وجهة نظر

أزمة التعليم ومساعي الانفراج

تحول النظام الأساسي لموظفي التربية الوطنية إلى ما يشبه حال “السارق” أو “الشفار” الذي  قيل فيــه “راه راه .. والغوت وراه”، اعتبارا لما أثاره من  رفض ولغط وجدل واحتقان في أوساط نساء ورجال التعليم، وآباء وأمهات وأولياء التلاميذ على حد سواء، واستحضارا لما أثاره من زوبعة إعلامية ومجتمعية واسعة النطاق، أو ربما كحال البقرة التي  بمجرد ما تسقط أرضا، سرعان ما تشهر في وجهها السكاكين، سيرا على منوال المثل الشعبي القائل “ملين تاطيح البقرة، تايكثرو جناوة”، ومهما أسهبنا في التوصيف، فلن نجد أكثر  من “صور الشلل” الذي  شمل مختلف المؤسسات التعليمية العمومية لأسابيع، ومن “مشاهد الاحتجاجات” التي عمت عددا من المدن عبر التراب الوطني، تنديدا بنظام أساسي  خرج مشوها، تبرأ منه الجميــع، إلا الجهة التي فصلته على المقاس، بطريقة  محبوكة، وصفها الكثير بالجهنمية والإجرامية؛

الثابت اليوم، أن ثلج الاحتقان آخذ في التوسع والامتداد في ظل صمت صانعي القرار السياسي والتربوي، وشلل  المدرسة العمومية، سيبقى حقيقة مقلقة معلقة إلى أجل غير مسمى،  وهذا الوضع المقلق،  يرى فيه البعض، إرادة تروم الإجهاز على المدرسة العمومية والمساس بوضعيتها الاعتبارية في المجتمع،  ويعتبرها البعض الآخر، طريقة ممنهجة لضرب المدرس ومحاصرته في الزاوية الضيقة،  بمهام كثيـرة  لا يقبل بها عقل  ولا منطق، وعقوبات ثقيلة وصلت في مجموعها إلى 16 عقوبـــة، حضرت فيها مصطلحات “الترهيب” و”التركيع” و”التجريم” و”الزجر”، تعطي الانطباع الأولي أنها  موجهة إلى  شخص  “مجرم” خارج عن سلطة القانون، وليس إلى “رجل تربية وتعليم”، يفترض أن  يتم التعامل معه بما يليق بـه  من “تحفيز” و”تكريم” و”احترام” و”تقدير” و”اعتبار”، بوصفه مفتاح  البناء والنماء والازهار،  وباني القيم الوطنية والدينية وراعيها، ولا تتوقف نكسة المدرس عند حدود “المهام الكثيرة” أو “العقوبات الثقيلة”، بل  تحضر طقوسها في  “التعويضات” التي خرج  من بابها،  شأنه في ذلك شأن فئات أخـرى، بخفي حنين،  و”الأجور  المخجلة” التي لازالت تكرس مهنة تدريس بئيسة، مقارنة مع  مهن ووظائف أخـــرى،  و”نسق الترقي” المكرس  للإحساس  الفردي والجماعي باليأس وانسداد الأفق،  و”التكوين المستمر” المطبوع بالإلزام، فضلا عـن “أداء التقييم المهني السنوي” الذي عكس مرة أخرى، نظرة للمدرس مبنية على مصطلحات “المراقبة” و”الزجر” و”التخويف” و”الإدانة”و”الاتهام”، عوض مفاهيم “التعاون” و”التشارك” و”التقاسم” و”التحفيز” و”التطوير” و”الارتقاء المهني”، باعتباره  هو محرك الإصلاح وصمام أمانه؛

التحرك السلحفاتي المتأخر للحكومة، لتذويب جليد الغضب والاحتقان، والصمت المهول للأحزاب السياسية ولممثلي الأمة بالبرلمان، وغياب المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، مما يجري من  احتجاجات غير مسبوقة في المدرسة العمومية، معناه أن “المدرسة العمومية” ليست بأولوية وطنية بالنسبة للحكومة على الأقل، وهذا يتناقض تماما مع  العناية التي ما فتئ جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، يوليها لقطاع التعليم ولنسائه ورجاله، بعدما جعل منه، القضية الوطنية الأولى بعد قضية الوحدة الترابية للمملكة، ويعاكس  ما يقوده جلالته  منذ جلوسه على العرش، من  مسيرة تنموية رائدة، يعد التعليم الناجع والفعال، إحدى مرتكزاتها الأساسية، ويخالف أهداف ومقاصد “النموذج التنموي” الذي لا يستوي عوده إلا بوجود منظومة تعليمية عصرية بانية للقيم وصانعة  للأمل  ومحركة لثقافة  الخلق  والإبداع والابتكار والجمال، بـل  ولا يساير حتى  البرنامج الحكومي في شقه التعليمي،  ولا  يعبر عما قدمه رئيس الحكومة  لأسرة التعليم، خلال حملته الانتخابية، من وعود والتزامات على رأسها الرفــــع من الأجور؛

بين  الشغيلة التعليمية المحتجة، وآباء وأمهات وأولياء الأمـور،  الذين  خرجوا إلى الشوارع،  دفاعا عن حقوق  أبنائهم في التعلم، يحاول رئــيس الحكومة تدارك ما يمكن تداراكه، على خلفية لقاء أجراه مع النقابات التعليمية  الأربع (30 أكتوبر 2023)، فتح من خلاله باب الأمل في  “تجويد” النظام الأساسي المثير للجدل،  تلاه اجتماع ثان مماثل (03 نونبر 2023)، ترأسـه يونس السكوري، وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والشغل والكفاءات،  مع ذات النقابات، خصص للاستماع  إلى  ملاحظاتها ومطالبها، لرفع  تقرير  في الموضوع  إلى رئيس الحكومة، الذي يرتقب أن يلتقي مجددا بالنقابات في  موعد قريب لم يحدد تاريخه بعد؛

وفي ظل هذه التحركات الإيجابية، التي لايمكن إلا تثمينها، لجأت الوزارة الوصية على القطاع، إلى “تفعيل مسطرة الاقتطاع من الأجرة بسب التغيب بصفة غير مشروعة”، وهذا الإجراء أتى معيبا حسب تقديرنا، لأنه غير منسجم مع الدستور، في ظل غياب قانون تنظيمي يحدد قواعد وضوابط حق الإضراب المكفول قانونا، وغير متبصر، لأنه لم يراع  خصوصيات المرحلة التي تقتضي الحكمة والتعقل وضبط النفس، ولم يقدر الآثار الجانبية، على مساعي الوصول إلى الحلول الممكنة القادرة على إطفاء فتيل الاحتقان، إنقاذا للموسم الدراسي؛

الحكومة مطالبة أكثر من أي وقت مضى،  بإيجاد الحل أو الحلول الممكنة، وليس  بإشهار سيف الاقتطاع،  الذي لن يزيد طين الاحتجاجات إلا بلة،  ولن يزيد المحتجين إلا سخطا وإصرارا على إسقاط المرسوم المشؤوم، ولابد لها أن تدرك أولا، أن طريق الحل يبدأ بمراجعة شاملة للنظام الأساسي الجدلي، لما شابه من  مقتضيات، حملت معها “الحكرة” للشغيلة التعليمية، وعلى رأسها أطر التدريس وفئات أخرى، وتدرك ثانيا، أن  مطالب المحتجين واضحة  ولا تحتاج  البتة، إلى جولات  أخرى من الحوار والتفاوض، لأن التأخير أو التأخر، معناه المزيد من الاحتقان والمزيد من هدر الزمن المدرسي وما يرتبط به  من محطات، والمزيد من سخط ويأس وغضب آباء وأمهات وأولياء أمور ملايين من التلاميذ، الذين باتوا اليوم “خارج زمن التعلم”، بكل ما قد يترتب عن ذلك، من آثار تربوية وتعليمية وسلوكية وأسرية  وأمنية وغيرها؛

