وجهة نظر

تاريخ القضاء الدستوري المغربي وأهم مستجداته في ظل دستور 2011

يقول السياسي الفرنسي جورج بيدو أن مصير أمة يعتمد على ثلاثة عوامل : دستورها، الطريقة التي ينفذ بها و مدى الإحترام الذي يبعثها في النفوس، حيث إن إحترام الدستور من طرف الشعب، ولو أنه يتعارض مع مصالحه الشخصية، فيعني أن مصير الأمة يكون جيداً. لأن الدستور هو القانون الأعلى والأسمى للدولة، ويجب على جميع القواعد القانونية الأخرى عدم مخالفته. لذلك ظهرت فكرة القضاء الدستوري، أي الجهاز القضائي الذي نص عليه الدستور داخل التنظيم القضائي لكل دولة، برقابة دستورية على مختلف النصوص التشريعية، يعني النظر في مدى مطابقة القواعد القانونية للدستور بإعتباره أسمى قانون بالدولة.

تاريخيا، بدأت البذور الأولى لهذه الرقابة الدستورية، سنة 1780 بأمريكا، حيث أصدرت محاكم أمريكية قرارات قضت بموجبها بعدم دستورية قانون خالف عرف دستوري قائم، وإنتقل بعد ذلك مفهوم القضاء الدستوري إلى بعد حداثي، سنة 1803، حين أقرت محكمة أمريكية بضرورة إحترام القانون الدستوري، رغم أن الدستور لا يمنح تلك المحكمة هذه الصلاحية، وهو ما تم إعتباره أيضاً إجتهادا، إنتقل الى دول أخرى خارج أمريكا، حيث أصبح مفهوم القضاء الدستوري مرتبط بوظيفة قضائية تصدر من هيئة لها صفة محكمة، تعتبر من أهم محاكم الجهاز القضائي للدولة، وتختلف التسميات، من محكمة دستورية إلى مجلس دستوري، حيث لها إختصاص رئيسي وهو الرقابة القضائية على دستورية النصوص القانونية، حيث لا يمكن أن يخالف أن نص تشريعي مهما كان مصدره، مضامين الدستور.

بالمغرب، كما نعلم أن فكرة الدستور جاءت قبل عهد الحماية، بحيث نذكر أن من أول المذكرات الدستورية كانت سنة 1901 وهي مذكرة عبد الله بنسعيد، ثم علي زنيبر سنة 1906 و عبد الله مراد خلال نفس السنة، وهؤلاء تم وصفهم بدعاة الإصلاح، حيث يمكن إعتبار أن فكرة الدستور تعود إلى قرن من الزمن، بيد أن المغرب عاش إلى حدود اليوم أكثر من نصف قرن من الحياة الدستورية، ورغم أن فكرة الدستور كانت إبان مرحلة حكم السلطانين عبد العزيز و عبد الحكيم، فإن فكرة القضاء الدستوري بدأت سنة 1962، أي الدستور الأول للمملكة المغربية، أو ما يمكن تسميته بالملكية المغربية الأولى، حيث نص الفصل 100 من الدستور، على تأسيس غرفة دستورية بالمجلس الأعلى، يعني أن القضاء الدستوري لم يكن يتوفر على محكمة أو مجلس، بل غرفة داخل المجلس الأعلى، وكان يرأس هذه الغرفة الرئيس الأول للمجلس الأعلى، ومكونة من قاض من الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى وأستاذ بكليات الحقوق يعينان بمرسوم ملكي لمدة ست سنوات، وعضوين يعين أحدهما رئيس مجلس النواب والآخر مجلس المستشارين، وذلك في مستهل مدة النيابة أو إثر كل تجديد جزئي. ورغم عدم توفر القضاء الدستوري على جهاز قضائي متكامل الأركان، إلا أن المشرع الدستوري سنة 1962 ميزه بقانون تنظيمي يحدد قواعد تنظيم الغرفة الدستورية وقواعد سيرها، حيث تمارس الإختصاصات المسندة إليها بمقتضى الدستور، وتبث في صحة إنتخاب أعضاء البرلمان وصحة عمليات الإستفتاء.

بعد الجمود السياسي والمؤسساتي الذي عرفه المغرب بعد حالة الإستثناء في يونيو 1965، والتي دامت خمس سنوات وثلاثين يوما، ثم إقرار دستور 1970، وهو الدستور الثاني بالمغرب، والذي لم يأتي بأي جديد فيما يخص القضاء الدستوري، حيث لم يتم الرفع من مكانته إلى جهاز مستقل عن المجلس الأعلى، وتم تغيير في الهيكلة، حيث أصبح لرئيس مجلس النواب الحق في تعيين عضو واحد عوض إثنين، كما تم خلال دستور 1970 الإستغناء على مجلس المستشارين، والإكتفاء بمجلس واحد داخل المؤسسة البرلمانية، حيث ثم تبني صيغة نظام المجلس الواحد المتمثل في مجلس النواب بأسلوب التمثيل المزدوج جزء منه بالإقتراع المباشر و الإقتراع الغير مباشر في الجزء الآخر، من خلال المراجعات الدستورية لسنوات 1970، 1972، 1992.

خلال المراجعة الدستورية لسنة 1972، التي جاءت في ظل سياقات تاريخية إرتبطت بمحاولة الإنقلاب سنة 1971 مما جعل القصر يفتح قنوات الحوار مع المعارضة من أجل تشكيل حكومة وطنية، وإجراء مراجعات دستورية، فإن المستجد فيما يتعلق بالقضاء الدستوري، وهو أن إختيار رئيس مجلس النواب لعضو داخل الغرفة الدستورية، يكون بعد إستشارة الفرق، أي إعتماد التشاركية في سلطة التعيين، عوض التعيين المنفرد الذي كان بيد رئيس مجلس النواب وحده، وحتى على مستوى تركيبة الغرفة التي أصبحت تشتمل على ثلاثة أعضاء يعينون بظهير شريف لمدة أربع سنوات، وثلاث أعضاء يعينهم رئيس مجلس النواب، بل تم التنصيص بمقتضى الوثيقة الدستورية إلى وجود مهام ووظائف تتنافى مع العضوية بالغرفة الدستورية وهو ما سيحددها القانون التنظيمي، فضلاً عن دسترة صلاحيات الغرفة المسندة إليها بمقتضى القوانين التنظيمية وما يشير إليه هو القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم الغرفة الدستورية بالمجلس الأعلى.

الحدث سيكون سنة 1992، حيث ساهم السياق الدولي المتمثل في إنتهاء الحرب الباردة و إنهيار المعسكر الشرقي، على الساحة السياسية الوطنية، التي إستغلت من طرف القوى المعارضة ومن أبرزها حزبي الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية و حزب الإستقلال، من خلال ضغط يمارس على السلطة، بغاية بداية مسلسل الإنتقال الديموقراطي بالمغرب، بعد ما يعرف بسنوات الرصاص، ومعارك الكر والفر بين المعارضة والنظام الحاكم، حيث جاء في برنامجي الحزبين سنة 1989 مطالبات بتعديل دستوري، ثم تقديم مذكرات باسم الكتلة الديموقراطية سنة 1992 تتضمن خطوط عريضة لمراجعة دستورية شاملة، وهو ما تمت الإستجابة إليه بإعتماد دستور 1992، حيث إنتقلت هذه المراجعة، إلى القضاء الدستوري، الذي أصبح له مكانة خاصة، تتمثل أولا في تخصيص المشرع الدستوري له باب في الدستور، الباب السادس، إضافة الى إعلاء مكانته على مستوى المأسسة، من خلال تأسيس المجلس الدستوري، على غرار فرنسا، عوض غرفة دستورية بالمجلس الأعلى. إحداث مجلس دستوري، نص عليه الفصل 76 من الدستور، حيث أصبح يتألف من أربعة أعضاء يعينهم الملك لمدة ست سنوات، وأربعة أعضاء يعينهم رئيس مجلس النواب، كما أن سلطة رئيس المجلس الدستوري تعود للملك، ويتم تجديد كل ثلاث سنوات نصف كل فئة من أعضاء المجلس الدستوري. ونص الفصل 78 من الدستور،على وقواعد تنظيمه وسيره الذي تحدد بموجب قانون تنظيمي كما كان في السابق، بيد أنه تم توسيع صلاحيات المجلس من خلال منطوق الفصل 79 من الدستور، والذي نص على مبدأ الرقابة الدستورية القبلية الوجوبية، وهو مبدأ أساسي في القضاء الدستوري، كما دستر المشرع الدستوري خلال مراجعة 1992، طرق إحالة القوانين ومدة النظر ومعالجة الإحالات، وإلزامية قرارات المجلس الدستوري بالنسبة لكل السلطات العمومية وجميع الجهات الإدارية والقضائية، مما يعطي للقضاء الدستوري الممارس من طرف المجلس الدستوري مكانة خاصة ضمن التنظيم القضائي للمملكة.

