منوعات

الملك الكوني المشترك

لم يكن مصطلح الملك العام العالمي المشترك معروفا قبل عشر سنوات خلت. إذ الذي أضفى عليه “جماهيرية” نسبية إنما دراسات البنك الدولي وتقارير برامج الأمم المتحدة، وبعض الوكالات المتخصصة، وبعض من الباحثين والمختصين في قضايا التنمية والاقتصاد والعلاقات الدولية.

لم تعمد المؤسسات إياها إلى خلق المصطلح ولا مأسسة خلفياته، بل عمدت منذ البدء إلى تكريسه كواقع حال، تزامن استنباته مع تزايد مد العولمة وتقدم مبادئ وإيديولوجيا الليبيرالية الجديدة. وواقع الحال المقصود هنا إنما ذاك المرتكز على حقيقتين اثنتين:

الحقيقة الأولى تكمن في التراجع المستمر للفضاء العام، وللسلط العمومية بداخله، مقابل التصاعد المتزايد لمد السوق ونفوذ السلط الفئوية الخاصة… ترتب عنهما معا بروز صراعات وتجاذبات بغرض تسليع وخوصصة مجالات ذات منفعة جماعية، لم تكن من ذي قبل مكمن ذات التجاذبات، كحالات الملكية الفكرية أو حقوق تملك المعلومات والمعارف أو ما سواها.

أما الحقيقة الثانية فتتراءى لنا كامنة في حالة التجاوز التي طالت الدول/الأمم أمام تدويل وعولمة العديد من القضايا الكونية الكبرى التي أضحت معها العديد من “المرافق” المشتركة موضع نزاعات متصاعدة، تستوجب تدبيرا تفاوضيا على المستوى الجهوي، كما على المستوى العالمي سواء بسواء.

لا يتعلق الأمر هنا فقط بإشكاليات تلوث البيئة وندرة المياه ولا بمخاطر الأمراض العابرة للحدود، بل أيضا بقضايا المخدرات وتبييض الأموال الوسخة وتصاعد نبرات الإرهاب والعنف المنظم.

هي كلها ملك عالمي مشترك، و”شر” عالمي مشترك أيضا، إذ غدا من المتعذر إنتاجها أو تمويلها أو ابتداع سلطات فوق/وطنية تؤمن استمراريتها أو تحول دون استشرائها.

والسر في ذلك لا يرتبط فقط بعدم قدرة الفضاءات الوطنية على ضمان استمرارية ذلك في الزمن والمكان، بل أيضا في الطبيعة الخاصة التي تجعل من الملك الكوني، ملكا متمايزا عما سواه من مرافق و”أملاك”.

فميزة الملك العام الأساسية طبيعته اللاإقصائية والتي يستحيل بموجبها حصر بلوغ مرفق أو الاستفادة من خدمته، إذا كان عرضها “مشاعا”، كما هو الشأن بالنسبة لاستعمال الطرق أو الاستفادة من الإنارة بالأزقة والشوارع أو ما سواها.

وميزته الثانية استحالة تقسيمه، إذ استفادة شخص ما منه لا يمنع الأشخاص أو الجماعات الأخرى من الاستفادة منه، دونما إمكانية من لدن الأول لتقويضه أو الحؤول دون بلوغ الآخرين له. فإذا كانت الاستفادة من الملك العام (أو “الشر” العام) أمرا لا إقصاء بصلبه، ولا سبيل لتقسيمه، فإنه لا إقصاء أو تقسيم يطال ذات الاستفادة على المستوى العالمي، لا سيما مع انفتاح الأسواق وتزايد تيارات السلع والخدمات والرساميل والبشر.

لا تكمن أهمية الملك العام المشترك كونها تدفع بمبدأ المساواة في البلوغ والاستفادة، ولا في كونها تستبعد البعد التجاري المزامن لمرافقها، بل تكمن أيضا في دفعها بخصائص أخرى ثلاث لطالما حاربها السوق في خلفياتها وفي تمظهراتها:

الأولى تتمثل في الفلسفة الثاوية خلف استنبات ذات “المفهوم” على المستوى العالمي، بعدما أسس الاقتصاد السياسي العام (وعلم الاجتماع أيضا) لذلك على المستويات الوطنية ولعقود طويلة خلت.

الفلسفة المقصودة هنا تكمن في عدم الانصياع لمبادئ السوق وطقوسه، للحيلولة دون أن يحتوي ما تبقى من “أملاك” عامة، أو يجد المسوغ للذين هم خلف “الشر” العام الكوني (مضاربات مالية وقرصنة معلوماتية وإخضاع التربية والصحة والبيئة وما سواها).

أما الثانية فتكمن في نجاح أطروحة الملك الكوني المشترك في إبراز حقيقة أن هناك من القضايا الكونية الكبرى ما لا تستطيع دولة واحدة أو مجموعة دول تمويله أو إنتاجه أو محاربة الشاذ من بين ظهرانيه… وأنه من المفترض خلق فضاءات فوق/وطنية ذات شرعية وسلطة تنفيذية، تضمن سريانه وتحول دون اتساع مجال “الضار” ضمنه.

يتعلق الأمر هنا بالعديد من مبادرات المجتمع المدني “الكوني”، المندد بتجاوزات العولمة وطغيان فاعليها والمطالبة بتخليص المجال السياسي من إكراهات المالي والاقتصادي الذي يرهن حاضر الملك الكوني المشترك ويرتهن مستقبله.

أما الثالثة من ذات الخاصيات فتكمن في انتقال طرح الملك الكوني المشترك من إطار التحليل والتنديد والمطالبة، إلى إطار الاقتراح الواضح والمطلب القابل للتنفيذ.

لا يروم التلميح هنا فقط تحذير بعض المنظمات المدنية العالمية بمخاطر استمرار نموذج استهلاك الدول الكبرى للطاقة المفرزة للتلوث على مستقبل البشر ووجوده.

ولا يروم أيضا عمل العديد من المنظمات لتقليص تكاليف الدين على العالم الثالث، بل أيضا عمل الكثير من المنظمات على الحد من مستويات المضاربات المالية أو اقتطاع جزء بسيط من أحجامها الضخمة لتمويل برامج التربية والتعليم، للحد من فاقة الفقر أو لتحسين ظروف العيش بهذه الجهة من العالم أو تلك.

ليس من شك إذن أن الذي يبني له مبدأ الملك الكوني المشترك ويؤسس إنما استنبات الأرضية القمينة بمواجهة طغيان العولمة والسوق والليبيرالية، وتوجهها المستميت بجهة تقليص دور الدولة والملك العام والمرفق العام، وضمنها جميعا مبادئ البلوغ المتساوي، غير المجزأ للسلعة أو للخدمة أو لما سواها.