وجهة نظر

الاستراتيجية: المفهوم والجدوى

يُرجِع الكُتاب أصل كلمة إستراتيجية ” Strategy ” إلى الكلمة اليونانية استراتيجوس” Strategos”، والتي تعني فنون الحرب وإدارة المعارك؛ بينما يعرفها قاموس “المورد” بأنها علم أو فن الحرب وإدارة العمليات العسكرية. ويشير قاموس “أوكسفورد” إلى أن المقصود منها هو الفن المستخدم في تعبئة وتحريك المعدات الحربية، بما يمكن من السيطرة على الموقف والعدو بصورة شاملة. وبالمحصلة، ففي ظل التعقيدات والتطورات الراهنة، فقد تحولت الإستراتيجية من علم إدارة الصراع العسكري إلى إدارة التنافس والصراع الإستراتيجي في جميع مجالاته (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية، والتقنية، والإعلامية،  والعسكرية الأمنية).

وفي سياق التحولات التي شهدها وسيشهدها العالم، والتي تتسنمها العولمة، وتحرير التجارة العالمية، والتغيير الذي طرأ على القوانين واللوائح الدولية التي تتحكم في الاقتصاد الدولي، وظهور الشركات متعددة الجنسيات التي تتميز بقدرة تنافسية هائلة؛ برزت الحاجة إلى تبني مرتكز أساسي في الفكر الإنساني ألا وهو “التخطيط الاستراتيجي”؛ والذي بفضله برز العملاق الأمريكي ودول النمور الأسيوية. فلامشاحة اليوم في ظل هذا التنافس المحموم، وفي إطار مواجهة التحديات الراهنة، من اعتماد “الإدارة الاستراتيجية” و”الفكر الاستراتيجي” – ولنا عودة في مقالات أخرى للتفصيل بخصوص هذه المفاهيم إن شاء الله-.

المفهوم العام للاستراتيجية

إن المتفحص لمفهوم الاستراتيجية كما هو مسطر في مجموع التعريفات التي اعتمدها أغلب كتب الإدارة الإستراتيجية يلاحظ أنها تمت صياغتها لتناسب منظمات الأعمال (الشركات)، أي اعتماد الإدارة الإستراتيجية للمنظمات؛ ولم يلتفت أغلبها إلى الإستراتيجية في حالة “التخطيط الإستراتيجي للدول”، وما يتطلبه  ذلك من مفاهيم متخصصة؛ مثل: مفهوم التخطيط الإستراتيجي السياسي أو الاقتصادي أو الاعلامي أو التعليمي، أوغيرهم.

خلال القرن الماضي كانت الدول تستند إلى  القوانين الخاصة بها، فتحمي اقتصادها وثقافتها وحتى فكرها الوطني، إلا أنه في الزمن الراهن حيث ظهور العولمة وبروز ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، خلق وضعا كان له الكثير من الانعكاس والتأثير على مفهوم الإستراتيجية، ؛فاكتسبت عدة تعريفات.

وبناء وانسجاما مع هذا المعطى الجديد فإن بعض الباحثين اعتبر الإستراتيجية بأنها:” كل الأطروحات والوسائل والأفكار المتناسقة والمتكاملة التي من شأنها تحديد وتحقيق المصالح الوطنية وتحقيق ميزات وقدرات تنافسية من منظور عالمي للدولة ومؤسساتها، تمكنها من تحقيق غاياتها عبر أحسن استغلال للفرص والموارد، وتواجه عبرها المخاطر والتهديدات والعقبات في البيئة المحلية والدولية، ويتم عبرها تحديد الرؤيا والرسالة والغايات الوطنية والأهداف الإستراتيجية للدولة”. ويمكن تعريفها أيضًا بأنها: “قدرة الدولة على امتلاك القوة الإستراتيجية الشاملة وتهيئة الأوضاع المطلوبة لتحقيق وتأمين المصالح الإستراتيجية الوطنية”. وأردف أخرون بالتأكيد على أنها: “قدرة الدولة على تشكيل وصناعة المستقبل وفق الإرادة الوطنية”.

وبالجملة يمكننا القول بأن الاستراتيجية هي قدرة الدولة على امتلاك القوة الإستراتيجية الشاملة التي تتيح لها تشكيل المستقبل وفق الإرادة الوطنية، وتهيئة الأوضاع المطلوبة لتحقيق ذلك.

أهمية الإستراتيجية:

في ظل الصراع الاستراتيجي المحموم، أصبح لزاما على كل دولة امتلاك القوة الاستراتيجية الشاملة حتى تواجه القوى المضادة والمتصارعة، فإغفالها يقود إلى الضعف الداخلي للدولة؛ فالدول القوية تعمل على إغراق وشغل دول أخرى عن السعي نحو القوة باستعمال مجموعة من الأدوات، أهمها الإدارة أي إدارة  الأزمات التي تجعل الدولة لا تفرغ من إخماد أزمة حتى تواجه أزمة أخرى. وفي ظل التحديات الراهنة لابد من استحضار مفهوم القوة لاسناد القضايا الإستراتيجية الأساسية (الأمن القومي، والأمن الإنساني، والأمن البيئي والطاقي ، … إلخ).

ومن أهم مزايا الإستراتيجية أنها تضع الدولة في موضع المبادرة بدلًا عن موطن الاستجابة عند التخطيط لتشكيل المستقبل. إن وجود إستراتيجية قومية مسنودة بفكر إستراتيجي من شأنه تأسيس أوضاع مستقبلية أفضل، إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار تحديات وتعقيدات المستقبل، فضلًا عن تحقيق التناسق والتكامل للنشاط الوطني. وتزيد الحاجة للإستراتيجية كلما زادت درجة التعقيد في البيئة التي يتم التعامل معها. ويرتبط نجاح الإستراتيجية بمدى القدرة على قراءة البيئة ودراستها وتحليلها بهدف صناعة الفرص وتحديد الإمكانات والوسائل، مما يساعد على بلورة الغايات والأهداف الإستراتيجية؛ وبالتالي إعداد الخطط الإستراتيجية استنادا إلى ذلك.

وفي عصرنا الراهن، لابد أن ننوه إلى عامل أخر، وهو أن نجاح الإستراتيجية يعتمد على مدى ارتباط التخطيط بالبيئة الدولية والإقليمية ومدى قدرته على تحديد أهداف إستراتيجية استنادا على هذا الأساس.

أنواع الإستراتيجيات

هناك أنواع عديدة من الإستراتيجيات أهمها:

.1 إستراتيجية المبادرة، وهي تعمل على تحقيق أهداف إستراتيجية قد تقود إلى مواجهة صراع مع آخرين، وهي تأتي عقب إكمال النوع الأول من الإستراتيجيات. ويمكن أن يطلق عليها إستراتيجية القوة العظمى، وهي التي تتيح للدولة امتلاك مستوى متفوق من القوة الإستراتيجية الشاملة التي تمكنها من القيام منفردة أو بمشاركة آخرين على تصميم النظام العالمي وإدارته؛ ويشترط فيها امتلاك القوة الإستراتيجية العسكرية والأمنية بجانب القوى الأخرى.

.2 إستراتيجية المنطقة الوسطى والتي تبلغ فيها الدولة مستوى القوة الكافية للدفاع عن مصالحها الإستراتيجية، إلا أنها لا تضعها في موطن المبادرة على الصعيد العالمي أو الهجوم على الآخرين.

.3 إستراتيجية الدفاع أو التأسيس، وهي إستراتيجية تعمل على بناء القدرات التفاوضية والتنافسية، ولا تسعى إلى المواجهة المباشرة.

مستويات الإستراتيجية

تتوفر الاستراتيجية على ثلاث مستويات رئيسية، وتتميز بالخصوصية والتكامل؛ وهي: أولا؛ المستوى العالمي، ويهتم بوضع إستراتيجيات تتصل بالمصالح الدولية (استراتيجيات الأمم المتحدة بخصوص البيئة والتنمية العمرانية، والتنمية البشرية، ومناخ الاستثمار الدولي، إلخ). وثانيًا؛ المستوى الإقليمي ويهتم بوضع إستراتيجيات تتصل بالمصالح الإقليمية (الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي.. إلخ). وثالثًا؛ مستوى الدولة.

وتتوزع استراتيجية كل دولة إلى:

  1. الإستراتيجية الوطنية أو العامة أو العليا. ويتم فيها تحديد رؤية ورسالة الدولة وغاياتها.
  2. إستراتيجيات القطاعات (السياسية، والاقتصادية البيئية، والاجتماعية الثقافية، والعلمية،

والتقنية، والإعلامية والمعلوماتية، والعسكرية الأمنية).

  1. الاستراتيجية التفصيلية لكل قطاع، ومن خلالها يتم تحديد رؤية ورسالة وغاية كل قطاع وأهدافه الإستراتيجية، والملاحظ أنه أثناء التصميم يتم تنسيق النشاط في القطاع المعين، مثل القطاع الاقتصادي حيث تتم بلورة رؤيا ورسالة القطاع وأهدافه بمراعاة التخصصات الأخرى من زراعة وصناعة وتعدين ومياه.. إلخ، لتأتي خطة هذا القطاع متكاملة ومتناسقة ومترابطة، ومن ثم يتم خلق الترابط مع القطاعات الأخرى بصورة أفضل وأكثر سهولة.
  2. استراتيجيات الإدارات والمؤسسات التابعة للوزارة.

من خلال التقسيمات أعلاه نجد أن الأهداف في المستوى الأخير تسعى إلى تحقيق أهداف في ثلاث اتجاهات، وهي:

  • إنجاز ما يليها من الأهداف الإستراتيجية الوطنية والقطاعية.
  • إنجاز ما يليها لتحقيق أهداف متصلة بتخصصات فرعية أخرى، مثل حاجة إستراتيجية الزراعة

والصناعة إلى أهداف تتصل بالتعليم لتخريج الكوادر المطلوبة للتنمية، ونجد أن هناك اتصالًا بين أهداف العلاقات الخارجية والأمن والمصالح الاقتصادية، وصلة بين الأمن والإعلام والاقتصاد إلخ.

     ج– تحقيق الأهداف التخصصية أو الفرعية المباشرة.

وخلاصة القول؛ إن طبيعة التحدي والطموح المطلوب ومواجهة تعقيدات البيئة، تتطلب استراتيجية تحتاج لزمن طويل، فكلما زاد الطموح كلما زادت التعقيدات المطلوب مواجهتها، وبالتالي يزيد عمر الإستراتيجية.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *