وقال ابن قتيبة :كل شيء عرش ،من كرم ،أونبات ،أو سقف ،فهو عرش ،ومعروش ،وقيل المراد ب(لكما مما يعرشون ):مما يبنون لهم من الأماكن التي تلقي فيها تلقي العسل ،ولولا التسخير ما كانت تأوي إليها.

ونستخلص فائدة ؟أساسية أن هذه الحشرة الصغيرة سخرت وأمرت واتخدت في حياتها المعمارية ذوقا رفيعا في البناء والتشييد ولذلك اعتبرت بمثابة إعجاز الهي وآية من الآيات الربانية التي وجب التدبر وأخد العبر منها.

-بيت النمل :*قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون*

القرآن الكريم حافل بالأمثلة والمعاني الكبرى التي تدل أن العمارة في الأرض واجب وهي رسالة الله إلى العالمين*ولقد عرضنا الأمانة على السموات والأرض فأبين أن يحملنها ،وأشفقنا منها ،فحملها الإنسان…*

وعرض القرآن الكريم لهذه العوامل العمرانية ليس من باب الحكي التاريخي فقط كما ذهبت بعض الآراء ولكن الغاية منه هو السير في الأرض وعمارتها

-4-مبدأ الخصوصية:

كان المسلمون الأوائل في بنائهم وزخرفتهم وعمرانهم يتمثلوا فيهم الروح الإسلامية التي افتقدت في العديد من الأبنية المعاصرة.

مازالت الحضارة الإسلامية شاهدة رغم مرور الزمن على قوة روح المعماري المسلم الذي كان يخط وفق فن وذوق

أصيل امتزجت روحه بإنسانيته ،انه بالفعل معمار إنساني ،وهذا الأمر لن تحس به إلا إذا عشت في المدينة القديمة ،أصل العمارة الإسلامية ،ولعل الدفء الذي افتقدته الحياة العصرية يوجد داخل المدن العتيقة والتي اعتبرها مدنا حية حقيقة لا يشعر بها إلا القليل وهذه هي الحالة الوجدانية التي كان عليها المسلمون الأولون حينما كانوا يشيدون بناءا معماريا ،إنما كانوا يصنعون الحياة،حياة لهم ولمن سيخلفهم.

ولذلك يمكن أن نسميها العمارة هي بالأساس صناعة للحياة.

-5-مبدأ إحياء الأرض الموات:

هذا المبدأ بالأساس له ضوابطه الشرعية حددها علماء الفقه على مر العصور.

فإحياء الموات عند الفقهاء أمر مختلف فيه ،حيث أذن الإمام في مذهب الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد ،واشترط أبو حنيفة أن يكون بإذن الإمام ،وقال مالك :إن كان بعيدا عن العمران بحيث لا تباح الناس فيه لم يجتمع الى أذنه وان كان مما قرب من العمران ويباح الناس فيه افتقر إلى أذنه ،لكن إن كان الأحياء في أرض الخراج فهل عليك ،ولا خراج عليه أو يكون بيده ،وعليه الخراج ،على قولين للعلماء هما روايتان عن احمد .

ويعتبر الأستاذ جمال عبد القادر أن الإحياء أهم وسيلة في العمران والتملك، وإذا أخدنا في الاعتبار قواعد الإحياء التالية:

-الاحتجار
-الإهمال
-استثمار المجهودات
-إذن الإمام

وقد عالج فقهاء الأمة هذا الأمر، وأكد الماوردي في الباب 15 من كتاب الإحكام السلطانية للماوردي في إحياء الموات واستخراج المياه :على انه من أحيا مواتا ملكه بإذن الإمام وبغير إذنه ،وقال أبو حنيفة :لايجوز إحياؤه إلا بإذن الإمام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم *ليس لأحد إلا ماطابت به نفس إمامة *وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم:*من أحيا أرضا مواتا فهي له*

وهذا الأمر يدل على أن ملك الموات يعتبر بالإحياء دون إذن الإمام.

والموات عند الشافعية كل مالم يكن عامرا ولا حريما لعامر فهو موات وان كان متصلا بعامر ،وقال أبو حنيفة :الموات مابعد من العامر ولم يبلغه الماء.

وقال مالك :جيرانه من أهل العامة أحق بإحيائه من الأباعد ،وصفة الإحياء معتبرة بالعرف فيما يراد له الإحياء ،لأن الرسول أطلق ذكره إحالة على العرف المعهود فيه فان أراد إحياء الموات للسكن كان إحياؤه بالبناء والتسقيف لأنه أول كمال العمارة التي يمكن سكناها، ومن هنا نرى أن علماء الأمة قد أسسوا لمبدأ هام في عمارة الأرض من خلال مبدأ الإحياء الذي تفرع عنه العديد من الأحكام الفقهية

-6-مبدأ لاضرر ولا ضرار:

مفهوم الضرر:

الضرر هو الأثر المادي والمعنوي الذي ينتج جراء فعل أو قول أو أثر بنوعيه المادي والمعنوي ،وكل الأنشطة العمرانية قد تؤثر على المجال المحيط بها ،لذلك كان من اللازم الحديث عن هذا المبدأ وكيف استطاع علماء الفقه الإسلامي أن يحددوا له أحكام فقهية تكون بمثابة النظم في العمارة الإسلامية ،ومن الأحكام التي مازالت دائعة الصيت.

-عدم الارتفاع بالبناء على الجيران، وعدم فتح نوافذ تطل على حريمهم وحكم بناء الأفران والمصانع والمدابغ التي يتضررون منها.

وعدم منع الجار من وضع عروق البناء على بنائه ،وحكم إخراج الميازيب والشرفات على الطريق ،وغير ذلك من المسائل الدقيقة التي تدخل ضمن هذا الإطار من حقوق البناء:

-7-مبدأحق الارتفاق:

ويزيد الماوردي في الباب 16في الحمى والإرفاق : أن الإرفاق هو إرفاق الناس بمقاعد الأسواق وأفنية الشوارع وحريم الأمصار ومنازل الأسفار فيقسم ثلاثة أقسام :قسم يختص الارتفاق فيه بالصحارى والفلوات ،وقسم يختص الارتفاق فيه بأفنية الأملاك ،وقسم يختص بالشوارع والطرق.

وعند حديث الماوردي عن الضرر في حالة الإرفاق فقد حدد في القسم المتعلق بإرفاق الدور والأملاك ،فان كان مضرا بأربابها منع المرتفقون منها إلا أن يأذنوا بدخول الضرر عليهم فيمكنوا ،وان كان غير مضر بهم ففي إباحة ارتفاقهم به من غير إذنهم قولان :أحدهما أن لهم الارتفاق بها وان لم يأذن أربابها ،لأن الحريم مرفق اذا وصل أهله الى حقهم منه ساواهم الناس فيما عداه والقول الثاني أنه لايجوز الارتفاق بحريمهم الا عن اذنهم لأنه تبع لأملاكهم فكانوا به.

وزاد في هذا الأمر قول ثاني :أنه لايجوز الارتفاق بحريمهم إلا عن إذنهم لأنه تبع لأملاكهم فكانوا به أحق وبالتصرف فيه أخص ،فأما حريم الجوامع والمساجد ،فان كان الارتفاق به مضرا بأهل المساجد والجوامع منعوا منه ولم يجز للسلطان أن يأذن لهم فيه لأن المصلين به أحق ،وان لم يكن مضرا أجاز ارتفاقهم بحريمها ،وهل يعتبر فيه اذن السلطان لهم على وجهين من القولين في حريم الأملاك.

لا حظ معي هذا التقسيم العجيب وكأن الماوردي مهندس معماري يخط تخطيطا عمرانيا مذهلا ، في إحاطة بعلم أصبح الآن رمز الحضارة المعاصرة

ينتج عن هذا المبدأ حقوق وهي كالآتي:

-حق المجرى :إجراء الماء في ملك جاره لملك نفسه
-حق المسيل:حق تصريف المياه الزائدة من ملكه خلال ملك جاره.
-حق المرور:*والله ليمرن به ولو على بطنك *عمر بن الخطاب

وهو حق عيني مقررا لعقار معين بصرف النظر عن مالكها.

وكانت الأحكام الفقهية تختص بحل المشاكل المتعلقة بحقوق صاحب الشغل وصاحب العلو.

كما أنها كانت تعالج العديد من القضايا كالمناخ وخصوصا تسرب الدخان /الرائحة الكريهة /الأصوات المزعجة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *