المغاربة وحق الملح

شهدت شبكات التواصل الاجتماعي مؤخرا ظاهرة تداول مجموعة من الفديوهات حول ما أطلق عليه “حق الملح”، حيث يتم تصوير تقديم الزوج لهدية كعربون محبة وتقدير عن مجهوداتها وتعبها في العمل المنزلي طيلة شهر رمضان أو عن سنين العشرة الزوجية، الملاحظ في هذه الفديوهات أو هذا التراند الجديد لدى المغاربة أنه ليس تقليدا مغربيا أصيلا نابع من تاريخ المغاربة وعلاقتهم بالعشرة الزوجية، حيث أن المتتبع لهذا التراند الجديد سيكتشف أن من أطلقه مؤخرا بعض النساء المغربيات وأغلبيتهن من صانعات المحتوى الاتي لا يفوتن أي فرصة لاظهار علاقاتهن “المثالية” مظهريا بأزواجهن وتصوير جميع اللحظات الأسرية داخل فضاء المنزل الذي شكل لدى المغاربة وعبر تاريخهم حرما لا ينتهك ولا يمكن الدخول لفضائه الا بالاستئذان أو برفقة رب الأسرة وفق تقاليد وأعراف الحشمة والوقار، ويكفي النظر الى التصميم الداخلي لبيوت المغاربة لتكتشف أن هذا التصميم الهندسي للمنزل منذ عهد المرابطين والموحديين ليس اعتباطيا بل له خلفية دينية واجتماعية تستمد أصولها من التربية المحافظة للمغاربة.
يلاحظ اليوم ومع انتشار ظاهرة الربح من انتاج فيديوهات حول روتني اليومي وصناعة المحتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي أصبحنا أمام بيوت هشة ومكشوفة يدخل لها الجميع بلا استئذان ولا وقار، حيث انتهكت حرمة المنازل بداية من الصالون الذي كان لا يدخله سوى ضيوف العائلة والأقرباء، فأصبح اليوم فضاء التصوير المفضل للمقالب البئيسة أو المظاهر المصطنعة من خصومة أو صلح أو زيارات أو التباهي بتغير أثاته بمناسبة أودونها، وأصبح الدخول للمطبخ مباحا لرؤية ما تطهوه الزوجة لأبنائها ولأسرتها وهي مرتدية ملابس تبرز تفاصيل جسمها وبمجموعة من الاحاءات الجنسية، ومعرفة مقتنيات المطبخ ومؤنة المنزل، كما أصبحت غرفة نوم الزوجيين مباحة بل أضحينا نرى الزوجة بملابس النوم عارية رفقة زوجها وفي وضعيات حميمية كانت بالأمس القريب تدخل في اطار الخصوصية والعيب والعار لدى المغاربة، فالمتداول حول شخصية الرجل المغربي أنه رجل معروف بالغيرة على زوجته فكان لا يقبل أن يرى وجهها أو كعبها، كما الدخول للمنزل له طقوسه وقوعده، فما الذي تغير اليوم؟ حيث أصبحنا ندخل مرحاض البيت ونرى ما يمكن أن نسميه بالابتذال والمسخ الذي أصاب الحياة اليومية للمغاربة. ما المقصود ب”حق الملح”؟ ما هي الخلفيات السوسيولوجية لهذا المستجد لدى المغاربة ؟ وما مدى تأثير هذا الحدث على العلاقات بين الأزواج؟ وهل “حق الملح” يساهم في تقوية الراوبط الأسرية؟ الى أي حد يمكن لظاهرة حق الملح أن تساهم في عزوف الشباب عن الزواج؟
أصول حق الملح
يعد حق الملح تقليد اجتماعية متداول قديما ظهر في تونس في سياق شهر رمضان، وترجع جذور التسمية الى كون المرأة المشرفة على شؤون الطهي بالمطبخ في شهر رمضان تقوم بتذوق ملح الطعام دون ابتلاعه، فهذه العادة هي بمثابة تعبير وامتنان الزوج لزوجته عن التقدير لمجهوذاتها المبذولة طيلة ذلك الشهر وقدمته طيلة شهر رمضان، حيث يكون العمل المنزلي في المطبخ متعبا أكثر عن باقي شهور السنة، وتتجسد هذه العادة التونسية في اهداء الزوج زوجته في نهاية شهر رمضان وبضبط صباح يوم عيد الفطر هدية من الذهب سواءا كانت خاتم أو قلدة أو اسوار…، حيث تنتظر الزوجة هذه الهدية مباشرة بعد تقديمها للحلويات أو المشروبات، حيث يضع الزوج لها الهدية في ذلك الطبق، حرص التونسيون على المحافظة على هذه العادة تاريخيا ونقلها من جيل الى جيل فكيف انتقلت اليوم الى المغاربة عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل المغاربة تاريخيا عرفوا ما يسمى حق الملح؟
الكد والسعاية أو حق الشقا
يتضح من خلال البحث في الكتب والمراجع التي قاربت عادات وتقاليد والممارسات الاجتماعية للمغاربة، أن ليس هناك اطلاقا شيئ اسمه ” حق الملح” ، فالملح ارتبط لدى المغاربة والمسلمون بسياقات أخرى تتعلق بالشفاء من المرض كما هو وارد في مجموعة من الأحاديث المروية عن الرسول (ص)، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أكلت، فابدأ بالملح، واختم بالملح؛ فإن الملح شفاء من سبعين داء، أولها الجذام، والبرص، ووجع الحلق، والأضراس، والبطن.
كما نجد استعمال الملح لدى المغاربة لا يقتصر على الطعام فقط، بل يحظر لديهم من الناحية الثقافية في تحصين الفرد والمنزل وأهله من أعمال السحر والشعوذة والعين والتقاف والحسد وغيرها من شرور النفس حسب التمثلات الشعبية لدى المغاربة وباقي البلادن الاسلامية، فرش الملح يحيل على التحصين وابطال التعويذات أو ما يسمى لدى المغاربة “لحروز”
وارتبطت عبارة ” الملح والطعام” لدى المغاربة بسياق العشرة الحسنة وأواصر الأخوة و الوفاء للصداقة، حيث يراعى في العلاقات الاجتماعية تقاسم الطعام الذي جمع الأفراد في خالة وقوع خلاف أو نزاع، “ما نسيناش الملح والطعام”، فالطعام بدون ملح لا قيمة له لدى المغاربة …
يعد الكد والسعاية أحد الأنظمة العرفية التي كانت تنظم الأموال المكتسبة بين الزوجين، فهذا النظام هو اعتراف ضمني بحق المرأة في الأموال التي ساهمت رفقة زوجها، وكذلك هو اقرار بضرورة أخد المجهود المنزلي وأعمال البيت بعين الاعتبارلضمان حقوق الزوجة يعتبر العلامة محمد ابن عرضون هو أول من أفتى في المغرب بجواز التعامل بنظام الكد والسعاية ودعا إلى تقنينه، بالإضافة إلى العلامة محمد الجشتيمي في كتابه “العرف السوسي”، نجد هذا النظام وارد في مدونة الأسرة لسنة 2004 خصوصا مقتضيات المادة 49 أعلاه، نستنتج أن نظام تدبير الأموال المكتسبة بين الزوجين يقوم على مبدأين أساسيين: الأول يتعلق باستقلال الذمة المالية لكل واحد من الزوجين، والثاني يخص إمكانية اشتراك بين الزوجين في تدبير الأموال التي ستكتسب خلال قيام العلاقة الزوجية، وذلك من خلال تضمين هذا الاتفاق في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج.
ان البحث في الأعراف التي تعترف للمرأة بمجهودها يجعلنا نقف عند “حق الشقا” أو ما يطلق عليه في المناطق الأمازيغية “تامزالت”، الذي ضمن لسنوات حق المرأة في استقرار أسرتها وزوجها حيث يلاحظ أن اقدام الرجال الأمازيغ على التعدد أو زواج بامرأة ثانية يكاد يكون منعدما بفعل الخوف من أن يطبق علية حق الشقا أو عرف تامزالت وبالتالي خوف العائلة من ضياع ارثها.
الخلفيات السوسيولوجية لحق الملح
ان محاولة تفسير دواعي انتشار تقليد حق الملح التونسي مؤخرا بالمغرب يرجع بالأساس الى حالة الفراغ الموجودة الاعلامية والثقافية، نلاحظ من خلال الأصداء التي خلفها انتشار فديوهات ما أطلق عليه “حق الملح” أن هناك نقاش وتجاذبات حول هذا التقليد، فهناك من الشباب من اعتبره تقليدا أعمى ويسعى الى فرض ضغوط مضاعفة على الرجال وخصوصا أنهم أًصلا لا يقبلون على الزواج وهو ما يزيد من عزوفهم أكثر، بينما هناك من النساء من يعتبرن أن هذا التقليد يتناسب مع وضعية المرأة المغربية التي تعاني من كثرة الأعمال كما أن هناك حاجة ملحة الى ضرورة تثمين العلاقات الزوجية واخراجها من الرثابة ففي سياق انتشار حالات الطلاق والصراعات الزوجية، كانت الحاجة الى ابتكار تقليد يعطي صورة مغايرة عن الرجل المغربي الذي غالبا ما تلصق به صفات الخشونة والجفاف في التعبير عن المشاعر والأحاسيس.
تكمن خطورة في اعتماد تقليد ليست له جذور في تقاليد وعادات المغاربة في كون هذا التقليد يمكن أن تكون له تداعيات غير محسوبة العواقب، وتجعل من هذا التقليد وسيلة للابتزاز تمارس بشكل يؤدي الى الشقاق بين الأزواج، المثير كذلك في هذا الاطار هو خروج مجموعة من النساء اللاتي يدفعن عن هذا التقليد ينتقصن من رجولة الأزواج اللذين لا يقدمون الهدايا لزوجتهم وهذا مؤشر على سيادة التفكير البرغماتي والمادي على تفكير بعض النساء في علاقتهن بالرجال.
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي فضاء لنشر بعض العادات والسلوكيات حول الرجال والرجولة والزواج وغيرها، لا يمكن النظر اليها بشكل اعتباطي وبريئ بل لا بد للباحثين في العلوم الاجتماعية الوقوف عليها وتحليل أبعادها وخلفياتها السوسيولوجية ومدى انعكاسها على الروابط الاجتماعية وتماسك الأسرة المغربية، في ظل غياب سياسة ثقافية واعلامية تساعد في توجيه مجموعة من السلوكيات والاستعمالات داخل الفضاءات الرقمية المفتوحة.
اترك تعليقاً