إسقاط الدفاعات الجزائرية المسيرة المالية.. بين الخلافات السياسية والحسابات الاقليمية

أعقب إسقاط المسيرة المالية من طرف الدفاعات الجزائرية فصلا جديدا من التوتر السياسي بين السلطات الجزائرية والسلطات المالية.حيث يبدو أن هذه الحادثة قد عكست مستوى التصعيد الذي بلغته العلاقات بين الطرفين بعدا استدعت مالي سفيرها بالجزائر. ولعل هذا التوتر السياسي لا يخفي فقط خلافا سياسيا حول ملف الأزواد ، بل يرتبط بالأساس برغبة جزائرية بتكريس تموقعها الإقليمي في منطقة الساحل التي تعرف تجاذب نفوذ قوى إقليمية ودولية عليها.
- إسقاط الدرون والخلاف المالي الجزاءري
لعبت الجزائر دورا رئيسيا في إبرام اتفاق السلام بين السلطات المالية و حركة أزواد من خلال التوقيع على اتفاق الجزائر في سنة 2015 . فبعد تمرد سنة 2012، سعت الجزائر جمع الفرقاء الماليين في حوارات بدأت في 2013 وانتهت بتوقيع اتفاق السلام، الذي لم يُرض كثيرا قادة الجيش المالي آنذاك، خاصة أنه جاء بعد تعرضهم لسلسلة هزائم عسكرية في سنة 2014 .وبالتالي ، فإن المجلس العسكري بقيادة العقيد عاصيمي غويتا بعد نجاح انقلابه العسكري بدا يرى بأن ميزان القوى في إقليم أزواد اختل لصالحه، ويمكنه تحريك قواته شمالا للتمركز في المنطقة وإثبات سيادته الكاملة عليها، حتى لو أدى ذلك إلى انهيار اتفاق السلام مع تنسيقية حركات أزواد.ولعل مما شجعه على ذلك التطورات الإقليمية التي عرفتها المنطقة : فالقوات الفرنسية التي كانت تحول دون دخول الجيش المالي إلى بعض مدن الشمال مثل كيدال وتومبوكتو لتفادي أي احتكاك مع مسلحي الطوارق رحلت في سنة2022. بينما لم تتمكن القوات الأممية من ملء فراغ رحيل القوات الفرنسية والأوروبية المساندة لها حيث أدت ضغوط المجلس العسكري المالي إلى انسحابها من المنطقة. بالإضافة إلى ذلك فقد لجأ المجلس العسكري إلى الاستعانة بالدعم الروسي مستفيدا من تزويده بطائرات حربية ومروحيات قتالية. بينما قامت الصين بمنح الجيش المالي مدرعات مزودة برشاشات مناسبة لعمليات مكافحة الإرهاب. وقد عززت هذه الأسلحة ثقة المجلس العسكري في قدراته على تغيير معادلة الصراع في المنطقة، سواء ضد الجماعات الإرهابية أو الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام، أو حتى دول الإيكواس التي كانت تلوح باستخدام القوة ضد انقلابيي النيجر وبوريكينافاسو ومالي. ولتدعيم هذا الوضع وقع قادة مالي مع سلطات النيجر وبوركينا فاسو على تحالف ثلاثي للدفاع المشترك عن أي طرف يتعرض لأي تهديد. وكل هذه المستجدات شجعت النظام العسكري المالي الجديد على تبني مقاربة عسكرية والسعي لتركيز سيطرته على الإقليم الشمالي، مستغلا في ذلك تفوقه العسكري الجوي والتراجع عن تطبيق اتفاقية الجزائر المبرمة مع تنسيقية الأزواد. الشيء الذي اعتبره النظام الجزائري تطاولا على سلطته بوصفه الدولة الراعية لتطبيق بنود هذه الاتفاقية الجزائر. فقد تدخلت السلطات الجزائرية أكثر من مرة لمنع انهيار بنود هذه الاتفاقية ، بعدما هددت تنسيقية أزواد بالانسحاب من اتفاق السلام نظرا لعدم تنفيذ باماكو بنوده طيلة السنوات الماضية. وفي هذا السياق استقبل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قادة أزواد في فبراير 2023، وأكد حينها التزام بلاده بالتطبيق الكامل لاتفاق السلام . في حين اعتبرت السلطات المالية بأن هذا الاستقبال بدون مشاورة مع النظام المالي هو تدخل في الشؤون الداخلية ومس بسيادة دولة مالي خاصة بعد مؤتمر صحفي لوزير الخارجية الجزائري ذكر فيه بأن الجزائر أكدت للجانب الروسي “رفضها تصنيف الحركات السياسية لشمال مالي، بأنها تنظيمات إرهابية من قبل باماكو”. مؤكدا بأن هذه الحركات “طرف موقع على اتفاق السلم والمصالحة بالجزائر سنة 2015، ومن غير المعقول أن تتحول بين ليلة وضحاها إلى عصابات إرهابية”. موضحا بأن “هذه الحركات هي التي ستفاوض الحكومة المركزية في مالي مستقبلا؛ لأن وقت الدبلوماسية سيعود طال الزمن أو قصر”. مما جعل الحكومة المالية ترد بشدة عن هذه التصريحات معتبرة ذلك “تدخلا من الجزائر في شؤونها الداخلية”، ودعتها إلى “التركيز على أزماتها الداخلية، بما في ذلك قضية القبائل، والتوقف عن استغلال مالي كأداة لتحقيق أهداف سياسية خارجية”. كما أعربت مالي عبر بيان حمل توقيع وزير الخارجية عبدلاي ديوب بتاريخ 2 يناير 2025، عن “قلقها البالغ إزاء استمرار تدخل بعض السلطات الجزائرية في الشؤون الداخلية لمالي”، مضيفة أن الأمر “يعبر عن نزعة أبوية وتعالٍ”. كما أوضحت خارجية باماكو أن “سياسة مكافحة الجماعات الإرهابية هي حق سيادي بحت يعود لجمهورية مالي”، وأن الجزائر “ليس مطلوبا منها تقديم الدروس في مكافحة الإرهاب؛ فمالي تتبنى إستراتيجيتها الخاصة التي تتماشى مع احتياجاتها الوطنية”. مما عكس حدة الخلاف السياسي والدبلوماسي بين مالي وجارتها الشمالية الجزائر. وفي خضم هذا التوتر والخلاف ، يتم إسقاط الدرون المالية التي كانت تقوم بمهمة استطلاعية على الحدود الجزائرية من طرف القوات العسكرية الجزائرية التي أكدت من خلال بيان وزارة الدفاع الجزائرية مسؤوليتها عن إسقاط طائرة مسيّرة قالت إنها اخترقت المجال الجوي الجزائري بمسافة 2 كلم. في حين نفت السلطات المالية ذلك بشدة، مؤكدة أن جميع المعطيات الملاحية والطوبوغرافية المتوفرة تثبت أن الطائرة لم تخرج من الأجواء المالية قط، وأن الادعاء الجزائري « عبثي » ولا ينسجم مع موقع الحطام. كما أكد بيان الحكومة المالية أن قوات الدفاع والأمن المالية، تحت قيادة الرئيس الانتقالي الجنرال أسيمي غويتا، ستواصل عملياتها لمكافحة الإرهاب بكل حزم، كاشفًا عن تنفيذ ضربات ناجحة ضد أهداف إرهابية في تينزواتين ومناطق أخرى بعد ساعات من الحادث.وموازاة مع ذلك قررت الحكومة المالية استدعاء السفير الجزائري في باماكو للاحتجاج الرسمي، والانسحاب الفوري من لجنة الأركان المشتركة CEMOC)) ، والتوجه إلى الهيئات الدولية لتقديم شكوى ضد الجزائر بتهمة « العدوان ».في حين عمدت السلطات الجزائرية إلى إغلاق مجالها الجوي لترد مالي بالمثل في تصعيد سياسي ودبلوماسي بلغ كل مداه
- إسقاط الدرون والأبعاد الإقليمية للتوتر المالي الجزائري
يرى النظام الجزائري في تراجع النظام المالي عن تنفيذ الاتفاقية التي أشرف عليها ليس فيها تطاول على مصداقية سلطته السياسية بل أيضا على هيبته الإقليمية . لذا فقد نظرت السلطات الجزائرية باستياء إلى إعلان السلطات الانتقالية في مالي انسحابها من اتفاق السلم والمصالحة الموقع مع حركات الأزواد عام 2015 . ولعل مما زاد من هذا الشعور بالاستياء من الموقف المالي هو أنه يتزامن مع الدور الروسي المتزايد في منطقة الساحل الإفريقي. فقد رد وزير الخارجية، أحمد عطاف خلال مؤتمر صحفي على سؤال يتعلق بموقف بلاده من تواجد قوات فاغنر بمالي: “قلنا للأصدقاء الروس لن نسمح ولن نقبل لكوننا جزائريين بأن تُحول حركات سياسية (الأزواد) كانت طرفاً موقعاً على اتفاق الجزائر للسلم في مالي، بين ليلة وضحاها إلى عصابات إرهابية”.وأضاف عطاف أنّ بلاده “أرادت إقناع الصديق الروسي بالبديهيات التي عالجت بها الجزائر، من خلال تجربتها الطويلة للملفات في منطقة الساحل، على مدى عقود، وأن الحل العسكري (في شمال مالي) غير ممكن، وجُرب ثلاث مرات وفشل”.وبالتالي ، فهذه التصريحات تعكس توجس السلطات الجزائرية من تزايد الوجود العسكري الروسي بالمنطقة ، والذي ظهر من خلال تغاضيها عن نصب القاعدة لكمين لقوات فاغنر على الحدود الجزائرية أدى إلى مقتل 50 مقاتلاً من فاغنر. فليس خافيا أن الجزائر كانت منزعجة من وجود فاغنر منذ فترة طويلة. ففي سنة 2022، انتقد الرئيس عبد المجيد تبون في مقابلة له مع صحيفة لوفيغارو، بشكل غير مباشر وجود فاغنر في منطقة الساحل. وقال ردا على سؤال حول وجود رجال هذه الميليشيات الروسية بأن “الأموال التي يكلفها هذا الوجود ستكون في وضع أفضل وأكثر فائدة لو ذهبت لتطوير منطقة الساحل”، في إشارة إلى عدم استساغة الجزائر وجود هذه القوات الأجنبية على الرغم من علاقاتها القوية مع روسيا. وبالتالي ، لكن إلى جانب ذلك ،فتأكيد وزارة الدفاع الجزائرية إسقاط الدرون المالية ذات الصنع التركي ، يحمل في عمقه رسالة مزدوجة الأولى للطرف التركي والثانية المغربي:
-فالسلطات الجزائرية متوجسة من تزايد النفوذ التركي في منطقة الساحل ومحاولة ملء الفراغ الذي تركته فرنسا عبر ” تبني تركيا استراتيجية ناعمة مبنية على المساعدات تارة والتعاون بشعار ’رابح – رابح‘ تارة أخرى، مما سمح لها بربط علاقات قوية متشابكة مع مختلف الدول الأفريقية وبصورة خاصة مالي وتشاد والنيجر”.فأمام الوجود التركي في الساحل و”تراجع” حضور فرنسا التي تعتبر المنطقة حديقتها الخلفية وعمقها الأفريقي، يتصاعد التأويل حول انطباع الجزائر الرافضة للوجود الأجنبي، لا سيما بعد إبطال العمل باتفاق السلم والمصالحة في مالي، وما تبعه من توتر بين المجلس العسكري في باماكو والجزائر الذي كاد أن يصل إلى حد القطيعة، فضلاً عن سوء التفاهم الذي طبع العلاقات بين الجزائر والنيجر إثر الانقلاب العسكري أيضاً الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم.ومما يزيد من “توجس” الجزائر غير المعلن”، رفع الحكومات العسكرية الحاكمة الجديدة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر تعاونها العسكري مع أنقرة، وآخره “تعزيز وسائلها الجوية لتتعقب الجماعات المسلحة”. فقد أدت صحيفة “لوموند” الفرنسية، أن مسيّرات “بيرقدار” التركية باتت منتشرة بصورة لافتة في منطقة الساحل و”كانت إحدى الوسائل المفضلة للمجلس العسكري في مالي للاستيلاء على منطقة كيدال شمال البلاد على الحدود مع الجزائر”. من هنا كان إسقاط المسيرة “بيرقدار” التركية من طرف منظومة الدفاع الجزائرية إشارة عسكرية واضحة تروم إظهار قوة الدفاعات الجزائرية على تدمير هذا النوع من السلاح الجوي التركي وإشارة سياسية من أن السلطات الجزائرية لا ترغب في أي تمدد عسكري أو سياسي لتركيا في المنطقة سيما وأن هذا التواجد التركي بالمنطقة يحيل على ماضي الإمبراطورية العثمانية بشمال افريقيا حيث كانت الجزائر من إيالاتها وباي الجزائر تابعا للسلطان العثماني.
-كما أن في إسقاط الدرون من طرف الدفاعات العسكرية الجزائرية فيه رسالة تحذير للسلطات المغربية ،التي تمتلك بدورها عدة مسيرات تركية من هذا النوع والتي كثيرا ما استخدمتها في المنطقة العازلة ،بأن المنظومات الدفاعية العسكرية الجزائرية قادرة على تدمير هذا النوع من المسيرات والتي سبق للمغرب أن تسلم طائرات مسيرة من طراز “بيرقدار تي بي 2” في غشت 2024، كما حصل في شهر فبراير 2025، على الدفعة الأولى من المسيَّرات القتالية من طراز أكنجي (، التي تصنعها تركيا؛ في إطار تطوير القدرات الجوية العسكرية المغربية. ولعل مما يعزز هذا الطرح مواصلة بعض الصفحات والوسائط الإعلامية الموالية لجبهة البوليساريو الانفصالية والنظام العسكري الجزائري حملاتها الدعائية ترويج صورة لحطام طائرة عسكرية دون طيار (درون)، زاعمة أنها مغربية. بل ذهبت أوساط إعلامية جزائرية أخرى إلى أن “تدمير الطائرات المسيرة عالميا يعود إلى ضعف قدرات الجيش المالي في تشغيل هذه الطائرات المسيرة، خصوصًا تلك المتطورة منها على غرار ت بي 2 “TB2″ و ” أكينجي” “Akinci”، إذ تفتقر القوات المالية إلى الكفاءات التقنية والتدريب الكافي في هذا المجال و لجوء السلطات المالية إلى الاستعانة بضباط وتقنيين من جنسية مغربية لتسيير وتشغيل هذه الطائرات، في إطار تعاون غير معلن، وهو ما يطرح تساؤلات حول طبيعة هذا الدعم وتداعياته وعلاقاته بتدخل الكيان الصهيوني بإفريقيا عبر المملكة المغربية نحو منطقة الساحل.”
وعلى العموم ، فإسقاط الدرون المالية من طرف الدفاعات الجزائرية لا يعكس فقط توترا سياسيا ثنائيا بل يندرج ضمن صراع إقليمي في منطقة الساحل الملتهبة ، حيث تحاول الجزائر باعتبارها قوة إقليمية في هذه المنطقة الحفاظ على نفوذها خاصة بعد الانسحاب الفرنسي وكذا الأمريكي من هذه المنطقة التي عرفت تغييرا في قياداتها وتحرك قوى جديدة كروسيا وتركيا والمغرب لملء الفراغ الجيوستراتيجي الذي خلفه هذا الانسحاب.
تعليقات الزوار
آخر مسمار في نعش الذل بلوماسية الجزائرية