وجهة نظر

طه عبد الرحمن يترك سؤال: لماذا كانت العلمنة ممكنة؟ عالقا!

إن توصيف طه عبد الرحمن لمآلات الحداثة الكارثية والمتعلقة بتخطي الحدود ومحو الحدود لا غبار عليه، بل حتى الحل الائتماني المقترح، له من عناصر القوة التي تجعله منافسا جيدا في سوق النظر العالمي، لكن اختلافي معه الدائم يتجلى في نقطة جوهرية نصيغها في السؤال الآتي: هل طريق الحداثة اختيار؟ هل سبيل التكشف وهتك الحجب كان بقرار من الإنسان؟ هل الأمر مجرد نزوة واتباع للهوى فقط؟

طبعا يلقي طه باللائمة على العلمنة أو ما يسميه الدنيانية، ويدعو إلى ضرورة استئصالها، فهي سبب ويلات الإنسان المعاصر الغارق في السوأة الكبرى المتمثلة في التملك، لكن السؤال العالق: من جعل العلمنة ممكنة؟ هنا نجد عنده فراغا في الجواب!

كمخرج لهذه المعضلة، أبرزنا في أكثر من مناسبة أن سبب ذيوع العلمنة الحقيقي هو انتشار أسلوب العالم في قطاعات الحياة جميعها، فالعالم بدء من القرن 17م كان هو المرء الذي علم البشرية “دروب الدهرانية”، وبلغة أخف شحنة نقول علمه ” دروب “المحايثة”، لذلك نلح من جانبنا على أن المعركة ليست مع العلمنة وليست مع التعاقد الاجتماعي ولا مع الدولة الحديثة ولا الرأسمالية … فهي مجرد نتائج وليست سببا، بل المعركة كل المعركة مع العلم الذي احتلت رؤيته المركز وأصبح “برادايم” ورؤية للعالم شاملة تكون إليها الرجعى.

وكرد واضح على وصف طه عبد الرحمن للحداثة بأنها لم تحفظ الحدود ، أجيب بأن السبب النظري الرئيسي الذي سمح بذلك هو “مبدأ القصور الذاتي” أو مبدأ العطالة الفيزيائي الشهير الذي تبلور في القرن السابع عشر ، هذا المبدأ جعل المادة فاقدة للحرية وليست فاعلة قط، فالفيزياء الميكانيكية كانت هي المحرك الاضطراري نحو افراغ العالم من سحره و فاعليته، هذه الفاعلية  تم تحويلها صوب الإنسان الذي تملك بيده زمام الأمر ليصبح السيد، فالإنسان فهم أنه بإمكانه استنطاق الطبيعة وإرغامها على نثر الأرقام من باطنها، لتصبح شفافة، وهو ما سهل التحكم فيها وتوجيهها الوجهات المطلوبة، لكن الأمر بعد ذلك تجاوز حده ليصبح استباحة، بضرر جسيم،  نسميه الأزمة البيئية أو الهدر الطبيعي… إذا، فهم المآل السيء للحداثة لن يتأتى إلا بالعودة إلى جذوره الحقيقية، ومن بعدها يكون الحل المقترح  مجديا ومبنيا بناء صحيحا. فالحداثة أرغم عليها الإنسان ارغاما، فهي قرار نظري، منظومي … قبل أن يكون سياسيا أو اقتصاديا…

أما عن الشق الثاني من التوصيف الطهائي والمتعلق بأن الحداثة تجاوزت تخطي الحدود نحو محو الحدود ومن تم سحق مراتبه، فهنا أقول مرة أخرى أن الأمر ليس اختيارا أيضا، بل هو استجابة عميقة لمقدمات نظرية بدأت رحاها في القرن السادس عشر،  إذ على إثر الزلزال الفلكي الكوبيرنيكي أصبح التراتب في خبر كان، فالأرض السافلة الرذلة صعدت السماء الكاملة مما قدم جوازا نظريا صلبا ومغريا لضرب كل التراتبات الممكنة، فثقافة ما بعد الانسان التي تريد إزالة الحجب الدقيقة،التي تغير ملمح الطبيعة وتأخذها في مسار اصطناعي بالكامل هو تتويج  فقط، أما مسألة الدمج بين مراتب الوجود فقد بدأت مع صعود الأرض الى السماءـ ولنتذكر اسبينوزا وهو يدمج الطبيعة بالله، وكذلك داروين وهو يدمج الإنسان بالحيوان، ناهيك عن دمج المرأة بالرجل، فالمساواة أو لنقل “التوحيد المحايث” بين المراتب والتي تصل الآن إلى مبلغ خطير  جدا هو عمل خاضع للبرادايم اللاتراتبي الكوبيرنيكي. فمرة أخرى وكما يبدو، ليس هناك اختيار، فالقيادة ليست فقط للسياسة والاقتصاد …فهذه مجرد أجزاء تشتغل في ظل مظلة نظرية كبرى نسميها الحداثة، إنها المحرك الواعي واللاوعي في الغالب لمسار البشرية. فهل ستنهار هذه المنظومة؟ ممكن جدا، إذا استفحلت أزماتها وشذوذاتها، وكثرت مكذباتها… لكن ما نراه يوميا هو أن العلم لازال يشتغل وبقوة ويحل معضلات كبيرة، مما يجعل الحداثة لاتزال صامدة ولم تصل بعد احتضارها. فالحداثة بالمحصلة هي كما نحددها: الرؤية العلمية موجهة في كل المناحي.

أعتقد أنه آن الأوان للخروج من فكرة أن الحداثة اختيار، والقطع مع هذه الفكرة، كما آن الآوان للسير في أفق يكرس كونية الحداثة لا خصوصيتها، النابعة من كونية العلم نفسه وبدلا من ذلك وجب التأكيد على أن الحداثة انبثقت كرؤية مركزية لمعالجة معضلات فلكية وفيزيائية بدأت تقنية أولا، لتأخذ ثانيا طابعا ميتافيزيقيا مربكا ومحرجا لكل العالم وليس للغرب فقط. فطريق العلمنة وطريق التعاقد الاجتماعي الذي تخلى عن المواثيق الربانية كان بقوة المتغير العلمي الصادم، لذلك معالجة الآثار السلبية الناجمة عن رؤية العلم التكشفية لن تفلح إلا بالنظر إلى العلم في حد ذاته، وهو لازال بقوة أسلوبه يشتغل خارج منطق الخير والشر ويعزل نفسه عن الغيبي مكتفيا بتكوين العالم فقط. فهل ستفلح الأطروحة الغائية اليوناسية “نسبة ليوناس هانس” الذي حاول تنشيط مبدأ المسؤولية الإنسانية من جديد وهو يستلهم االتراث اليهودي والأطروحة الملكوتية ” الائتمانية”الطهائية التي تستلهم التراث الإسلامي في إخراج العلم عن أساساته، علما أن هذه الأساسات تضمن له الوضوح والمردودية والنجاعة، فهل يتنازل العلم ويضع لنفسه قيودا لصالح الآيات؟ 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • Philosophie
    منذ 3 أشهر

    نشكر الدكتور محسن على قراءته النقدية المسائلة للفكر الطهائي فهو يترك بالفعل أسئلة كثيرة في ذهن القارئ تحتاج لتعميق النظر والفهم