وجهة نظر

حكامة الثقافة: المنحدر الخطير

بعد جلسات مع أصدقاء فنانين و حاملي مشاريع ثقافية أصبح من واجبي أن أكتب لأن الهشاشة خطر على الإبداع و لأن خلق الظروف الملاءمة لحماية هذا الإبداع تحتاج إلى السياسة المسؤولة و غير تلك التي لا ترى في تدبير الشأن العام غير قضية تيقنوقراط. هؤلاء يحتاجون إلى الثقافة و المثقفين لكي يفهموا أن السياسة لا معنى لها بدون التزام بأخلاق و قيم و تاريخ الوطن في تنوعه و في وحدته.

صوت الفن و الثقافة يعلو على صوت الكثير من “السياسيين ” الذين شاء القدر السياساوي أن ينزلهم منازل لا تليق لا بالإبداع و لا بعمق دور الثقافة و المثقفين. لم أشهد أبدا أن يصل مستوى القطيعة بين وزارءالثقافة ومن يعطون طعما و لونا و عمقا للثقافة مثل ما شهدته خلال السنين الأخيرة. إنه طلاق بين أوصلنا إليه السفاهة التي تغلغلت لدى بعض الأحزاب في توزير من لا علاقة له بالفكر و لا بالسياسة. و أشك أنه يعرف تاريخ الفن في بلاده و أشك أنه قرا ” النبوغ المغربي في الأدب العربي” للعلامة المرحوم عبد الله نكون. و أشك أنه فك رموز فن الملحون و صنعة الزجالين و سحر صوت المطربين و إلهام الشعراء و المخرجين المسرحيين و السينمائيين و الزجالين. بالمختصر الحزين، ضربنا الثقافة و الفن بسلاح توافقات من أجل إخراج حكومات إلى حيز الوجود. فانتصر الغث على السمين. لم أعثر على لحظة تاريخية استنكرت فيها جمعيات ونقابات الفن و الثقافة أداء المسؤولين السياسيين على القطاع مثلما يحدث في هذا الزمن الرديء.

حين نبحث في تاريخ الشعوب نحاول سبر أغوار ثقافاتها لمعرفة ماضيها و حاضرها و حتى مستقبلها. قد نبني المصانع و الطرق و الجسور و قد لا نستطيع صنع ثقافة. الثقافة لا تتجدر بقرار إداري في تربة الوطن. الثقافة صنيعة تراكم الإبداع في كافة المجالات و في التعبير عن تناقضات المجتمع وعن تلك اللحظة التي تؤسس لهذا التعبير . ولنا وزارة تضم إلى جانب الشباب و الرياضة و الإعلام قطاعا للثقافة و مر من أمامنا وزراء للثقافة لا يعرفون شيئا يذكر عن دورها التاريخي في صنع الهوية و تبرير الوجود و التساكن على أرض أصبحت منذ قرون وطنا لثقافات متعددة.

مرت وجوه على قيادة العمل الثقافي قليل منها حمل هم التفكير و الإبداع و الكثير تراجع بقصد أو بجهل بدور الثقافة في بناء قيم الوحدة و الانفتاح و السعي إلى العلم و المعرفة. وزير الثقافة منصب سياسي بامتياز لأنه يقف على جسور لإيصال كل المشاعر و زرع الأمل في كل الأجيال. بعد شخصيات فذة حملت حقيبة الثقافة كالحاج امحمد باحنيني و علال سي ناصر و محمد بن عيسى و الأشعري تولى مسؤولية الثقافة من حملتهم موجة سياسية إلى منصب أكبر من طموحاتهم و تكوينهم. منهم من عادى المسرح و الموسيقى و منهم من أبان عن ضعف خطير في تواصله و منهم من يجاري الزمن الحزبي لضمان أشواط إضافية و يرى في الثقافة مجرد ملف صغير بالمقارنة مع الإعلام و مؤسساته قوية التأثير.

و يجد المبدعون أنفسهم أمام فراغ كبير. أمام خلط كبير للأوراق مثل ما يقع حاليا من ارتجال في مجال إخراج مراسيم تهم على سبيل المثال لا الحصر قضية تنزيل التغطية الصحية للفنانين. و قد أجمعت كل مكونات االكونفدرالية المغربية للمنظمات الفنية و الثقافية المحترفة على ضرورة إعطاء معنى حقيقي للمنهج الذي أقره الدستور و ذلك عبر نقاش مهني بعيد عن التسرع . و اعتبرت الكنفدرالية أن إخراج أي نصوص تنظيمية في ما تبقى من الولاية التشريعية قد تكون له آثار وخيمة على مهن تحمل جزءا كبيرا من الثقافة و هموم تدبيرها.

وقد عبر النقيب الفنان مولاى العلوي على ضرورة الرجوع إلى المبادىء و المقتضيات التي تضمنها الدستور و قانون الفنان و اعتبار الثقافة و إبداعاتها سياسة عمومية تخضع لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة مع فتح المجال للفنان لكي يساهم في الرقابة على قطاع يعيش من أجله و يتاثر بعمق بشكل و منهج تدبيره السياسي و الإداري. ففي الوقت الذي تم التعامل فيه مع المقاولات الإعلامية بنوع من السرعة عبر تخصيص دعم مالي لها ، لم يحظى القطاع الثقافي بنفس الإهتمام لكونه لا يؤثر في المواقف السياسية مثل الإعلام.

كما عبر الفنان نعمان لحلو عن عمق الأزمة التي يعيشها القطاع الثقافي رغم تعوده على السباحة ضد الأمواج العاتية و اللجوء إلى عرينه الأستوديو لاستفزاز الأنغام و الإيقاعات. إيقاع سياسة القطاع لا يسمو إلى درجة تحفيز المبدعين لكي ترجع الروح إلى مجالات إبداع أهل المسرح و السينما و الرسم و الغناء.سبق للفنان نعمان لحلو أن خاطب في أغنيته “سعادة الوزير” أولئك الذين جلسوا على المقاعد الحمراء بالبرلمان و أوصل إليه رسالة شباب لا يريد مغادرة بلاده و لكنه يطلب جهدا حقيقيا لفتح أبواب الكرامة في وجهه. اليوم يظهر أن الحكومة أدارت وجهها لما أقره الدستور و قانون الفنان .

اوراش كثيرة لا تحتاج إلى الدقائق الأخيرة من عمر ولاية دستورية بل إلى زمن سياسي يعطي للفنان حقوقه في التأليف و الإبداع و الحضور الثقافي و ترسيخ الروح الوطنية عبر زرع قيم حب الوطن في تنوعه و عمق تاريخه و صلابة جسمة لمواجهة المستقبل. هل ينتبه سياسيونا إلى أن منصب وزير مهما كانت تسمية الكرسي الذي سيجلس عليه يحمل حقيبة مملوءة بالمهام و ليس مجرد أي كرسي. الثقافة إسمنت مجتمع يشد العضد و يؤسس لاستمرارية تاريخية و ليست منصبا لكل طموح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *