منتدى العمق

تأملات في قصيدة النثر

قَصيدةُ النثرِ لَيْسَتْ فَوضى لُغويةً بلا وزن ولا قافية ، وإنَّما هي تَكثيفٌ وُجودي للمَعنى الشِّعْرِي على الصعيدَيْن النَّفْسِي والاجتماعي، وتَجميعٌ لِشَظايا مُوسيقى اللغةِ في صُوَرٍ فَنِّية عابرةٍ للتَّجنيس، وكاسرةٍ للقوالبِ الجاهزةِ والأنماطِ المُعَدَّة مُسْبَقًا ، وتَوليدٌ للإيقاعِ الإبداعي في داخلِ الألفاظِ الوَهَّاجَةِ والتعابيرِ المُدْهِشَةِ . وهذه المَنظومةُ المُعَقَّدَةُ لُغَوِيًّا ، والمُرَكَّبَةُ شِعْرِيًّا ، تَهْدِف إلى اكتشافِ العناصر الفكرية المَقموعة في العلاقات الاجتماعية ، واستخراجِ القِيَمِ المَعرفية المَنْسِيَّة في التجارب الحياتية ، وابتكارِ أنظمة شِعْرية مُتَحَرِّرَة مِنَ قُيود المَواضيع المُسْتَهْلَكَةِ ، والخَصائصِ اللغوية الشَّكلية المُبْتَذَلَة التي فَقَدَتْ تأثيرها بسبب كَثرة استعمالها .

وقَصيدةُ النثرِ انعكاسٌ لِرُؤيةِ الشاعرِ للوُجودِ شَكْلًا ومَضمونًا ، وإعادةُ صِياغةٍ للقوانين الحاكمة على مصادر الإلهام الشِّعْري ، بِحَيْث تُصبح مُوسيقى اللغةِ نُقْطَةَ التوازنِ بَيْنَ وُضُوحِ الألفاظِ المُتدفقةِ أفقيًّا وعموديًّا ، وبَيْنَ غُموضِ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُتَفَجِّرَة وَعْيًا وإدراكًا ، وتُصبح العلاقةُ بَيْنَ الألفاظِ والمَعَاني تَجديدًا مُستمرًّا للعلاقةِ بَيْنَ الشاعرِ ونَفْسِه مِن جِهة ، وبَيْن الشاعرِ ونَصِّهِ مِن جِهةٍ أُخْرَى ، باعتبار أنَّ الشاعرَ هُوَ الرُّوحُ الساكنةُ في جَسَدِ اللغةِ ، والتَّجسيدُ الحقيقي لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع .

وإذا كانَ الإبداعُ الشِّعْرِي سُلطةً مركزية قائمة بذاتها ، فَإنَّ قصيدةَ النثر هُوِيَّةٌ رمزية مُستقلة بِنَفْسِهَا ، واندماجُ السُّلطةِ معَ الهُوِيَّةِ في النَّسَقِ الشِّعْرِي الذي يَتَوَالَد مِن نَفْسِه يَجْعَل زَمَنَ المَشاعرِ والأحاسيسِ كائنًا حَيًّا قادرًا على استلهامِ التُّراثِ وتجاوزِه ، ويَجْعَل رُوحَ اللغةِ كِيَانًا حُرًّا قادرًا على صَهْرِ المَاضِي والحاضرِ في بَوْتَقَةِ المُسْتَقْبَلِ . وهذا يَعْنِي انفتاحَ الزَّمَنِ في العلاقاتِ اللغويةِ بشكل مُطْلَق ، مِمَّا يُولِّد وَعْيًا شِعْرِيًّا خَاصًّا بِتَحليلِ عَناصرِ الواقعِ ، وتَغييرِ زَوَايا الرُّؤيةِ لتفاصيل الحياة .

وكُلَّمَا وَسَّعَت اللغةُ حُدودَ الزمنِ دَاخِلَ الهُوِيَّةِ الرَّمزيةِ والتُّراثِ المَعرفيِّ والذاتِ الإنسانية، اتَّسَعَ الوَعْيُ الشِّعْري للتجاربِ الحياتية إنسانيًّا وإبداعيًّا ، وهذا الاتِّسَاعُ سَيُصبح معَ مُرور الوقت تاريخًا جديدًا لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع ، ومُتَجَدِّدًا في مُوسيقى اللغةِ ، ومُسْتَقِرًّا في مَصادرِ الإلهامِ الشِّعْرِيِّ ، ومُكْتَفِيًا بِذاته مَعْنًى ومَبْنًى . وإذا كانَ التاريخُ لا يَنفصل عَن الوَعْي ، فَإنَّ اللغة لا تَنفصل عَن الحُلْمِ. وهذا الترابطُ بَين هذه التراكيب الوُجودية سَيُكَوِّن فَضَاءاتٍ جديدة لقصيدة النثر .

إنَّ الوَعْي الذي تُولِّده قصيدةُ النثرِ يُمثِّل مَنظومةً مِن الأسئلة الوجودية التي يَتِمُّ طَرْحُها على إفرازاتِ الماضي والحاضرِ معًا ، مِن أجْلِ حماية المَعنى الشِّعْري مِنَ القَطيعةِ بَيْنَ الروابطِ النَّفْسِيَّةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية، وهذا مِن شأنه تَكريسُ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدْهِشَةِ في الماضي الذي لا يَمْضِي، والحاضرِ الواقعِ تحت ضغط النظام الاستهلاكي،مِمَّا يُؤَدِّي إلى دَمْجِ ثَورةِ الشِّعْرِ في كَينونةِ الزَّمَنِ، وتَحويلِ البُنى الاجتماعية المادية إلى هياكل شِعْرِيَّة مَعنوية ، تَمتلك القُدرةَ على التواصل معَ الأجناس الأدبية كُلِّهَا، باعتبار أن الأدبَ والزمنَ نظامان مَفتوحان عَلى كَافَّةِ الأشكالِ والاحتمالاتِ.

وقَصيدةُ النثر لَيْسَتْ تاريخًا قائمًا بذاته فَحَسْب ، بَلْ هِيَ أيضًا جُغرافيا رمزية تُوظِّف الخِطَابَ التاريخي في فَلسفةِ اللغةِ التي تَؤُول إلى فَن تَعبيري عَن القِيمةِ الإنسانيةِ للحياةِ ، والبُنيةِ الشِّعْرِيَّةِ الكامنةِ في عَناصرِ الوُجودِ وأنسجةِ المُجتمعِ . والترابطُ الوثيقُ بَيْنَ فَلسفةِ اللغةِ والفَنِّ التَّعبيريِّ يُؤَدِّي إلى صِناعةِ أساليب لُغَوية جديدة تُعيد بِنَاءَ الوظيفةِ الشِّعْريةِ على كَينونةِ الزَّمَنِ ، وتُعيد صِياغةَ العَلاقاتِ الاجتماعية إنسانيًّا ورمزيًّا . وهذه الإعادةُ المُزْدَوَجَةُ تُسَاهِم في إدخالِ مَصادرِ المَعرفةِ في التجاربِ الحياتية ، وإخراجِ التياراتِ الشِّعْريةِ مِن إطارِ تَقديسِ الماضي والجُمودِ على التُّراث ، مِمَّا يَقُود إلى إعادةِ تعريفِ وَظيفةِ قَصيدةِ النثر باعتبارها انقلابًا لُغَوِيًّا على القوالبِ الجاهزةِ والأشكالِ المُسْتَهْلَكَةِ . وكُلُّ عمليةِ إعادة تَعريف على المُسْتَوَيَيْن الشِّعْري واللغوي هِيَ بالضَّرورةِ تَجديدٌ في تِقْنِيَّات الكِتابةِ ، وتَوسيعٌ لِحُدودِ الأجناسِ الأدبية ، حَتَّى تَشْمَل الأفكارَ المَقموعةَ ، والأحلامَ المَكبوتةَ ، والأزمنةَ المَنْسِيَّة ، والأشياءَ المَسكوت عنها .

إنَّ الإلهامَ الشِّعْري داخلَ قَصيدةِ النثرِ لَيْسَ انتظارًا لِمَا لا يَأتي ، بَلْ هُوَ صِناعةٌ دائمةٌ للألفاظِ والمَعَاني،وإشراقٌ مُستمر في التجارب الحياتية كَمًّا وكَيْفًا، وتَوْليدٌ مُتَوَاصِل للصُّوَرِ الفَنِّية المُدْهِشَة. والشاعرُ الحقيقيُّ لا يَنتظر مَجِيءَ الأنساقِ اللغويةِ ، وإنَّما يَندفع باتِّجَاهها ، ويَقتحمها ، ويَندمج مَعَهَا ، ويَنقلب عليها ، مِن أجْلِ تَجميعِ شَظايا الانفجارِ الشِّعْري في العَواطفِ الإنسانية المُتأجِّجة، والحِفاظِ على دِيناميَّة قَصيدة النثر في ظِلِّ ضَغْطِ الهُوِيَّةِ على الذات، وضَغْطِ التُّراثِ على الحاضر. وهذا الأمرُ شديدُ الأهمية ، لأنَّه يَمْنَح التكثيفَ الوُجودي للمَعنى الشِّعْري شرعيةً أخلاقيةً ، وسُلطةً اجتماعيةً ، وقُدرةً على اقتحامِ أعماقِ الشاعرِ في رِحلةِ البَحْثِ عَن الحُلْمِ بَيْنَ الأنقاضِ .

وإذا كانَ الشاعرُ مُهَاجِرًا أبديًّا إلى أعماقِه وذِكْرَياته ، فَإنَّ قصيدة النثر مُسافرة أبدية إلى رُوحِ اللغةِ وفلسفتها.وهذه الحَركةُ الشِّعْرية الدؤوبة النابضة بالحَيَاةِ والحُرِّية تَمْنَع كَينونةَ الزَّمَنِ مِنَ التَّحَوُّلِ إلى أُسطوانة مَشروخة ، وبالتالي يُصبح الزَّمَنُ تَيَّارًا للوَعْي ، وفَضَاءً إبداعيًّا ، ولَيْسَ سِجْنًا للإبداع .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • [email protected]/المصطفى تشاح
    منذ 9 أشهر

    نسعى للدفاع عن مولوشعري جديد،لاينبي على القاعدة النقدية القديمة(الشعر كلام موزون ،ومقفى )ولا مناص من القول إن التجربة الشعرية ،في تطور،وتحرير القريحة الشعرية،يقتضي الخروج على نمط القصيدة التقليدية،والعمودبة في آن ،(الشعر الحر )والتجربة الحديثة قائمة على المقولة النقديةالحديثة(الشعر الحديث، ظاهرة، صوتية)ومعنى ذلك أن التجربة الشعرية الحديثة،هي أقرب من القصيدة الغنائية. مجردة من الاوزان،مستغلة لتقنيات التعابير الحرة، المولدة للدلالات،والإيقاعات الموسيقية،المنبعثةمن طبيعة نظم الالفاظ،داخل سياق الجملة الشعرية،توليد الدلالات والمعاني مرتبط بالسباق اللغوي ونظم الألفاظ .ذلك أن بناء الجملة الشعرية مرتبط،بنظم مبتكر للالفاظ يفضي إلى توليد المعاني والدلالات،والأجراس الموسيقية المطلوبةللذوق الشعري.بشكل ذاتي حر يستتبع تدفق القول الشعري ويحرره،من الأنماط الجاهزة والقوالب المحنطة، التي تكبل القريحة الشعرية،والتجربة الابداعية،الانطباعية المسترسلة. .الشعر كغيره من الصناعات، يعرف تحولا،وتطورا.والقصيدة الحديثة،هي أغنية، أو ضرب من التعبير.مولدلايقاعات لغوية ذاتية،ومعاني مستحدثة،قابلة لطرق جميع المواضيع،في تعابير انسيابية حرة،مولدة،لرصيد من المعاني والدلالات الكثيفة المعنى المشبعة بالخيال، المراقصة للحس بجرس لغوي،وبيان اخاذدوتعبيريدالمتحرر من الاوزان إلا من القوافي وأنماط الصيغ البلاغة دارس موسيدي جذاب وساحر،يالفه الذوق الحديث، وبستهواه،كما الأنعام الموسيقية.ونظرية النظم،قائمة على قدرات تعبيرية مستحدثة لامتناهية،متماهية مع الخيال،وتقنيأت التعبير اللغوي الحر،المسترسل،والمتناسل،ذلك أن التعبير ،أو فن القول،صناعة بيانية كما يقول ابن خلدون.والصناعة مشروط تطورها،وتجريبها،لمعمار لغةي جذاب،ساحر ومتناسق.وفي ذلك منتهى الحلاوة والطلاوة،وحقق الصناعة،وحسن التراكيب. ومن رام ذلك،فهو مبدع مفلق بتعبير السرجاني.

  • [email protected]/المصطفى تشاح
    منذ 9 أشهر

    نسعى للدفاع عن مولودعسعري جديد،لاينبغي على القاعدة النقدية القديمة(الشعر كلام موزون ،ومقفى )لا مناص من القول إن التجربة الشعرية ،في تطور،وتحرير القريبة السعرية،يقتضيالخروج على نمط القصيدة التقليدية،والعمودبة،(الشعر الحر )والتجربة الحديثة قائمة على المقولة النقديةالحظيثة(الشعر الحديث، ظاهرة، صوتية)ومعنى ذلك أن التجربة الشعؤيو الحديثة،هي أقرب من القصيدة الغنائية. مجردة من الاوزان،مستغلة لتقنيات التعبير الحديثة المولدة للظلالات،والإيرادات الموسيقية،المولدة من طبيعة نظم الالفاظ،داخل سياق الجملة السعرية،توليد الدلالات والمعاني مرتبط بالسباق اللغةي ونظم الألفاظ .ذلك أن سياق التعبير،ونظم الكلام يفضي إلى توليد المعاني والدتالات،والجرأة الموسيقية المطلوبةللذؤق الشعري.بشكل ذاتي حر ييتتبع تدفق القول الشعري ويحرره،من الأنماط الجاهزة والقوارب المحيطة التي تكبل القريبة ااسعرية،والتوعوية الابداعية،الانطباعية المسترسلة. .الشعر كغيره من الصناعات، يعرف تحولادوتطورا.والقصيرة الحديثة،هي أغنية، أو ضرب من التعبير.مولدوفا الايقاعات لغوية ذاتية،ومعاني مستحدثة،قابلة لطرق جميع المواصيع،في تعبير انسيابية حر،مولدلرصيد من المعاني والدتالات الكثيفة المعنىالمراقصة للحس والجرس اللغةي،والبيان التعبيريدالمتحرر من الاوزان إلا من القوافي وأنماط الصيغ البلاغة دارس موسيدي جذاب وساحر،يالفه الذوق الحديث، وبستهواه،كما الأنعام الموسيقية.ونظرية النظم،قائمة على قدرات تعبيرية مستحدثة لامتناهية،متماهية مع الخيال،وتقنيأت التعبير اللغوي الحر،المسترسل،والمتناسل،ذلك أن التعبير ،أو فن القول،صناعة بيانية كما يقول ابن خلدون.والصناعة مشروط تطورها،وتجريبها،لمعمار لغةي جذاب،ساحر ومتناسق.وفي ذلك منتهى الحلاوة والطلاوة،وحقق الصناعة،وحسن التراكيب. ومن رام ذلك،فهو مبدع مفلق بتعبير السرجاني.