من مغرب بسرعتين إلى مغرب العدالة المجالية والاجتماعية: نداء ملكي يستنهض الضمير السياسي

إن الخطاب الذي ألقاه جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لاعتلائه عرش المملكة في 29 يوليوز 2025، يدشن لحظة سياسية قوية عنوانها المسؤولية. مسؤولية الحكومة القريبة و لايتها من الانتهاء و مسؤولية الأحزاب السياسية التي ستتبارى على حكامة الوطن في الانتخابات التشريعية المفبلة، ومسؤولية المواطنات والمواطنين في الاختيار الموفق لمن بمثلهم لكسب رهان مغرب أكثر انسجامًا، وعدلاً، وإنصافًا.
لقد رسم جلالة الملك بوضوح خارطة طريق للقطع مع مغرب بسرعتين، وإعادة بناء و احقاق التنمية الاجتماعية والمجالية على أسس جديدة.
وبصفتي امرأة سياسية تنتمي إلى حزب ناضل مند ما يزيد عن نصف قرن من أجل التنوع السياسي والثقافي وإقرار العدالة الاجتماعية والمجالية، لا سيما في المناطق الجبلية، أقرأ هذا الخطاب كدعوة مباشرة إلى إعادة تجديد التعاقد السياسي و الاجتماعي و إعادة الاعتبار لعمل القرب والإصغاء إلى حاجيات المواطنات والمواطنين وجعل النساء في قلب هذا التحول كفاعلات أساسيات في التغيير.
لقد شجب الملك، بصراحة، واقع “المغرب بسرعتين”، حيث تتركز الثروات والفرص والبنيات التحتية في بعض الاقطاب و المراكز الحضرية على حساب هوامش قروية أو جبلية أو شبه حضرية. وهذه الفجوة ليست اقتصادية فقط، بل مجالية، واجتماعية، وثقافية، ومجحفة في حق النساء خاصة القرويات، اللواتي يدفعن غاليا ثمن هذا اللاعدل: من غياب الخدمات الصحية، وبعد المؤسسات التعليمية، و صعوبة الوصول الى الماء والتهميش الاقتصادي، وضعف التمثيلية السياسية المحلية.
ان الخطاب الملكي السامي يتوجه في نظري الى هاته الفئة من النساء حين يدعو إلى تنمية اجتماعية مندمجة تُعيد للمواطن حقه في التنقل، و التعلم والكرامة، والمستقبل.
ولعل من أبرز ما ورد في الخطاب الملكي هي الدعوة:
الى تبني مفهوم جديد للتنمية الاجتماعية، لا يقتصر فقط على تقديم المساعدات للفئات الهشة، بل يهدف إلى بناء مشروع مجتمعي مهيكل وعادل.
هذا التعريف الجديد يتجاوز منطق الإحسان نحو اقتصاد للإدماج، والكرامة، والاستدامة. ويتطلب سياسات عمومية مندمجة: في الصحة، والتعليم، والتشغيل و الولوج للسكن اللائق.
ان مضامين الخطاب الملكي تعيد الاعتبار لادوار الدولة الاجتماعية وتقطع مع منطق الليبرالية المتوحشة ، الدولة التي تحمي، وتنظّم، وتوجّه في إطار مرجعية ومنظومة تشكل فيها العدالة المجالية رافعة للتماسك الوطني والتنمية الاجتماعية خيارا مهيكلا و ليس احراء مناسباتيا..
وعلى بعد اقل من سنة من موعد الانتخابات التشريعية المقبلة، يشكل هدا الخطاب الملكي في نظري اختبارا للأحزاب السياسبة فهو يحدد معالم تعاقد وطني جديد، ويدعو الفاعلين السياسيين إلى إعادة النظر في الفعل السياسي بناءً على استحضار الواقع الميداني، و بلورة استراتيجيات قابلة للتنفيذ لتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، وتجديد النخب، لاسيما من خلال تعزيز ولوج النساء إلى مراكز المسؤولية الانتخابية والتنفيذية.
اذ لم يعد مقبولا اليوم من الفاعلين السياسيين الاستمرار في تسويق الشعارات و الوعود الانتخابية الكادبة،بل أصبح محتم عليهم اكثر من اي وقت مضى إنتاج تصورات و مشاريع ترابية، مدققة، و قابلة للتنفيذ و مستجيبة لانتظارات و تطلعات المواطن..
ويتطلب تنزيل هذه الرؤية الجديدة وتجسيد هذا المشروع المجتمعي المتجدد، افراز نخبة سياسية جديدة: كفؤة، نزيهة، قادرة على صناعة التغيير وغير متورطة في صفقات الريع و تبديد المال العام و استغلال النفوذ و شراء الدمم التي عرقلت عملية التنمية و رسخت أزمة ثقة المواطن في الموسسات.
إن المرحلة المقبلة، كما رسم ملامحها الخطاب الملكي، لن تقبل بوجوه سياسية استنفدت صلاحيتها بل تتطلب تعبئة طاقات وكفاءات وطنية من داخل المغرب و بين أبناء الجالية المغربية بالخارج قادرة على الإصغاء والاقتراح و صناعة للتغيير، وتحويل رؤية جلالة الملك إلى برامج فعلية تخدم المواطن المغربي، أينما كان، وخصوصًا المرأة في البوادي والمناطق المهمشة.
وما أحوجنا اليوم إلى نخبة سياسية قادرة على استعادة ثقة المواطنات والمواطنين في العمل السياسي، في وقت تعيش فيه البلاد أزمة ثقة عميقة بين الفاعل السياسي والمجتمع. ان ترميم هذه الثقة المفقودة أو المتآكلة، تشكل الشرط الأول والأساسي لتعبئة جماعية وطنية حول المشروع الملكي الجديد، وتحويله من رؤية سامية إلى فعل جماعي ملموس، ينبني على الالتزام والمشاركة والمسؤولية.
وقد ذكّر جلالة الملك أيضًا بأهمية وحدة المغرب العربي، في سياق دولي يشهد توترات وتصدعات. هذا التذكير ليس مجرد موقف دبلوماسي، بل هو نظرة استشرافية. فالاتحاد المغاربي يجب أن ينطلق من توحيد الشعوب حول قيم مشتركة، ومشاريع اقتصادية تضامنية، وسياسات اجتماعية تحترم كرامة الإنسان. والنساء المغاربيات، اللواتي غالبًا ما يتم تهميشهن في مسارات التكامل الإقليمي، يجب أن يكنّ في طليعة هذه الوحدة، عبر الثقافة، والتعليم، والمبادرات الاقتصادية، والدبلوماسية الموازية.
إن خطاب العرش هذا لا يخاطبنا كمواطنات فحسب، بل يلزمنا كنساء سياسيات، ويحمّلنا المسؤولية كمُنتخبات، وفاعلات، ومناضلات، ويمنحنا الشرعية لنقترح بدائل طموحة، متجذرة ومتضامنة.
نحن، في منظمة النساء الحركيات، لا نقرأ هذا الخطاب كمجرد مبادرة توجيهية ا بل نعتبره نداء ملكيًا من أجل تعبئة وطنية واسعة، ونحن عازمات، بكل مسؤولية، على الانخراط الفعلي والميداني في تنزيل هذه الرؤية، من خلال الذهاب نحو المواطنات والمواطنين، والاستماع لانشغالاتهم، والعمل على إعادة بناء جسور الثقة بينهم وبين الفاعل السياسي، وتعبئتهم مجددًا حول مشروع مجتمعي جديد، وحول ميثاق اجتماعي منصف رسم جلالة الملك معالمه الكبرى بدقة وشجاعة.
نحن، نساء الحركة الشعبية، سنحمل هذه الرؤية الملكية في مجالاتنا، وفي خطاباتنا، وفي أفعالنا. وندعو جميع الأحزاب إلى الارتقاء إلى مستوى هذا النداء، لأن مستقبل المغرب لا يحتمل مزيدًا من التأجيل
تعليقات الزوار
تحليل رائع. شكرا للسيدة خديجة الكور.