الأبواب المفتوحة للمديرية العامة للأمن الوطني المغربي:

إن التسارع المطرد الذي بات يطبع وتيرة التحولات المجتمعية، سواء على الصعيد المحلي أو العالمي، وما يستتبعه من دينامية متقدمة ونمو متواصل، أضحى يستلزم قدرا متزايدا من الشفافية والوضوح في بنية المؤسسات الوطنية. ذلك أن هذه التحولات الجوهرية قد أرست ملامح واقع جديد أصبح فيه الوجود الفاعل واليقظ للأجهزة الأمنية يمثل ضرورة موضوعية لا محيد عنها، ليس من خلال تمظهرها التقليدي فحسب، بل عبر تبنيها لآليات تواصلية تعكس انفتاحها التدريجي على المجال العمومي. وقد أفضى هذا الانتقال إلى العمل على تكريس منطق جديد يجعل من المؤسسة الأمنية فاعلا مؤسساتيا متمسكا، بالارتقاء إلى مستويات غير مسبوقة من الفعالية والنجاعة، بما يستجيب لمتطلبات التغيرات الاجتماعية، ويواكب انتظارات الفاعلين المدنيين. وفي خضم هذا التحول، لم تعد تلك الأجهزة بمنأى عن ضرورة تجديد تعاقدها الرمزي والشرعي مع المجتمع، بما يعزز مشروعيتها المستمدة من الرضا الشعبي، ويعيد تأهيل صورتها ضمن الفضاء العمومي باعتبارها مؤسسة ضامنة للأمن في إطار احترام الحقوق والحريات، وتجاوز الصور النمطية التي طالما أحاطت بها في مراحل زمنية قد مضت.
وفي هذا التوجه المستدام، تتبلور تظاهرة “الأبواب المفتوحة” التي تنظمها المديرية العامة للأمن الوطني، ليس بوصفها واقعة زمنية وظرفية، بل باعتبارها ترجمة عملية حديثة لعقيدة أمنية متطورة، تنزع نحو مقاربة تواصلية و تفاعلية واضحة، أساسها ادماج المواطنين في إدراك وفهم المعنى الموسع و الدقيق للأمن، و العمل على تفكيك القيود البنيوية التي كانت تنشئ نوعا من القطيعة بين المؤسسة الأمنية والمجتمع.
هذا المشروع، الذي يدخل دورته السادسة والمزمع تنظيمه بمدينة الجديدة تزامنا مع الذكرى التاسعة والستين لتأسيس الأمن الوطني، يجسد تعبيرا مؤسسيا واضحا عن خيار الانفتاح والتواصل مع محيطه المجتمعي، ويعكس إدراكا مبكرا وواعيا لأهمية بناء أمن مواطناتي متقدم، يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس صلبة من الثقة، والمساءلة، والتعاون المجتمعي المسؤول.كما أن هذه المبادرة تندرج ضمن دينامية استراتيجية أشمل واعمق تشهدها المؤسسة الأمنية المغربية، و تعطي بذلك إشارات دالة تستدعي التوقف عندها بالتأمل والتحليل، سواء من حيث خلفياتها النظرية، أو من خلال مقارنتها بتجارب أمنية موازية، أو بالنظر إلى ما تنتجه من آثار ملموسة على مستوى التمثلات الاجتماعية والثقافية للمواطنين تجاه المؤسسة الشرطية.
و كما اوردنا سالفا على أن”الأبواب المفتوحة”، في نسختها المغربية، لا تنحصر في كونها مجرد تمظهر تواصلي أو واجهة إعلامية عرضية، بل هي ممارسة مؤسسية دالة على التحول العميق الذي تشهده بنية الأجهزة الأمنية، من النموذج السلطوي القائم على أحادية القرار واحتكار المعرفة، إلى نموذج تشاركي منفتح على المواطن كفاعل وشريك وليس فقط كموضوع للضبط.
هذه التظاهرة التي أصبحت تقليدا سنويا يحمل بين ثناياه طابعا استراتيجيا، يعمل على إعادة تأسيس المشهد الأمني وفق اسلوب يبعث على الثقة، ويعزز الشفافية، ويؤسس لنمط جديد من المشروعية الأمنية المرتكزة على ما يصطلح عليه في الأدبيات السياسية بـ”الشرعية التفاعلية”، تلك التي تنبع من الاعتراف المتبادل، لا من الإذعان القسري.
وبالنظر إلى التركيب النظري الذي يشمل هذا التحول، نجد على أن الدراسات المعاصرة في سوسيولوجيا العمل الشرطي والحوكمة الأمنية، قد أسست لمفاهيم تتقاطع موضوعيا مع ما تسعى إليه المديرية العامة للأمن الوطني من خلال هذه التظاهرة. ونجد في مقدمة هذه القواعد و المفاهيم ما يصطلح عليه بمبدأ “الشرعية الإجرائية”، و الذي يعد بمثابة الدعامة الثانية من دعائم الشرعية الجنائية، إذ يلتقي في جوهره مع سائر مرتكزات هذه الأخيرة في تأكيد تام لمبدأ سلطان القانون، بحيث لا يتصور المساس بحرية الأفراد أو انتهاك حقوقهم الأساسية إلا بموجب نص قانوني صريح. وعليه، فإن أي إجراء يتخذ في مواجهة المتهم، أو أي وسيلة من وسائل المحاكمة، ينبغي أن يستند إلى نصوص قانونية، فلا يسمح باتخاذ تدبير إجرائي لم يرد به نص تشريعي صريح، ضمانا لعدم الانحراف عن مقتضيات المحاكمة العادلة وصونا لمبدأ الشرعية في بعده الإجرائي.
و هو التصور ذاته الذي جرت الإشارة إليه في الجلسة الافتتاحية لندوة “الأبواب المفتوحة للأمن الوطني” في دورتها الخامسة
بمدينة أكادير السنة الماضية، اذ شكلت المناسبة بنية تأسيسة قوية لإبراز توجه المديرية العامة للأمن الوطني في تكريس ثقافة أمنية جديدة، قوامها احترام الحقوق والحريات وتثبيت قيم المسؤولية القانونية والأخلاقية في الأداء الشرطي. كما تميزت الجلسة بخطاب رسمي يعيد تأويل وظيفة الجهاز الأمني في ضوء المبادئ الدستورية والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ما يعكس تحولا في تمثل الوظيفة الأمنية لذاتها، من مجرد سلطة الضبط إلى شريك في بناء الأمن المجتمعي.
هذا التحول يتيح فرصة نموذجية لفهم العوامل الأساسية التي أدت إلى إعادة هيكلة العلاقة بين المواطنين والأجهزة الأمنية، بحيث أن هذه العلاقة لم تعد تقتصر على الشعور بالخوف من العقاب أو الخضوع لسلطة الدولة في سياق تقليدي، بل شهدت تحولا عميقا في طبيعة هذه الصلة. فقد أصبح المواطن اليوم يدرك جيدا على أن المؤسسة الأمنية قد تجاوزت الدور الكلاسيكي القائم على القوة والتهديد، و اعتمدت بدل ذلك ممارسات أكثر نزاهة، تعكس التزاما قويا بالمبادئ العالمية لحقوق الإنسان واحترام كرامة الأفراد. هذا التطور الجذري في النهج الأمني يتجلى في تمسك الدولة بمفهوم الشفافية والمساءلة، وتقديم الضمانات التي تضمن عدم إساءة استعمال السلطة، مما يعزز من الثقة بين المواطن والجهات الأمنية. كما أن هذا التغيير الإيجابي لا يعكس مجرد تغيرات في السياسة الأمنية، بل يعبر أيضا عن التحول الذي وقع في الوعي الاجتماعي والسياسي لدى المواطنين، والذين أصبحوا ينظرون في المؤسسة الأمنية شريكا حقيقيا في بناء مجتمع يعزز من العدالة ويحترم الحقوق الفردية.
وعلى صعيد اخر، من الممكن أن نقوم بالنظر إلى إختيار مدينة الجديدة ليس باعتبارها بنية محتضنة للنسخة السادسة من “الأبواب المفتوحة” فقط، بل شكلا من أشكال توزيع الثروات المعنوية والمعلوماتية على المستوى الترابي للمملكة. فهي تقرب المواطنين من المؤسسة الأمنية، وتتيح لهم المعرفة بمهامها، مما يساهم في نشر الرأسمال المعرفي. كما أنها تمنح للجهات المحتضنة حضورا رمزيا وإعلاميا، يشدد على الاعتراف بها ويؤسس نوعا من العدالة المجالية في بعدها المعنوي، وتعمل على تحقيق التوازن بين المستويات، والسلطات و تدعم المنطق اللامركزي في توزيع الفعل الأمني حتى في حمولته الدلالية و القيمية، ما يعزز الإدراك بسعي المديرية العامة للأمن الوطني في استهداف جهات متعددة من المملكة، ترسيخا لعدالة مجالية في التواصل المؤسسي، وتعزيزا لإدماج الهامش في صيرورة الاندماج الوطني الشامل.
و هي بذلك تؤصل فهما جديدا للمجال، لا بوصفه حيزا جغرافيا فحسب، بل فضاءا اجتماعيا للانتماء والتفاعل وإعادة إنتاج الثقة.
وبناءا على المقارنة، يمكننا الوقوف على عدد من التجارب الدولية التي سلكت نفس الاستراتيجية، والتي تسمح بإبراز خصوصية النموذج المغربي. ففي دولة كندا مثلا، تعتمد الشرطة الفيدرالية ما يسمى بمبادرات “الشرطة المجتمعية”، وهي مقاربة تجعل من رجال الشرطة طرفا فاعلا داخل النسيج المحلي، لا غرباء عنه، حيث تنظم لقاءات دورية مفتوحة، وورشات مدرسية، وزيارات للمقرات الأمنية، كل ذلك من أجل بناء علاقات تعاونية تسهم في الكشف المبكر عن مصادر التهديد، وتقوي الإحساس الجمعي بالمسؤولية الأمنية المشتركة. أما في اليابان، فالنموذج مختلف من حيث الأسس الثقافية، لكنه يلتقي في الجوهر ذاته، حيث تنتشر “مراكز الشرطة المجتمعية”، التي تمارس الأمن بوصفه خدمة عمومية يومية، تتجاوز منطق الردع إلى منطق القرب والمواكبة والإنصات، ما ينتج تواصلا دائما بين الشرطة وسكان الحي، ويؤسس لعلاقة أفقية، لا عامودية، بين الطرفين.
ومن منظور مغاير، يتعين التأكيد على أن “الأبواب المفتوحة” لا تعتبر مجرد إطار تعرض من خلاله الوسائل اللوجستيكية والتقنية التي باتت توظفها المؤسسة الأمنية فقط، وإنما هي رغبة واضحة في بناء خطاب أمني جديد، يناهض الصور النمطية التي تختزل فيها وظيفة الشرطة في الردع والعنف المشروع، وتعيد تموقعها ضمن سيرورة الدولة الاجتماعية، من خلال إبراز أدوارها التربوية، التوعوية، والتواصلية. وفي هذا الصدد، تصبح هذه التظاهرة مناسبة لإعادة إنتاج المعنى الاجتماعي للمؤسسة الأمنية، كجهاز في خدمة المواطن، لا كسلطة مفروضة عليه.
ولعل القيمة المضافة في النسخة السادسة، المرتقبة تنظيمها بالتزامن مع الذكرى التاسعة والستين لتأسيس الأمن الوطني، تكمن في تقاطعها مع مسار طويل من التراكمات التي شهدتها المؤسسة الأمنية المغربية في مجالات الرقمنة، وإحترام الحريات، والانفتاح على المحيط الدولي. فالمؤسسة الأمنية راكمت خلال العقدين الأخيرين إشادات دولية بشأن مساهماتها في مكافحة الإرهاب، والهجرة غير النظامية، والجريمة المنظمة، و اليوم هي تسعى إلى نقل هذه الريادة نحو المجال الدلالي والاتصالي، بما يعكس نضجا مؤسساتيا يؤمن بأن الفعالية لا تتناقض والشرعية، وأن الأمن الحقيقي لا يتحقق إلا في حضن ثقة مجتمعية واسعة. وان الفعل الأمني، حين يخرج من عباءة السرية والانغلاق، ويتحول إلى ممارسة شفافة قابلة للنقد والتقويم، و يصبح أكثر قابلية للاستيعاب من طرف المواطن، وأكثر قدرة على مقاومة حملات التشكيك أو التبخيس. وفي هذا الشأن، كان لا بد من التذكير بأن تظاهرة “الأبواب المفتوحة” قد نجحت، في نسخها السابقة، وذلك باستقطاب عدد كبير من الزوار، وهو الشئ الذي لا يقرأ فقط بوصفه مؤشرا على النجاح التنظيمي، بل أيضا كعلامة على تعطش المجتمع لفهم ما يجري داخل المؤسسة الأمنية، وعلى رغبة دفينة في تطبيع العلاقة معها على قاعدة الحوار والاعتراف المتبادل.
ختاما، يمكن اعتبار “الأبواب المفتوحة” واحدة من أهم المبادرات التي تعيد توليف الحقل الأمني على أسس جديدة قوامها المواطنة، والانفتاح، والنجاعة، والتواصل. فهي ليست مجرد احتفال بالإنجازات فحسب، بل تمرينا مؤسساتيا على الانفتاح، و الاقتراب من المواطن، بل والإنصات إليه. وفي أفق تحولات سوسيولوجية عميقة تعرفها المجتمعات المعاصرة، فإن هذا النوع من المبادرات يكون شرطا ضروريا لبناء أمن مستدام، لا يقام بالقوة وحدها، بل بالثقة، والاعتراف، والمشاركة الواعية و البناءة.
اترك تعليقاً