مع دستور 1996، والذي شهد عودة مجلس المستشارين الى الحياة المؤسساتية للمغرب، فكان من الضروري، أن ينص الدستور، على تعيين ثلاثة من أعضاء المجلس الدستوري من طرف رئيس مجلس المستشارين بعد إستشارة الفرق داخل المجلس، كما نص المشرع الدستوري على ضرورة إحالة النظام الداخلي لمجلس المستشارين للرقابة الدستورية القبلية، قبل الشروع في تنفيذه، كما جاء في دستور 1992 بالنسبة لمجلس النواب، على غرار القوانين التنظيمية التي كانت محددة بمقتضى دستور 1996 في 9 قوانين تنظيمية إنتقلت إلى 22 قانون تنظيمي بموجب الوثيقة الدستورية الحالية.

تأسيس الملكية المغربية الثانية، سنة 2011، مع إقرار دستور جديد، ينتمى إلى جيل الدساتير الجديدة، التي ترمي إلى الدسترة والتفصيل بدل الإجمال، حيث إذا نظرنا في جميع الدساتير الخمس السابقة، فلن نجد أي متغيرات حقيقية، بخلاف الدستور الحالي، الذي إنتقل معدل فصوله من 108فصل إلى 180 فصل وهو راجعل إلى الإستماع وأخد بكل ما تم طرحه خلال المشاورات (أكثر من 200 مذكرة) والعمل على الدسترة، جعل من القضاء الدستوري يرتقى إلى مكانة مميزة، تمثلت في تأسيس المحكمة الدستورية، التي عوضت المجلس الدستوري، ويمكن إعتبار هذه الخطوة، ضمن مستويات التجديد الدستوري سواء فيما يتعلق بنظام الحكم، السلطة التنفيذية التي أعطت لرئيس الحكومة بمقتضى الفصل 47 من الدستور شرعية شعبية منبثقة عن نتائج إنتخابات مجلس النواب، كما أعطت له سلطات واسعة خصوصا رئاسة السلطة التنفيذية عوض السلطة التنظيمية كما كان معمول به في الدساتير السابقة.

الإرتقاء بالمجلس الدستوري إلى محكمة دستورية، والإنتقال من التعيين إلى المزاوجة بين التعيين والإنتخاب بما يضمن تمثيل المعارضة البرلمانية، والتي تمت دسترة حقوقها بموجب الفصل 10 من الدستور، فهذا يعتبر من مستجدات القضاء الدستوري، حيث تم سحب سلطة التعيين من رئيسي غرفتي البرلمان، وتحويلها إلى الإنتخاب بأغلبية ثلثي أعضاء البرلمان، سواء بالنبسة لمجلس النواب أو مجلس المستشارين. حيث نص الفصل 130 من الدستور، على أن تتألف المحكمة الدستورية من إثني عشر عضواً، يعينون لمدة تسع سنوات غير قابلة للتجديد، ستة أعضاء يعينهم الملك، من بينهم عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، وستة أعضاء ينتخب نصفهم من قبل مجلس النواب، والنصف الآخر من قبل مجلس المستشارين، من بين المرشحين الذين يقدمهم مكتب كل مجلس، وذلك بعد التصويت بالإقتراع السري وبأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم كل مجلس. كما نص المشرع الدستوري فيما يخص الرقابة الوجوبية القبلية، والتي تمارس على النصوص التنظيمية المحددة بالدستور، والأنظمة الداخلية لمجلسي البرلمان، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والمجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي، حيث لا يمكن أن يشرع في تنفيذ هذه النصوص إلا بعد مرورها أمام المحكمة الدستورية. وحدد الدستور طرق الإحالة سواء بالنسبة للرقابة الدستورية القبلية الوجوبية أو الإختيارية، حيث ينص في فصله 132، على أنه يمكن للملك ولرئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو خمس أعضاء مجلس النواب، أو ربع أعضاء مجلس المستشارين، القوانين قبل إصدار الأمر بتنفيذها، لتبث المحكمة في مدى مطابقتها للدستور وذلك في آجل شهر من تاريخ الإحالة، غير أن هذا الآجال يمكن أن يخفض إلى ثمان أيام بطلب من الحكومة.

بالنسبة للرقابة الوجوبية القبلية الإختيارية، حيث يمكن إحالة القوانين العادية على الرقابة الدستورية، التي تبقى إختيارية، وهذا كان قائما في الدساتير السابقة، لكن المستجد هو توسيع مجال الرقابة الإختياري ليشمل المعاهدات الدولية التي يصادق عليها البرلمان، فضلاً عن تقييد مظهر من مظاهر العقلنة البرلمانية، بتخفيض النصاب القانوني المطلوب للإحالة من الربع إلى الخمس بالنسبة لأعضاء مجلس النواب، وإلى 40 عضواً بالنسبة لأعضاء مجلس المستشارين، وهو ما يتيح للمعارضة أن تحيل على القضاء الدستوري قوانين عادية أو معاهدات دولية للنظر في مدى مطابقتها للمقتضيات الدستورية. ومن مظاهر المستجدات أيضاً، هو تقييد آجل النظر في الطعون المتعلقة بإنتخاب أعضاء البرلمان داخل أجل سنة، إبتداءاً من تاريخ إنقضاء أجل تقديم الطعون إليها، غير أنه للمحكمة الحق في تجاوز هذه المدة، بموجب قرار معلل، حيث يمكن أن تكون بعض الملفات، تتضمن قضايا معروضة على محاكم عادية، من قبيل المحاكم الإبتدائية أو محاكم الإستئناف أو المحاكم الإدارية، وحينها، لا يمكن للقضاء الدستوري إلا أن ينتظر قرارات المحاكم، حتى يتخد قراره بشأن الطعن المقدم إليه، ورغم هذا، فإن آجال سنة يعتبر مستجداً مهما، حيث في السابق، لم يكن أي أجال محددة لإصدار قرارات تهم صحة إنتخاب ممثلي الأمة، وهو ما يجعل في بعض الحالات، صدور القرار ستة أشهر قبل نهاية الولاية البرلمانية.

المستجد الأكبر فيما يخص القضاء الدستوري، هو دسترة الرقابة الدستورية البعدية، سواء من خلال أحكام الفصل 133 من الدستور، أو قانون تنظيمي حدده الدستور، حيث أنه تم التنصيص على إختصاص المحكمة الدستورية بالنظرفي كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق والحريات التي ينص عليها الدستور، فإنه من واجب المحكمة الدستورية أن تنظر في الدفع، والذي يمكن أن يكون مقدما من طرف مواطنات ومواطنين عاديين، أو مؤسسات، لكن هناك مسطرة خاصة، حيث تنظر محكمة النقض في جدية الدفع بعدم الدستورية، وهو ما حدده القانون التنظيمي، حتى لا يتم تأخير حكم محكمة عادية في القضية، كما أنه مظهر من مظاهر عقلنة هذا المبدأ الدستوري والذي كان معمول به في أعرق الديموقراطيات العالمية، بحيث يمكن للبرلمان الذي له اليوم بمقتضى الدستور، الحق الحصري تقريبا في التشريع ورفع مجالات تشريع داخل البرلمان من 9 مجالات إلى 30 مجالاً، حيث يمكن أن يصدر عن البرلمان قانون غير ملزوم بالرقابة الوجوبية، وهو فيه عيب دستوري، فيمكن أن يتم الدفع بعدم دستوريته، أثناء النظر في قضية أمام المحاكم العادية.

إذن يمكن إعتبار، أن القضاء الدستوري، يعيش من خلال دستور 29 يوليوز 2011، ثورة حقيقة، بالنظر أولا لإعلاء مكانته، وتأليف المحكمة الدستورية، والإختصاصات الجديدة، وتحديدها سواء فيما يتعلق بالرقابة الدستورية القبلية والبعدية، مدى صحة إنتخاب ممثلي الأمة ونتائج الإستفتاء، حيث لم تتغير مكانة القضاء الدستوري طيلة نصف قرن من الحياة الدستورية بالمغرب، ورغم ذلك فإن إصلاح القضاء الدستوري لا يزال ينتظر عدد من الأوراش والمشاريع، حتى نصل إلى تنزيل أمثل للقوانين التنظيمية والعادية، تحترم فعلاً روح وجوهر الدستور بإعتباره أسمى قانون في الدولة، والقانون يعبر عن سيادة الأمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *