منوعات

بويخف يكتب..حول الموقف مما يجري في تركيا

يعيش كثيرون ضغطا نفسيا وضجة فكرية بسبب صعوبة استيعاب ما يجري في تركيا من صراع بلغ درجات من الخطورة استثنائية بين “توجهين” إسلاميين. “توجه” يمثله حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية الحاكم و مؤسسات الدولة برئاسة رجب طيب أردوغان، و توجه تجسده جماعة الخدمة التي يقودها الداعية الإسلامي فتح الله كولن.

ويمكن إرجاع الأسباب في ذلك الضغط إلى أربعة أمور. الأمر الأول يتعلق بالمقاربة العاطفية الطاغية في التعاطي مع الشأن السياسي، والتي تصل حد العمى والاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك. و هذه المقاربة لا تسمح بالمطلق بفهم الفعل السياسي في طبيعته الصراعية حول النفوذ والسلطة والمصلحة. الأمر الثاني يتعلق بالمنهج المعتمد في مثل هذه النوازل، حيث يضل كثيرون رهائن اللحظة التي هم فيها، فيعيشون ثقلها وتوتراتها وحرارتها بعاطفة جياشة، لا تسمح لهم بحد أدنى من المسافة الضرورية للفهم السليم وللنظر بموضوعية واستقلالية إلى القضية في صيرورتها التاريخية وتطوراتها التي تفرضها طبيعتها وسيناريوهاتها المستقبلية، والذي من شأنه رفع الطابع الصادم عن الأحداث والتطورات.

والأمر الثالث، يتعلق بطريقة التعامل مع الإعلام، حيث يقع هؤلاء ضحايا لما يروج، فيتم تلقف مضامينه كما لو أنها الحقيقة المطلقة الصالحة لدعم التوجه العاطفي وتعزيز الموقف، والذي يزيد هذا العامل خطورة نشاط من يمكن تسميتهم “خبراء وسائل الإعلام” والذين لا يقومون في الحقيقة بشيء سوى بنوع من تدوير ما تنتجه وسائل الإعلام نفسها، بإعادة إنتاج الأخبار ممزوجة بآرائهم التي تكون قاتلة بنبرتها الوثوقية، فيتعزز هذا التوجه أو ذاك برأي “الخبير” بعيدا عن الحقيقة، و وجود “خبراء تدوير الأخبار” ، يزيد في إغراق ضحايا العوامل السابقة في مستنقع الاصطفاف الأعمى.

والعامل الرابع والأخير، يتعلق بفضاء المواقع الاجتماعية، حيث يتم تفريغ المخزون العاطفي بكل حرية، وممارسة “واجب النصرة” بالخطاب المشحون بعيدا عن منطق المحاججة العقلية، ويلعب هذا الفضاء دور المتنفس، لكنه يصبح حاسما في تكريس ظاهرة الاصطفاف الأعمى، من خلال الانتصار لطرف معين ومن خلال مواجهة الخصوم الإيديولوجيين والسياسيين الذين يحاولون توظيف الأحداث لتحقيق بعض المكاسب السياسوية.

وإذا حاولنا وضع ملف “أردوغان-كولن” في وضعه الطبيعي بعيدا عن الضغط الإعلامي، وبعيدا عن النزوعات العاطفية، نجد أننا أمام حقيقة واقعية وتاريخية يمكن تلخيصها في القول إن الرئيس أردوغان والداعية كولن ليسا مَلَكان كما أنهما ليسا شيطانان، بل إنسانان يمثل كل واحد منهما مشروعا ومصالح، وكان بينهما وفاق واتفاق ثم تطورت العلاقة بينهما إلى خلاف، ثم إلى ما نراه اليوم من مستويات حاسمة في الصراع حين تناقضت مصالحهما.
لكن هل هذا التطور طبيعي؟

كلمة طبيعي هي كلمة السر في التعاطي مع الملف، فحين ننحصر في لحظة الصراع التي يعيشها الطرفان المتصارعان، وننطلق من العاطفة التي تضفي على الإنسان بعدا ملائكيا أو شيطانيا، وتفرغ السياسة من طبيعتها الصراعية حول السلطة وتمثيل المصالح، ستكون النتيجة أن ما آلت إليه العلاقة بين الطرفان أمر غير طبيعي، أي مرفوض وينبغي البحث عن المسؤول الأول والأخير والوقوف ضده وضد من لا يقف ضده. لكن إذا وضعنا الملف في سياقه التاريخي الأوسع، ونظرنا إلى هؤلاء المتصارعين على أنهم أناس لن يكونوا أحسن حالا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اقتتلوا فيما بينهم، ولا خيرا من كبار المسلمين عبر تاريخهم الطويل الذين عاشوا كل أنواع الصراع وأشكاله بينهم، ووضعنا تلك العلاقة التي تجمعهم في إطارها الطبيعي الذي لا يخرج عن كونها علاقة مصالح متبادلة تحكمها موازين القوة واحتمالات الاحتكاك، واحتمالات خروجها عن السيطرة، سوف نعتبر ما حصل أمرا متوقعا، ونجعل المسؤولية عنها نسبية.

إن التاريخ يشهد أن أردوغان يمثل حزبا لعبت جماعة كولن دورا كبيرا في نجاحه، وأعانته في حصد الأصوات الانتخابية، واعتمد عليها كلوبي مدني سابق عنه في الوجود، له قوة إعلامية ضاربة، وموارد مالية ضخمة، و حضور مهيمن في كثير من القطاعات، ونفوذ كبير في مؤسسات الدولة الحيوية، وهذا الدور مكن أردوغان سابقا من تصفية كثير من خصومه خاصة في مؤسسة الجيش. كما يشهد التاريخ أن صفة “الكيان الموازي” التي أطلقها أردوغان بعد ذلك على جماعة كولن لإعلان القطيعة معها ليست طارئة ولا اكتشافا جديدا، بل كان وضع الحركة دائما كذلك قبل ولادة حزب العدالة والتنمية وخلال دخول هذا الأخير معها في التحالف الاستراتيجي. لكن أردوغان الذي يسيطر على السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويرأس الدولة، من الطبيعي أن يسعى إلى إنهاء وضع تقتسم فيه معه جماعة الخدمة السلطة بالأمر الواقع داخل مؤسسات الدولة وفي مختلف المجالات الحيوية.

وكولن من جهته يقود جماعة تربوية أسسها مند 1970، لها “مشروع مجتمعي” تسعى إلى توسيعه والتمكين له عبر الإعلام والمدارس والجامعات…، ولها مصالح اقتصادية تسعى لحمايتها من خلال تحولها إلى جماعة ضغط. هذه الجماعة التي استفادت أيضا من مرحلة “سمن على عسل” مع العدالة والتنمية التركي في توسيع حضورها و مكاسبها المختلفة، من الطبيعي أن تسعى إلى تأمين تلك المصالح المختلفة بمزيد من اقتسام السلطة والتأثير في القرار عن طريق تقوية نفوذها في مؤسسات الدولة، وممارسة كل أشكال الضغط.

والصورة المركزة السابقة ليست صورة شياطين ولا صورة ملائكة، بل صورة مشروعين مجتمعيين تكاملت مصالحهما في البداية، ثم تباينت مصالحهما وهما في الطريق، فتخاصما بداية، ثم تنازعا بعد ذلك، ثم تدافعا لينتهيا إلى مرحلة تناقض المصالح وما تبعه من أشكال تصفية الحساب الأخيرة.

ويلاحظ من الصورة المركزة السابقة أن طبيعة العلاقة التي تجمع بين الطرفين تفرض وجود خط تماس هش وملتهب، ورغم أن الظاهر يوحي باستمرار تلك العلاقة لقرابة عقد من الزمن، إلا أن ذلك لا يعني غياب احتكاكات تطورت لتخرج عن السيطرة والظهور إلى العلن على شكل ضربات قاتلة متبادلة.

فكانت ضربة ملف التنصت و الفساد الذي هز حكومة أردوغان الذي اتهم الجماعة بتدبيره ورد بتهمة “الكيان الموازي” و “الانقلابيين” و”الجماعة الإرهابية” ومباشرة العمل على محاصرتها في مجالات كثيرة مثل التعليم والإعلام والقضاء. ثم جاءت ضربة محاولة الانقلاب الفاشلة- سواء تورطت فيها الجماعة أو صنعتها الدولة العميقة أو تمت فبركتها لتوفير غطاء سياسي لتصفية الجماعة- لتقصم ظهر أي أمل في أي تفاهم بين الطرفين، وكان رد فعل أردوغان هو مباشرة استئصال الجماعة بشكل جذري في تركيا، من خلال حملة تطهير شاملة سوف توفر حالة الطوارئ كل الشروط الضرورية لها.

إن الذي يهم في هذه القضية ليس الصراع بين طرفين إسلاميين في حد ذاته، ولكن الأهم هو أدوات الصراع المستعملة وحدود استعمالها، وهذا هو المستوى الذي ينبغي التعامل معه بحس نقدي كبير ويقظ.

وفي هذا السياق يمكن تأكيد أمور مبدئية لا يمكن المساومة عليها، أولها ما يتعلق باحترام حقوق الإنسان ومقتضيات قيم الديمقراطية وكرامة الإنسان، مما يعني رفض كل أشكال التعسف والظلم ضد الأشخاص والهيئات. وثانيها، قدسية المؤسسات الديمقراطية ومؤسسات الدولة، مما يعني رفض الانقلاب، ورفض كل الاختراقات المؤسساتية وكل أشكال إضعاف مؤسسات الدولة بصناعة الملفات لممارسة الابتزاز وللضرب تحت الحزام.

إن المنطقة الحمراء في أي صراع حول السلطة تحدها ثلاثة حدود، حد يتعلق باحترام حقوق الإنسان وحد يتعلق باحترام الدستور والديمقراطية وآلياتها السلمية ومؤسساتها المنتخبة، وحد يتعلق بعدم إقحام مؤسسات الدولة بأي شكل من الأشكال في ذلك الصراع إلا لحفظ الحدين السابقين. وتركيز الاهتمام والتفكير والنقاش حول هذه الحدود الثلاثة ومدى احترامها في أي صراع حول السلطة مهما اتخذ من الأشكال والأحجام، يكون أكثر فائدة في النقاش العمومي من الاصطفاف الأعمى مع هذا الطرف أو ذاك، هذا إذا كان لابد لأي صراع أن ينال منا الاهتمام أصلا.