الجامعة.. مفهوما ووظيفة وأدوارا

بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة:
يقَعُ على عاتق الجامعة رهانُ إدارة وإنتاج المعرفة بما يناسِب بِـيئَة الجامعة، خاصةً وأنَّها تُعْتَبَرُ أضخَم حقلٍ يمكن استثماره في عصْر اقتصاد المعرفة، واقتصاديات الثقافة، بما لديها مِن برامج لتعليم العنصر البشري وتسليحه بالمهارات الضَّرورية لتحقيق التطوّر المستمر في مختلِف الميادين.
- عن الجامعة؛ مفاهيم وتعريفات:
اشتُقَّت (الجامعة) لُغَوياً مِن كلمة الجَمْع، والاجتماع، والجامع، ففيها يجتمع النّاس لطلب العلم ونشره.
ونظراً لتعدّد التعاريف التي تُعطى لـمُفردة الجامعة؛ فسنعمَد إلى مُقاربة إدْماجية تُركِّبُ بشكل عام ما تناثَر وتناسَل مِن تعاريف اصطلاحية وإدارية وعلمية وسياسية للجامعة.
فالجامعة قبل كلِّ شيء؛ مؤسَّسَة للتّعليم العالي والأبحاث العلمية، تَضمُّ لفيفاً مِن الطلبة والباحثين والأساتذة الأساسيين والمؤهّلينَ والأساتذة الزّائرين والعَرَضيّين والخبراء، والأطُر الإدارية. ويَقوم التّعليم فيها على نِظام مُعيَّن ومُتعارَف عليه، يُقنِّنه قانون ومراسيم ومذكّرات وزارية، كما أنّها تَمنح الشّواهد لخـرِّيجيها وتتأثِّر وتُؤثِّر في المحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي والعِلمي، بدرجاتٍ متفاوتة مِن جامعة إلى أخرى. يُقسّم الدكتور حفيظ بوطالب جوطي _ الرئيس الأسبق لجامعة محمد الخامس بالرباط _ الجامعات إلى ثلاث: جامعات الدّرجة العالمية، جامعات الدّرجة الجهوية، جامعات الدّرجة المحلية. وذلك بناء على قياس: الامتياز الأكاديمي، والإنتاجية العلمية، والسُّمعة الدولية. مع الأخذ بعين الاعتبار العوامل الأخرى، وأساساً درجة الاستجابة للمتطلّبات المحلية – إدماج الخرّيجين – حجم تعاقدات البحث العلمي – عائدات براءات الاختراع وغيرها.
فيما يُعَرِّف الأستاذ محمد وجيه الصّاوي الجامعةَ بأنّها اتّجاهٌ عام للأساتذة والطّلاب، يَستهدف بشكلٍ أساس توفير الأمن والاستقرار، وتحقيق الاستقلال لهؤلاء الأساتذة والطلاب مِن أجْل متابعة دراساتهم العالية بحرية ودون صعوبة أو مُعوِّق أو إزعاج.
فالجامعة هي تلك المؤسّسة الأكاديمية التَّعليمية المعنية بشؤون العلم والمعرفة والابتكار وسبُلها المنهجية، وهي ميدانُ التّدريب على صناعة المعرفة، وهو المفهوم الموافِق لرسالة الجامعة الحضارية. ولا يستقيم فَهم (مفهوم الجامعة) دونما الوعي بطبيعة اختصاصاتها وأدوارها ورسالتها ومهّامها؛ فهْيَ تُعرَّف من خلال هاته العناصر.
- الوظيفة المعرفية.. ماهية الوجود الجامعي:
لا توجَد الجامعة خارج النَّسيج الاجتماعي لِحقبة ما، بل هي في داخله، مِثلها مثل المؤسّسات الأخرى كالكنيسة أو الحكومات أو المنظّمات الخيرية، وما الجامعة إلّا تعبير عن العصر، وعامل مؤثِّر في الحاضر والمستقبل. لذا فقد أوْجَدَتها الشّعوب لتُقَدِّم الخدمات العلمية والذّهنية للجماعات المتنامية سريعا، ولتُؤسّس علاقاتٍ بأفُقٍ فاعلٍ بينها وبين محيطها، كونها إحدى التّنظيمات الاجتماعية _ وِفْق المقاربة الكلاسيكية لعلوم التربية _ التي تُسهم في عملية تنمية المجتمع بصفة عامّة، وتَحقيق الاكتفاء المعرفي والعلمي لجِيلها، وإنْ كانت في العُمق هي أكبر مِن الجيل الذي نَشأت فيه.
إلّا أنّ أهمّ ما يُعطي لمفهوم الجامعة مضمونَه الاصطلاحي القوي والحقيقي، اهتمام الجامعة بوجه خاص بالعلم والمعرفة تحصيلاً وتوصيلاً ونَشراً وتطويراً وتطبيقاً وخدمةً للمجتمع والدّولة.
تهتمُّ الجامعة أكثر بــ “الإندراغوجيا” مِن حيث هي تعليم الكبار مِن المتعلِّمين المتخرِّجين من المراحل القاعدية، وهُم على قدْر كبير من النّضج المعرفي، والذين يَأملون في الحصول على شهادة خبرة في حقل مِن حقول المعرفة المرتبطة بدورها بحقل مهني معيّن، توفِّره كلية من كليات الجامعة في اختصاص من اختصاصاتها الدقيقة أو الإنسانية أو الشرعية أو الاقتصادية أو الحقوقية، حيث تتمحور معارفها أكثر على ما يلبّي الحاجات الاجتماعية والمهنية للطّالب. وتخاطب بيداغوجياتها الوعيَ والعقل الناضج، أكثر من مخاطبتها للنّمو، وتهتم معارفها العلمية بما يكون ذا قيمة نفعية ومعنى في حياة الطّالب، الأمر الذي يجعل مِن الجامعة مؤسَّسة تشتغل بالمعرفة العلمية في بُعدين أساسيي: البُعد التّدريسي البيداغوجي، والبعد البحثي.
فإنتاج البحث العلمي هو “البداية الضّرورية للتّعليم العالي لأنّه يسبقه في الزّمن”، ولو لم يَكن كذلك لما تَبَوَّأَ سُلّمَ تنقيطِ ترتيبِ الجامعات العالمية والجهوية والمحلية، رغم أنّ هذه الأخيرة يُؤاخَذ عليها ضُعْفُها في إعطاء مكانة لائقة للبحث العلمي بكلياتها ومؤسّساتها التعليمية، بله؛ إنتاج البحث العلمي، رغم المحاولات المبذولة في هذا الاتّجاه.
جاء في “تقرير المعرفة العربي” الذي ركَّز على جانب كبير منه على نُظُم التّعليم العالي في المنطقة العربية؛ أنّ الجامعات العربية تُعاني طُرُقَ تدريس غير ملائمة، كما تعاني فَقْراً شديداً في سياسات البحث العلمي، ومُقرّرات أكاديمية لم يُحدَّث مُعظَمها، ولا تواكِب متطلّبات المعرفة، ويقتصر دورها _ نَظراً لتراجع جودة الدّرس المعرفي _ في توفير الحدّ الأدنى مِن المعرفة التي تُؤهِّل الطلّاب مِن الحُصول على الشواهد والوظائف العمومية، مما يُدَنِّيها لموقع ودَور (الوسيط)، لا دور النّاهِض بالإنسان والمعارف والأوطان.
ختاما:
إنّ مهام الجامعة وِفق التّعريفات المُعطاةِ لها حاليا لم تَعُد تقْتَصِر على التّعليم والتكوين ذي الجودة العالية والبحث العلمي ذي المستوى الرّفيع الذي يُساهم في إثراء المعرفة الإنسانية؛ بل تتعدّاها لتَشمل المساهمة المباشِرة في النّمُوّ الاقتصادي والاجتماعي، أيْ بِشكل آخر؛ لَعِب دور قاطرة التّنمية. فمؤسّسات التّعليم العالي فاعلٌ رئيسٌ لا غنى عنه في إنتاج المعرفة ونشرها مِن خلال التّدريس والبحث العلمي والتّطوير والابتكار والجدية والإبداع، وهذه الرُّزمة مِن الوظائف والمهام الحيوية بدورها تَلعب الدّورَ الفاعلَ في مختلف التحوّلات العالمية، و”تُغذِّي بُطرُق متعدّدة القوى المحرِّكة للتّحولّات المؤدّية إلى مجتمع المعرفة”. مَعرفـةٍ تُـوجِّه الفّعّالية العِلمية والبَحثية والتّقنية إلى الإنصات لمقوّمات وخصُوصيات كل بلد وحضارته وشَعبه وتاريخه وقيمه وأخلاقه، معرِفةً موصولة بمنظومة القيَم التي تَقيها ومُنتجيها ومُستَفيديها من الوقوع في براثِن الفساد الإداري والعلمي والمهني.
الصويرة بتاريخ 16 ماي 2025
* عدنان بن صالح: باحث في سلك الدكتوراه، مختبر: “شمال المغرب وعلاقته بحضارات الحوض المتوسّطي” – كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطو
اترك تعليقاً