الكرة الآن في مرمى رئيس الحكومة عزيز أخنوش، الذي لابد أن يصغي  إلى نبض الشارع التعليمي  ويلتقط إشارات ما رفع ويرفع من  مطالب وشعارات، ويتفهم حجم الضرر المادي والنفسي والاعتباري الذي طال  الشغيلة التعليمية، ومنها أطر التدريس، بسبب نظام أساسي، ما كان له أن يحرك كل هذا الغضب والرفض، لو لم  يكـــن “معيبا” بكل المقاييس، ويقدر من باب الموضوعية والمسؤولية، ما وصلت  إليه مهنة التدريس من  مكانة اعتبارية “مأسوف عليها”، مقارنة مع عدد من المهن والوظائــف، ويستوعب أن النهوض بمنظومة التربية والتكوين، لن يستقيم عوده، إلا بإعادة الاعتبار لنساء ورجال التعليم بكل فئاتهم؛

ونؤكد في هذا الإطار، أن المرسوم الذي أحدث كل هذا الاحتقان، وإن بقي على الورق، فقد تم إسقاطه على مستوى الواقع  من قبل الشغيلة التعليمية “المخاطبة به”، ولم يعد ممكنا،  الإبقاء عليه كما هو، دون  استعجال عملية  إخضاعه لمراجعة شاملة كما وعد بذلك رئيس الحكومة نفسه، في  لقاء سابق له مع النقابات التعليمية، ولا مقبولا البتة، المغامرة بالسلم الاجتماعي وتهديد النظام العام، والاستمرار في استنزاف زمن التعلم، من أجل سواد عيون “مرسوم ” لن يكلف “سحبه” أو “إلغاؤه” أو على الأقل “تجويده”،  إلا إرادة سياسية  أو “المعقول” الذي شكل الشعار المركزي للحملة الانتخابية للحزب الذي يقود حكومة التحالف الثلاثي، ومرة أخرى نأمل، أن تتحلى الحكومة بالجدية اللازمة، تجسيدا لما ورد في خطاب العرش الأخير، وتنخرط بشكل بناء وواضح ومسؤول، في مساعي إيجاد “الحلول الممكنة” لما تمر منه المدرسة العمومية من مأزق يمكن وصفه بالخطير، في معركة نضالية مشتعلة على كافة الجبهات، لا يمكن البتة، التعامل معها بسياسة “لي الذراع” أو “الاستقواء” أو “التحدي” أو “المناورة” أو “الهروب إلى الأمام”، لأن الخاسر الأول والأخير، هو “الوطن” الذي لن  يسمو ولن يرتقي إلا بالتعليم ومع التعليم؛

وللحكومة “الاجتماعية” وكل حكماء الوطن، نقول أن مقتضيات كثيرة في النظام الأساسي لا يكلف تغييرها، سوى “الإرادة السياسية والتربوية”، من قبيل “نظام العقوبات” و”المهام” و”تقييم الأداء المهني” و”التقليص من ساعات العمل” و”العطلة السنوية”، ومقتضيات أخرى لابد أن  يحضر فيها “البعد التحفيزي” الذي لا يمكن أن يتحقق، إلا بإعادة النظر في  “الأجور الهزيلة” و”نظام التعويضات” و”منظومة الترقي”، مع التخلي عن مصطلحات التضييق والزجر والاتهام والعتاب، لأن رجل التربية والتعليم ليس بمجرم أو “مشتبه فيه”؛

ونختم بالقول، قد ننجح في كسب رهان تنظيم كأس العالم أو الألعاب الأولمبيـة، أو نبني مركبات رياضية بمواصفات عالمية، أو نبني صروحا معمارية ضخمة، لكن، لن نستطيع قطعا، بناء الإنسـان الذي  يحترم الوطن، ويرفع قواعده، بمحبة وطهر ومسؤولية ونزاهة واستقامة وتضحية ونكران للذات، فلا تربطوا  العناية بالمدرس، بهواجس الربح والخسارة، لأن فاتورة الجهل، أقسى على البلاد والعباد…، واستثمروا رجاء في البشر، لأنه هو من يفكر ويبدع ويبني ويحمي الوطن، وليس الحجر …، ولا تساوموا المدرسين بدراهم معدودات، لأنهم يبحثون عن “الكرامة الضائعة” …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *