وجهة نظر

هل احترق حزب المصباح حتى الرماد ؟

بعد اصطفافِ حزب العدالة والتنمية لعقودٍ طويلةٍ في دكّة المعارضة، واستغلاله للتّضييق السياسي الرمزي الذي تعرض له، شأنه في ذلك شأن باقي التنظيمات والأحزاب السيّاسية التي كانت ولا زالت تعتبر نفسها أحزابا ذات مرجعية إسلامية، في مجموعة من الدول العربية،للتجذّر في المجتمع والتغَلْغلِفي تعبئة الطبقات الشعبية على مختلِف شرائحها وفئاتها العمرية ومستوياتهاالدراسية وعلى أكثر من صعيد؛بالعمل الجمعوي والأنشطة الدعوية الدينية والأعمال الخيرية التطوعية سيما في ما يتجّسد في شخص جناحه الدعوي التوحيد والإصلاح؛الذراع الأيمن لحزب المصباح، فالذي يميّز هذه التشكيلات والجماعات الإسلاميةأنها تشتغل حسب السوسيولوجي المغربي محمد ضريف (الذي اشتغل كثيرا عن نشأة الحركات الإسلامية ومقاربة مشاريعها السياسية وأهدافها في كتاباته السوسيولوجية) قيّاسا مع التنظيمات المدنية والهياكل الحزبية الأخرى المتآكلة، نفس الشيء يقال عن الاخوان على مستوىمصر، وما تعرض له اخوان الحسن البنا من سجن واعدامات في زمن عبد الناصر، ممّا خلق منهم ضحايا سياسيين، وحزب النهضة في تونس الذين سحقهم نظام بنعلي ولم يكن يسمح لهم بالبروز، وقِس على ذلكَ مالم يقل، فقد عُوقبت التنظيمات الإسلامية تاريخيا إذن وأُبْعدت عن دائرة صنع القرار السياسي لعقود إبعادا رمزيا واستراتيجيا ممنهجا مقصودا، واستغلت التنظيمات الاخوانية هذه المظلومية ليتغلغلوا ويتجذّروا ويشتغلوا في عُمق القواعد الشّعبيةِ، وكان طبيعيا جدّا حسب المتتبعين السوسيوسياسيينللشأن والحقل السياسي بعد الحراك الاجتماعي،والانتفاضاتِالشّبابية التي عرفتها مجموعة من الأقطارِ العربيةِ في الشّرق وشمال افريقياا أن يصعدوا إلى سدة القرار، ويحتلوا المراتب الأولى في الانتخابات التي قيل عنها بأنها كانت نزيهةودمقراطيةلأنهاجاءت لتعبّر عن إرادة الجماهيرالكادحة.

نفسُ الشّيء يقال عن حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الروحانية في المغرب، فقد نجحوا في اسكات الشارع والانتخابات معا بعد حراك عشرين فبراير التي خرجت للمطالبة بالكرامة والمساواة والعدل وفصل السلط كآلية ديموقراطيةمن آليات ضمان الحقوق كما فصّلها صاحب “روح القوانين” الفرنسي مونتسكيو، وترسيخ دولة المواطنة وفلسفة الحق والقانون وهي مبادئ مدنية حديثة أنْوارِيّة وليدة فلسفة الأنوار، لكن صناديق الاقتراع كما كان متوقعا أفرزت التيارات المحافظة التي تحمل مشروعا سياسيا يعود من حيثُ نسقُه وطبيعتهُ السيّاسية المبدئيةإلى ما قبل الدولة الحديثة أي إقامة الدولة الدينية وأسلمة الدولة !!

جاءت العدالة والتنمية إذن بعد دستور 2011 بعد ما ارتفع سقف المطالب في الشارع بإسقاط الفساد والمفسدين وتقديمهم للمحاسبة،والمناداة بإصلاح منظومة العدالة والقضاء واسقاط الاستبداد، والقطع مع الريع الاقتصادي والنقابي والفساد الإداري المعشّش في دهاليز المؤسّسات، لكن حزب العدالة كما يبدو باع الوهم للمغاربة الذين اشرأبّت أعناقهم نحو الإصلاح والتغيير الجذري الحقيقي،بعدما هرِمُوا من أجل هذه اللحظة التاريخية بلسان ذلك الكهل التونسي وهو يتوجّع ويجوب شوارع تونس. وخلف موعده مع التاريخ، جاء بعد كل هذه الشعارات الفخفاخة العريضة “الكلامنجيا ” التي استمال بها القواعد في الحملة الانتخابية إلى جانب توظيفه للمقدس في “الماتش السياسي” كما صرح السي عبد الله بنكيران ذات يوم حين قال تمثيلا لا حصرا؛(حنا خدامين مع الله ) فالذي يشتغل مع الله لا يركبالسيارات الفارهة، والعمارات والتعويضات والأجور السمينة المستخلصة من عرق جبين الكدح، ليقول للشعب المغربي الذي كان ينتظر تقديم أصحاب المقالع وأصحاب “الفيرمات” والامتيازات والاختلاسات “بعفا الله عمّا سلف” ممّا أثار ضجة سياسية، وصدمة شعبيةفي آن،إذخُيِّبتْ الكثير من الآمالالتي كسرت أفق التوقع.. جاءت الحكومة الإسلامية إذن بعد مخاض عسير لتقطع مع الريع الاقتصادي! لكن بالقفز على جيوب الكدّح والبسطاء والمياومين، ذلك السّور القصير الذي يسهل ركوبه، إن حزبنا الموّقر الذي وعدَ المغاربة بالتغيير بدا كأرنب وديعأمامجشع “الباطرونا” وأصحاب الرّساميل، لكن في المقابل ألم يقطعوا على أنفسهم عهدا بأنهم سينسحبون ويسلمون المفاتيح في حالة ما إذا فشلوا في المهّمة والمسؤولية التاريخية والأخلاقية التي حمّلهم ثقلها وأمانتها الشعب المغربي،بمنحهم الثقة بالتصويت عليهم؟ يبدو أن كل ذلك كان صيحة و”كذبة كهنوتية” في وادي التعبئة الانتخابية.

بالأمس القريب كانوا يصدحون بملء عقيرتهم في غرفتي البرلمان،حينما كانوا مصطفين في صفّ المعارضة، ويقولون بحماستهمالكبيرة؛لا لتبذير المال العام في مهرجانات العار”موازين”، نعم لترشيد النفقات، وربط المسؤولية بالمحاسبة وتوظيفِ المعطّلين بَدَلها، وخلق فرص الشغل، وقد اكتسبوا بخطابهم “المعقول” ذاك شعبية جماهيرية محترمة، واعتقد الكل ــ وأنا واحد منهم ــأنه حزب الخلاص الذي يشكل بارقة آمل وصفحة مشرقة بعدما فقد المغاربة ثقتهم بالمؤسسة الحزبية وفي العمل السياسي واصطف الجميع في حزب الشعب حزب “مَامْسوقينشْ” كما يحلو للمغاربة أن يصطلحوا، كشكل من أشكال الاحتجاجالرمزي على المسرحيات والبؤس السياسيوالمهازل التي تتكرر بشكل يومي،فالعزوف وعدم المشاركة السياسية موقف في حدّ ذاته، لكن هل منع حزب العدالة والتنمية إقامة موازين بعد دخوله المعترك السياسي بعدما أصبح على رأس جهاز تنفيذي يتيح له تحريك الأوراق وصنع القرار؟ بل وجد الشّعب المغربي نفسه مرة أخرى أمام مبرّرات من صيغة أخرى،إنها السياسة فنّ الممكنات وفنّ السّفالة الأنيق، نَخْبُ الكعك السياسي عادة ما يفعل فعلته في البشر إذا اقترن بنشوة الكراسي وتوسيع الامتيازات.

وصلت حكومة الإسلاميين إلى الحكم فلم نرَإلا زيادات متتالية في الأسعار،والمحروقات والمواد الاستهلاكية الأساسية بعدما رفع الدعم عنها في إطار ما عرف بإصلاح صندوق المقاصة، حتى زادت موجة من السخط الشعبي العارم كما رأينا مع احتجاجات وغليان طنجة نموذجا، ضدا على ارتفاع أسعار الماء والكهرباء،المديونية الخارجية ارتفعت أضعافا مضاعفة بشكل غير مسبوق نتيجة سياسة الاقتراض من الخارج، الشيء الذي لم يكن يعني إلا مزيدا من الإملاءات الخارجية (في اطار سياسة التقويم الهيكلي) ومزيدا من الركوع والخنوع والتنازلات على حساب القطاعات الاجتماعية كالقطاع الصحي والتعليمي بدل التفكير في ابتكار وابتداع سبل وحلول ومخرجات تنموية سياسية أخرى نتّجه مباشرة للبنك الدولي أخْصَر السبل وأقصرها للاقتراض حتى وان اقتضى الأمر تزبيل المغاربة باستيراد أطنان من الأزبال السامةالإيطالية كما شاهدنا مؤخرا وما خلفه من استياء رمزي، وهل هنالك مواطن سَوِيّ يحب ويعشق تربة وطنه الطاهرة التي ضحى أجدادنا بالنفس والنفيس من أجل تحريرها من براثين الامبريالية الاستعمارية أن تتحول الى مزبلة وقاذورات الدول الشمالية؟ في الوقت الذي قُرّر فيه محاربة الميكا وتشريد الالاف من العاملين في مصانعها دون تقديم بدائل فعلية وكل هذا باسم حماية البِيئة ومن .أجل الحق في بِيئة نظيفة !

في حكومة الإسلاميين مُرر قانون الزيادة في سن التقاعد، أقل ما يقال عن جلسة التصويت الأخيرة أنها كانت أشبه بمسرحية مخدومة، أغلب نوابالأمّة لم يحضروا؛ (53 حالة غياب بحيث سجل أكبر غياب في حزب الاستقلال والاتحاد العام للشغالين ب 16 غياب) و12 عضو غائب في حزب الاصالة والمعاصرة ..الخ، وبين من ذهب معتمرا، وممتنع عن التصويت وبين منسحب كما الشأن بالنسبة للأربعة الأعضاء لنقابة الكونفدرالية للشغل (الكدش). في حين أن المدخل الحقيقي في اصلاح صناديق المعاشات هو تقديم من أفرغ هذه الصناديق الى العدالة للمحاسبة. وليس الإصلاح على حساب الشغيلة بالرفع في الاقتطاع من الأجور وسن التقاعد. لكن لا ملامة مادامت الشغيلة قد عودتنا أن تظل كجمهور سلبي تتفرج على تقرير مصيرها، لاتسكن متحركا ولا تحرك ساكنا.

في حكومتنا الروحانية الطاهرة مُرِّر قانون التوظيف بالعقدة “الكونطرا”، كآخر مسمار يدق في نعش الوظيف العمومية، وهو قرار قال عنه الكثير من الفاعليين والمتتبعين للشّأن السياسي في البلاد بأنه قرار فوقي نخبوي جاء لتكريس الطبقية في التوظيف، وتشجيع الزبونية وإلاّ ماذا يمكن أن ننتظر بعد قرار كهذا في مجتمع لم يتخلص بعد من العلاقات الدموية ولغة الدم الأزرق، )وليمعاندو سيدو عندو لا لاه،()وباك صاحبي(، ألا يعتبر القرار التفاف عن الدستور الذي ينصّ بشكل صريح على تكافئ الفرص والمساواة بين أبناء الشعب المغربي، إنّه هدية للدكاكين الحزبية لتوظف من تشاء من أتباعها ووفق تعويضات جزافية سمينة،وما توظيف بنت السيد بنكيران مع مجموعة من اتباع الحزب في الأمانة العامة للحكومة عنا ببعيد، مبدئيا لسنا ضد توظيف ياسيمنة بنكيران الماسترية، أو غيرها لأنها تحمل جينات، واسم بنكيران هذا أمر غير مقبول ومرفوض،هي مواطنة كباقي المواطنين وليس قدرا مقدورا أن تبقى معطلة عن العمل طيلة حياتها لأنها بنت عبد الاله بنكيران، لكن في المقابل ماذا قال هذا الأخير عن الدكاترة المعطلين في الرباط ؟ ألم يسحلوا ويسلخوا كالخراف؟ وتنسيقية المجازين المقصيين من الترقية فوج 20122013 بعدما حركت مسطرة العزل ضدهم وتعرضوا لشتى ألوان التعسفات والعقوبات في مجالس تأديبية صورية لا لشيء الا لكونهن اضربوا اضرابا دستوريا وقانونيا وطالبوا بمساواتهم مع رفاقهم في المهنة، شأنهم شأن الافواج السابقة.ألم يكن من حقّ المغاربة جميعا وأبناء الهامش الحق في المعلومة فو أن يتوصلوا بخبر المباراة هذه ؛ حتى يتقدم لها من يتقدم من أبناء عامة الشعب؟ ولاية حكومية بأغلبية كانت قاسية على جيوب الفقراء، وحصيلة حكومية هزيلة، واتجاه واضح نحو خوصصة القطاع الصحي والتعليمي، ومؤشرات التنمية حسب التقارير الدولية في تراجع، حرية الصحافة في تراجع، وسلخ صنة العقول والتنوير ومن قال فيهم شوقي قديما قم للمعلم وفّه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا،وبقي الوضع والبؤس السياسي كما هوهو.وإنما اللوم كل اللوم والنقد اللاذع لهذه الحكومةلأنها لم تكن كأي ولاية حكومية سابقة. إنها حكومة جاءت بعد حراك الشارع وغليانه ورغبته الأكيدة في التغيير والعيش بكرامة.ودستور 2011.سنوات عجاف شهدت اصدار مجموعة من القرارات اللاشعبية اللاديمقراطية كلها كانت ضدا على القدرة الشرائية للمعذبين في الأرض والبؤساء، بحيث ازداد الفقير فقرا والغني فحشا في الغناء، الشيء الذي خلق حالة من الترقب والغليان والاستياء الشعبي حتى بات الوضع مأزوما متوعكا على جرف هار، فالتغيير الحقيقي إنما يقاس بالواقع، وبقفة الطبقات الشعبية حينما تتجه نحو التبضع من الأسواق الشعبية لا بالشعارات والمقاربات والأرقام التي تقدمها الحكومة.

فهل فعلا يتعلق الأمر يا ترى بإحراق “البوجادة”، سياسة الاحراق النخب هذه؛التي نهجها المخزن تاريخيا مع مجوعة من الأحزاب وأتت أكلها، هل فعلا نجح المخزن في احراق العدالة والتنمية في أفق عزلها وفصلها عن القاعدة كما فعل مع مجموعة من الأحزاب الاتحادية الشرسة التي كانت تقود المعارضة في حقب معروفة من تاريخنا السياسي، فهل سيعاقب الشعب المغربي كل من كان ضد مصلحته في الانتخابات التشريعية القادمة من خلال صناديق الاقتراع، كآلية دمقراطية لمعاقبة الطبقات السياسية على عدم التزامها بوعودها، ذاك ما ستجيب عنه الأيام القادمة