وجهة نظر

التحول الثقافي للمجتمع المغربي.. عندما تطغى النزعة الفردانية

الثقافة مفتاح تطور المجتمعات والأمم عندما تكون هي المحرك القوي للإنتاج في كل تجلياته البشرية. الثقافة الجماعية هي الخريطة الصبغية للمجتمع، التي تحمل الجينات الوراثية والمكتسبة التي تحدد هويته وقيمه وتحمل تصوراته لذاته وللمحيط العام و هي التي تنسج له مسارات إنتاجه و سلوكياته المنسجمة مع ذاته، تشكلت عبر الأزمنة و تلقحت مع مختلف التجارب و العوالم.

توطئة لا بد منها للحديث عن واقعة أو ظاهرة معينة حدثت العام الماضي، وأحدثت صخبا مجلجلا و تضاربا سطحيا في الأفكار و الآراء التي لم تسبر إلى العمق المطلوب.

خلال السنة الماضية قامت الدنيا و لم تقعد، حين شيوع خبر تسريب امتحانات الباكالوريا فانهالت الأطياف المبعثرة من المنتقدين، انهالت على وزارة التربية الوطنية و مسؤوليها و على الدولة ككل بوابل من الإنتقادات حينا و الشتائم حينا آخر، و لم يكلف أحد نفسه عناء التحدث للأمة عن ذيوع ثقافة التسريب هاته. لم يسائلنا أحد عن حدود الثقافة الجديدة، هل هي محصورة فقط في الإمتحانات التربوية أم هي ورم منتشر في كل مناطق الجسد الذي لم يعد يقوى على جرعات الدواء الغير مجدية ليبقى التفكير واردا في عمليات بتر واسعة أو إستئصال مع عملية إنبات وزرع جديدة قد تقطف ثمارها بعد حين من الزمان.

لم يحدثنا سدنة المعبد و حراس المربعات السياسية و خطباء المجتمع و الإجتماع عن أصول المرض الذي يكاد يفقد هذا الجيل و الأجيال المتلاحقة الثقة في صدقية و جدية البناء الدولتي”la construction étatique” في حلم بناء دولة العيش المشترك و التكافؤ و الإنصاف.

إن ثقافة التسريب و الغش و البحث عن “الهمزة” و التفوق و الحصول على المكاسب و الامتيازات في وقت وجيز ،تجيز لنا مساءلة أو إستنطاق ذواتنا و إن باستعمال وسائل التعذيب النفسي بغية الوصول إلى إفادة مطابقة للأحداث و إلى إعادة تشكيل للتاريخ ” reconstitution de l’histoire” القريب في ظل إنعدام الأثر و الأدلة بسبب تبني الدولة لسياسة تغييب التدبير الرشيد و العلمي للارشيفات العمومية.

لنساءل ذواتنا أو ذاتنا العميقة المشتركة، عن ثقافة التسريب و الغش هل هي مرتبطة بالحكومة و بوزرائها أم بنسق ثقافي جديد و بمنظومة القيم التي أصبحت سائدة في البلاد تحمكت في صناعتها جهات متعددة منذ بداية مرحلة التقويم الهيكلي و بوادرها التي ظهرت في أواخر السبعينيات ثم مع بداية الخوصصة في الثمانينات و الإصلاحات المالية الكبرى التي حصدنا من خلالها شيوع الفردانية الشبه المتوحشة و الانفصال عن الذات الجماعية؟

منذ أن بدأ التقويم الهيكلي مع بداية الثمانينات و توجه البلاد نحو الخوصصة و إطلاق عهد جديد سيمته تصفية المرافق العمومية و الخدمات العامة المجانية، بحجة غياب الحكامة و إهدار المال العام و الفساد و ضعف الإنتاجية و منذ أن تم تبني قواعد الليبرالية و الرأسمالية بدون ملاءمتها مع منظومة قيم مجتمعنا منذ ذلك و قع تدمير لثقافة الروح الجماعية و عبث تعليمي و تربوي، و تغيرت حتى عناوين الكتب المدرسية، من اقرأ لقراءتي فتحول الباحث عن العلم بأمر جماعي عام إلى باحث عنه بحريته و تحت نزعته و رغبته الفردانية. و غابت الألعاب الجماعية من أحياءنا و التي كانت تجسد روح العمل الجماعي و توزيع إجتماعي للأدوار، و تعاون لتحقيق الهدف و الندية و الصبر و التفاني و غيرها من القيم، فظهرت الألعاب الفردية التي تغيب عنها تلك القيم الإنسانية، ليحقق فيها كل طفل نصرا على آلة لا قلب لها انتصارا على الوهم لا طائل منه اللهم إلا من أجل إشباع رغبة فردية دفينة.

مخطئ من يظن أن التقويم الهيكلي خلال ثمانينيات القرن الماضي وما رافقه من إصلاحات اقتصادية ومالية مهمة مجرد إجراءات تقنية صرفة، أمرت بها المؤسسات المالية الدولية لإخراج المغرب من الأزمة. بل هي على عكس ذلك تماما، فهي حزمة بل سلة ضخمة إن لم تكن “قفة” من الحجم الكبير لا تقوى على حملها إلا الدواب الخرساء بأمر ربها، تحمل في طياتها إجراءات ذات بعد مالي اقتصادي و تقني، لها نتائج بالغة الأثر و غائرة المعنى في تركيبة بنيتنا الذهنية و ثقافتنا الإجتماعية. و من أخطر إفرازاتها، التغيير المستعجل و الجوهري وغير الطبيعي الذي أجري على منظومة القيم المتفق عليها منذ قرون، بذلك ساءت حال التعليم رغم خطط إصلاحه المتتالية،و التي لا تريد الإعتراف بأن المشكل الحقيقي هو مشكل قيم و ليس مشكل تقنيات، فأخذت البلد على حين غفلة من أهلها و ألقي بها في طريق دائري سريع لا مجال فيه للعودة إلا تحت تهديد حوادث رهيبة.

هنا على الباحثين في علم الإجتماع أن يضطلعوا بأدوارهم و أن يعينوا أصحاب الشأن في تحديد مكامن المرض و طرق جراحته أو معالجته.

و لا شك أن الثقافة الجديدة التي أسقطت على المجالين العام و الخاص ببلادنا لم تحترم خصوصيته الذهنية المحلية و لم تسعى إلى خلق نموذج لتوزيع الأدوار داخل بنيات الدولة لتبقى ثقافة التسلط و الاستئثار بالقرار سائدة خصوصا في البنيات السياسية و التنظيمات الإجتماعية و انعكس ذلك بشكل جلي على إنتاجها للخدمات و الحاجات المطلوب منها تلبيتها، و حتى في الرياضات الجماعية التي تعتمد على توزيع جيد و معتدل للمهام لم نفلح فيها مقارنة مع الرياضات الفردية حيث يسود الفرد معتمدا فقط على قدراته و قراراته التسلطية للوصول إلى نتيجة معينة بدون العمل مع الآخرين و إشراكهم في إنتاجاته الشيء الذي يعكس حقيقة المجتمع.

قد يقول قائل أن هذه الثقافة سائدة في الغرب منذ زمان بعيد و لم تعش نفس ازمتنا، و جواب ذلك أن هذه الثقافة هي نتاج تطور تاريخي طبيعي لمجتمعاتهم بعد أن عاشوا بتحاذبات و صراعات و نقاشات فلسفية عميقة، أنتجت لهم الشكل التنظيمي و القيمي الذي يلبي حاجاتهم و لا يمكن بأي حال من الأحوال إسقاط ثقافة شعب ما على شعب آخر، غير أنه يمكن الإستفادة من مميزاتها بعد تهيئ التربة لزرعها و فق نسق و مخطط تدرجي غير مستعجل متأقلم مع الذهنيات و التشكيلات الإجتماعية تفاديا لأي خلخلة للإستقرار العام ،و تحصينا لما تبقى من ثقافة و قيم العيش المشترك، في ظل تنامي نزعة العنف بجميع أشكاله؛ و في ظل تصاعد حدة الرغبة في الإقصاء بين أبناء الوطن الواحد الموحد.

و من هنا يمكن القول أننا ربما نعيش حالة فصام لاتزال في بداياتها، مابين ثقافتنا و ذاكرتنا و مابين سلوكاتنا السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية قد تقود الأمة و الدولة إلى الدخول في مرحلة الزهايمر لنفقد القدرة على معرفة أنفسنا و تحديد هويتنا.

لذلك إن محاربة قواعد الغش الجديدة النائمة حينا و النشطة أحيانا، لا تتم عبر إضاعة المجهود في السعي للنبش في خلايا المسربين المنتشرة كالسرطان، بل عن طريق تجديد النظر في قطار منظومة القيم لإرجاعه إلى مسلكه الصحيح و تحديد المنظومة التي نريد بدل البكاء و العويل على تسريب غبي.

و خلاصة القول، يجب ربط الأمور بمسبباتها و تجنب الخوض في بوليميك حول التجليات و المظاهر.

تلك أسئلة قد يسفهها البعض و قد يرفض الخوض فيها آخرون لكنها الحقيقة الحقيقية التي تسندها الحقيقة الإجتماعية و التي يتعين على السياسيين و المسؤولين و المهتمين و المعنيين تصريفها في الحاضر من أجل المستقبل.

ـــــــــــ

باحث في العلوم السياسية.