السلفية الجهادية في المغرب: خلايا عابرة أم تنظيم مهيكل؟
دراسة تحليلية في البنية الفكرية والتنظيمية

يثير الحديث عن “السلفية الجهادية” في المغرب الكثير من الجدل، خصوصًا مع الاعتقاد السائد لدى البعض بوجود تنظيمات سلفية جهادية راسخة ومهيكلة على شاكلة تنظيمات مصر أو ليبيا أو الجزائر. غير أن هذا الاعتقاد، رغم شيوعه، يحتاج إلى تدقيق علمي لفهم طبيعة الظاهرة الجهادية بالمغرب: هل نحن أمام تنظيم حقيقي له بنية قيادية واضحة ورؤية موحدة؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون ظاهرة خلايا متناثرة متأثرة بأفكار خارجية، دون أن تنضج إلى مستوى التنظيم المحلي المستقل؟
أولا: تفكيك مفهوم “السلفية الجهادية” في السياق المغربي
من الأهمية بمكان التمييز بين “السلفية الجهادية” كخطاب وفكر، وبين “السلفية الجهادية” كتعبير تنظيمي له قيادة مركزية وأهداف واضحة. في السياق المغربي، يغيب هذا المعطى التنظيمي بشكل شبه كلي، إذ لم تشهد الساحة المغربية بروز تنظيم جهادي محلي مستقل يشبه ما عرفته دول أخرى مثل الجزائر (الجماعة الإسلامية المسلحة، الجماعة السلفية للدعوة والقتال)، أو مصر (الجماعة الإسلامية، تنظيم الجهاد)، أو اليمن (أنصار الشريعة). بل يمكن القول إن الظاهرة الجهادية في المغرب لم تتخذ شكل تنظيم متماسك ذي بنية صلبة وأهداف استراتيجية واضحة، وإنما ظلت أقرب إلى ظاهرة “الخلايا المتفرقة” التي تتبنى المرجعيات الفكرية ذاتها لكنها تفتقر إلى الإطار التنظيمي الموحد.
أ. غياب البنية التنظيمية في السلفية الجهادية بالمغرب
يمكن القول إن السلفية الجهادية في المغرب تعاني من غياب بنية تنظيمية متماسكة تشكل إطارًا هيكليًا واضحًا يجمع بين مختلف الأفراد والخلايا التي تتبنى هذا الفكر. فالتتبع الدقيق للوقائع المرتبطة بالسلفية الجهادية في المغرب، خاصة من خلال المحاكمات والملفات القضائية التي شملت العشرات من الأسماء، يظهر أن ما يتم تقديمه أحيانًا تحت مسميات “تنظيمات” جهادية، ليس في الحقيقة سوى مجموعات صغيرة أو خلايا معزولة، غالبًا ما تكون مرتبطة بعلاقات عائلية أو جهوية ضيقة، أو يجمع بينها حماس مشترك للفكر الجهادي دون وجود مشروع تنظيمي متكامل، سواء على المستوى الأيديولوجي أو الهيكلي أو العملياتي.
إن التسميات التي أطلقت على هذه الخلايا، مثل “خلية الصراط المستقيم”، أو “خلية أنصار المهدي”، أو “خلية التونسي”، لا تعكس وجود تنظيمات متماسكة تحمل مشروعًا جماعيًا واضحًا أو قيادة موحدة، بقدر ما هي توصيفات ظرفية يتم اعتمادها إما من قبل السلطات الأمنية والقضائية لتأطير الملفات الجنائية ضمن توصيف قانوني معين، أو تُطلق داخل أوساط الخلية نفسها لإضفاء طابع معنوي أو رمزي على تحركاتها، لكنها تظل في واقع الأمر تجمعات محدودة العدد، يفتقر أغلبها إلى الرؤية المشتركة والخطط بعيدة المدى.
ويؤكد هذا المعطى أيضًا أن الاعتقالات التي شملت عشرات الأفراد في قضايا السلفية الجهادية لم تكشف عن وجود هيكل تنظيمي موحد يشرف على هذه الخلايا، بل غالبًا ما تتعلق باعتقال أفراد متفرقين تجمعهم قناعات فكرية مشتركة أو تواصل محدود عبر وسائط التواصل الاجتماعي أو لقاءات عابرة، دون أن يكون هناك تدرج هرمي واضح، أو هياكل مسؤولة عن التخطيط والتمويل والتنفيذ بشكل مؤسسي. بل أكثر من ذلك، فإن غالبية الملفات القضائية تكشف أن الزعامات التي تُعطى لبعض الأسماء داخل هذه الخلايا هي أقرب إلى كونها “زعامات ظرفية” تُمنح لمجرد كون الشخص المعني أكثر قدرة على التأثير أو الإقناع داخل مجموعة محدودة، أو لكونه صاحب فكرة تأسيس الخلية في بدايتها.
كما أن ما يصطلح عليه بـ”مشروع الخلية” لا يعكس مشروعًا متكاملًا بقدر ما يعبر عن نية عابرة أو فكرة بدائية لم تصل في الغالب إلى مستوى التنفيذ الفعلي، وغالبًا ما تتوقف عند حدود النوايا والرغبات أو في مراحل التخطيط الأولي، قبل أن يتم تفكيكها من قبل الأجهزة الأمنية. وهذا ما يجعل وصف هذه التجمعات بـ”الخلايا” أكثر دقة من وصفها بـ”التنظيمات”، لأن التنظيم بالمعنى العلمي يفترض وجود هيكل إداري، ولوائح داخلية، وآليات للتواصل، ووسائل للتمويل، وهو ما يغيب بشكل واضح عن واقع السلفية الجهادية في المغرب.
بالتالي، يمكن القول إن الحديث عن تنظيم جهادي مغربي متكامل يحمل رؤية موحدة وقيادة جامعة هو أمر غير دقيق علميًا وواقعيًا، إذ أن الواقع يشير إلى وجود خلايا مشتتة، تحمل أفكارًا متقاربة لكنها تفتقر إلى الروابط التنظيمية المتينة التي تجعل منها كيانًا موحدًا أو تنظيمًا مركزيًا له مشروعه الواضح وأدبياته المحددة وأهدافه المرحلية والاستراتيجية.
ب. اللجوء التنظيمي إلى الخارج:
نظرًا لغياب تنظيم جهادي محلي متكامل، كان الخيار أمام الشباب المغربي المتأثر بالفكر الجهادي هو الانخراط في مشاريع أممية تقودها تنظيمات خارجية مثل القاعدة وداعش. فالمغرب لم يُنتج تنظيمًا جهاديًا مستقلًا كما هو الحال في اليمن أو الجزائر، بل ظل في موقع “المزود بالكوادر” لهذه التنظيمات العابرة للحدود.
أمثلة بارزة على هذا المسار:
- انخراط المغاربة في تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (AQMI)، حيث شكلوا نسبة مهمة من العناصر المنخرطة في العمل المسلح في منطقة الساحل.
- توجه أعداد كبيرة من المغاربة إلى سوريا والعراق للقتال في صفوف داعش وجبهة النصرة، وقدرت بعض التقارير عددهم بما بين 1500 و2000 مقاتل. أبرزهم:
- ابراهيم بنشقرون، الملقب بـ “ابي احمد المهاجر وبنشقرون هو معتقل سابق في جوانتناموا ، سافر إلى أفغانستان عندما كان عمره 22 سنة، والتحق
- بمعسكرالفاروق
ت. الارتباط بالفكر وليس بالبنية
إن السلفية الجهادية في المغرب لم تتأسس على بنية تنظيمية صارمة أو هياكل واضحة كما هو الحال في بعض التجارب الجهادية الأخرى (مثل القاعدة أو داعش)، بل نشأت بشكل أساسي كحركة أفكار وتأثرات، مما جعل العامل الفكري هو الرابط المشترك بين الخلايا والأفراد الذين انخرطوا في العمل الجهادي بالمغرب. هذا التأثر تَجَسَّد في تبني خطاب وتصورات مستمدة من أدبيات الجهادية العالمية، مع تكييفها أحيانًا مع الخصوصية المحلية.
ومن أبرز الشخصيات الفكرية التي أثرت في الجهادية المغربية، يمكن الإشارة إلى:
سيد قطب
: أشهر كتب سيد قطب التي تأثر بها التيار السلفي الجهادي:
1- معالم في الطريق
- يعد أخطر وأشهر كتبه في التأثير على الحركات الجهادية.
- تحدث فيه عن جاهلية المجتمع، ورفض الأنظمة القائمة، وضرورة إعادة بناء المجتمع الإسلامي من خلال طليعة مؤمنة.
- طرح فيه فكرة “الحاكمية” بمعناها المطلق، مما شكل الأساس النظري لفكرة تكفير الحكام والمجتمعات لدى الجهاديين.
2- في ظلال القرآن (خاصة الأجزاء المتأخرة بعد تجربته في السجن)
- رغم أنه تفسير، إلا أن قطب أدخل فيه رؤية فكرية حركية، خاصة في تفسيره لمفاهيم مثل: الجهاد، الحاكمية، والجاهلية.
- كان له تأثير كبير في تأصيل فكرة الصراع بين الإسلام والأنظمة الجاهلية، والتأكيد على ضرورة التغيير بالقوة.
3- هذا الدين
- ركز فيه على شمولية الإسلام ورفض العلمانية، ودعا فيه إلى تطبيق الشريعة كمنهج شامل للحياة، وهو ما لاقى صدى لدى التيارات الجهادية.
4- العدالة الاجتماعية في الإسلام
- رغم أنه كتاب مبكر نسبياً وأقرب إلى التوجه الإصلاحي، إلا أنه ركز على مفهوم العدالة والشريعة كمصدر وحيد لها، وهو ما استفادت منه الجماعات الجهادية في نقد الأنظمة.
خلاصة التأثير:
- التيار السلفي الجهادي انتقى من فكر سيد قطب ما يخدم مشروعه الثوري:
- التركيز على تكفير الأنظمة والمجتمعات.
- تبني فكرة الطليعة المؤمنة التي تقود التغيير.
- تقديم الجهاد كوسيلة للتغيير، لا كخيار دفاعي فقط.
- خاصة كتاب “معالم في الطريق”، الذي يعتبر بمثابة “المانيفستو الجهادي” في فكر الحركات الجهادية.
أبو محمد المقدسي: الفكر والتأثير في التيار السلفي الجهادي
أولا: المرتكزات الفكرية لفكر المقدسي
1 التوحيد الصافي ومفهوم الولاء والبراء
- يرى المقدسي أن التوحيد لا يتحقق إلا بالكفر بالطاغوت، وأن كل من يحكم بغير ما أنزل الله أو يتحاكم إلى القوانين الوضعية هو كافر.
- الولاء والبراء عنده من أصول الدين، وهو ولاء مطلق لأهل التوحيد وبراء مطلق من أهل الشرك، بما في ذلك الحكومات والأنظمة والدساتير.
2 تكفير الأنظمة والحكومات
- يرى أن جميع الأنظمة العربية والإسلامية المعاصرة طواغيت مرتدة، لأنها تحكم بغير ما أنزل الله، وتتحالف مع “الكفار”، مثل أمريكا والغرب.
- هذا الفكر كان له أثر بالغ في دفع الشباب إلى تبني العمل المسلح ضد الأنظمة الحاكمة.
3 رفض الديمقراطية والدساتير
- يعتبر الديمقراطية كفرًا بواحًا لأنها تجعل السيادة للشعب بدلًا من الله، وتحكم بغير شريعة الإسلام.
- دعا إلى عدم المشاركة في الانتخابات أو البرلمانات، واعتبر هذا من نواقض الإسلام.
4 الدعوة إلى الجهاد العالمي
- يدعو إلى الجهاد ضد الأنظمة الطاغوتية وضد من يسميهم “الكفار الأصليين” (كالولايات المتحدة وحلفائها).
- يُفرّق بين “الجهاد المحلي” (ضد الأنظمة) و”الجهاد العالمي”، لكنه يرى أن الأولوية لإزالة الطواغيت المحليين.
5التصفية والتربية
- يرى المقدسي أن الأمة تحتاج إلى مرحلة من التصفية العقدية والتربية الفكرية قبل الانطلاق في الجهاد، وهو منهج يُعرف بـ”التصفية والتربية”، وهو ما يجعله أحيانًا ينتقد بعض التيارات الجهادية التي تتعجل في العمل العسكري.
ثانيًا: أثر المقدسي على التيار السلفي الجهادي
تأثيره على الزرقاوي والقاعدة
- كان أبو مصعب الزرقاوي (قائد تنظيم القاعدة في العراق) من أبرز تلاميذه، وقد تأثر به في تبني تكفير الأنظمة، لكنه لاحقًا اختلف معه في مسألة تكفير عوام الشيعة والتوسع في استهداف المدنيين.
- المقدسي انتقد الزرقاوي أحيانًا، لكنه ظلّ مرجعًا فكريًا للحركات الجهادية.
التأصيل الشرعي للعمل المسلح
- وفّر المقدسي الأساس الشرعي لكثير من الجماعات الجهادية، مثل القاعدة، أنصار الشريعة، جبهة النصرة، وحتى بعض أفرع داعش في بداياتها.
- أفكاره حول التوحيد والحاكمية والجهاد ضد الأنظمة شكلت أيديولوجيا مشتركة للتيار الجهادي.
الاختلاف مع داعش
- رغم اشتراكه مع داعش في كثير من المفاهيم، إلا أن المقدسي انتقد غلو داعش في التكفير واستباحة دماء المسلمين.
- رفض إعلان الخلافة بالطريقة التي أعلنوها، وانتقد منهجهم في سفك الدماء العشوائي، لكنه لم يتراجع عن تكفير الأنظمة ورفض الديمقراطية.
حالة رمزية داخل التيار الجهادي
- يعتبر المقدسي رمزًا فكريًا للجهادية السلفية، يُرجع إليه كثير من الجهاديين لفهم قضايا الولاء والبراء، الحاكمية، وأحكام القتال.
ثالثًا: الخلاصة
يمكن تلخيص فكر المقدسي في ثلاث ركائز أساسية:
- تكفير الأنظمة ورفض الأنظمة والدساتير الوضعية.
- الدعوة إلى الجهاد ضد الطواغيت والغرب.
- أهمية التصفية العقدية قبل العمل الجهادي.
ويُعد تأثيره الفكري جوهريًا في تشكيل توجهات التيار السلفي الجهادي، لكنه لم يكن قائدًا ميدانيًا، بل كان مؤسسًا للخطاب الأيديولوجي الذي غذّى التنظيمات المختلفة.
- أبو قتادة الفلسطيني: صاحب حضور مؤثر في الأوساط الجهادية، لا سيما عبر كتاباته المتعلقة بجواز العمليات المسلحة ضد الأنظمة والحكومات، وشرعنة “العمل الجهادي” كخيار لمواجهة “الأنظمة المرتدة “اهم كتبه
- معالم الطائفة المنصورة
- الجهاد والاجتهاد
- جؤنة المطيبين
- الأربعون الجياد لأهل التوحيد والجهاد
أثر كتبه:
كتب أبو قتادة كان لها تأثير بالغ في:
- الشرعنة الفقهية للعنف الجهادي ضد الأنظمة الحاكمة.
- نقد الحركات الإسلامية المعتدلة، واتهامها بالتفريط في التوحيد.
- تحفيز المهاجرين للجهاد في ساحات القتال مثل الشيشان، العراق، سوريا.
- تشكيل وعي تنظيمي وفكري لجماعات مثل “القاعدة” و”الجماعة الإسلامية المقاتلة” في ليبيا و”السلفية الجهادية” في المغرب العربي.
-
- “.ثانيا . تأثير الخطاب الجهادي العالمي على المشهد المغربي
لقد كان للخطاب الجهادي العالمي أثر بالغ على تشكل البنية الفكرية للتيار الجهادي في المغرب، وإن كان هذا التأثير قد تجلى بشكل أكبر في المجال النظري والرمزي منه في الجانب التنظيمي والعملياتي. فقد وجد عدد من الشباب المغاربة في أدبيات الجهاد العالمي مادة خصبة للتأثر والاستلهام، مستمدين مرجعياتهم الفكرية من مدارس متعددة، بدءًا من كتابات سيد قطب، التي شكلت حجر الأساس لفكر “الحاكمية” و”جاهلية المجتمع”، إلى أطروحات الجماعة الإسلامية والجهاد المصرية التي بلورت مفهوم “الطليعة المؤمنة” وشرعنة الفعل الجهادي كوسيلة لتغيير الأنظمة.ويمكن اعتبار خزانة الجماعة الاسلامية المصرية بقيادة عمر عبد الرحمان وخزانة جماعة الجهاد المصري اهم رافد تاثر به الشيوخ والسلفيين الجهاديين المغاربة.
كما كان لأدبيات تنظيم القاعدة وداعش حضور ملحوظ في تغذية المخيال الجهادي لدى الشباب المغربي، من خلال تصوير الصراع كمعركة كونية بين الإسلام والكفر، وإضفاء بعد البطولة على مسارات الجهاد العالمي، خاصة من خلال سرديات المعاناة في السجون والتعذيب، والقصص الملحمية عن المعارك والانتصارات، مما ساهم في خلق نوع من “التماهي الوجداني” مع رموز الجهاد العالمي، دون أن يترجم ذلك، بالضرورة، إلى التزام تنظيمي مباشر داخل الساحة المغربية.
إن هذا التلقي الفكري، الذي ساهمت فيه بشكل كبير الوسائط الرقمية، ولا سيما المنتديات الجهادية والمواقع المتخصصة في نشر الإنتاجات السمعية والبصرية للجماعات الجهادية، أدى إلى بروز ظاهرة “الجهادي الافتراضي”، حيث انخرط العديد من الشباب في متابعة خطب قادة التنظيمات الجهادية كابن لادن، والظواهري، وأبو بكر البغدادي، دون أن يتجاوزوا مرحلة “التلقي السلبي” إلى “التنظيم الفعلي” أو الانخراط المباشر في شبكات محلية، باستثناء بعض الحالات المحدودة التي تأثرت بديناميكيات خارجية مثل الحرب في سوريا والعراق أو شبكات التجنيد العابرة للحدود.
إن محدودية الانخراط التنظيمي في السياق المغربي يمكن تفسيرها بمجموعة من العوامل، من بينها الطبيعة الأمنية الصارمة للدولة المغربية التي استطاعت تفكيك العديد من الخلايا الجهادية في مراحل مبكرة، وضعف البنية التنظيمية المحلية القادرة على استيعاب وتأطير هذا الكم من المتعاطفين، بالإضافة إلى محدودية السياق المحلي من حيث غياب بيئة حاضنة للعنف المسلح مقارنة ببؤر الصراع الإقليمي.
ومع ذلك، فإن الأثر الفكري للخطاب الجهادي العالمي ظل حاضراً بقوة في الخطاب والممارسات الرمزية للجماعات والأفراد الذين تبنوا هذا الفكر في المغرب، مما يعكس حالة من “الانتماء الرمزي” إلى المشروع الجهادي العالمي، حتى في غياب امتداد تنظيمي فعلي على الأرض.
رابعا: غياب القيادة الجهادية المغربية
عند تناول ظاهرة السلفية الجهادية في المغرب، يتضح غياب ما يمكن تسميته بـ”القيادة الجهادية المركزية” أو “المرجعية الجهادية الكبرى” ذات الطابع المحلي، على غرار ما هو ملاحظ في تجارب دولية أخرى، مثل التجربة التونسية والمصرية. ففي تونس، برزت شخصيات ذات حضور تنظيمي وفكري مؤثر، مثل سيف الله بن حسين (أبو عياض التونسي)، الذي أسس تنظيم أنصار الشريعة، وكذلك في مصر مع شخصيات كايمن الظواهري سيف العدل ورفاعي طه، ممن جمعوا بين التنظير والعمل الميداني في إطار جماعات جهادية منظمة ذات امتدادات إقليمية ودولية.
أما في الحالة المغربية، فإن الأسماء التي برزت، مثل محمد الفيزازي، وحسن الكتاني، وعمر الحدوشي، ورغم ما أثاروه من جدل فكري واجتماعي خلال فترة ما بعد أحداث 16 ماي 2003، إلا أنهم لم يتحولوا إلى قادة تنظيميين بالمعنى الصارم للكلمة. هؤلاء الشيوخ كانوا أقرب إلى شخصيات دعوية، متأثرة بالسياق السلفي المحلي، لا تحمل مشروعًا تنظيميًا متكاملًا، ولم يثبت أنهم أسسوا أو قادوا تنظيمات جهادية محلية لها هياكل واضحة وأهداف محددة. بل يمكن القول إنهم، في كثير من الأحيان، كانوا يستعينون بمرجعيات فكرية خارجية لتبرير مواقفهم أو لتشكيل آرائهم، مثل أبو محمد المقدسي أو أبو قتادة الفلسطيني، مما يعكس غياب مشروع فكري وتنظيمي مغربي مستقل في الساحة الجهادية.
هذا الغياب للقيادة الجهادية المركزية في المغرب يمكن تفسيره بمجموعة من العوامل، من بينها:
- الطابع التبعي للفكر الجهادي المغربي، الذي ظل مرتبطًا إلى حد كبير بمؤلفات وأشرطة وفتاوى مشايخ المشرق، دون القدرة على إنتاج تنظير محلي متجذر في السياق المغربي.
- الضغوط الأمنية المكثفة التي مارستها الدولة المغربية، سواء عبر الاعتقالات الاستباقية أو المراقبة اللصيقة، مما أدى إلى تفكيك البنى الجهادية الهشة قبل أن تتحول إلى تنظيمات حقيقية.
- الطابع الفردي والمعزول لمن تبنوا الأفكار الجهادية في المغرب، حيث غالبًا ما كان انخراطهم في العمل الجهادي يتم عبر شبكات تجنيد دولية أو من خلال الانضمام إلى ساحات صراع خارجية مثل أفغانستان أو العراق أو سوريا، دون أن يكون هناك تنظيم محلي متماسك يؤطر هذه المجموعات أو يوحد جهودها.
- غياب الخبرة الميدانية مقارنة بنظرائهم في مصر أو تونس أو الجزائر، الذين خاضوا تجارب مسلحة ممتدة في بلدانهم.
ومن اللافت أن حتى داخل السجون، لم تتحول شخصيات مثل الفيزازي أو الكتاني إلى “رموز جهادية” تمتلك سلطة توجيهية صارمة على المعتقلين الجهاديين، على غرار ما كان عليه الوضع مع أبو محمد المقدسي في الأردن أو عبد الكريم بلحاج في ليبيا، حيث لعب هؤلاء دور المرجع الفكري والقيادي للسجناء والمعتقلين. بل إن بعض هؤلاء الشيوخ في المغرب، مثل الفيزازي، أظهر لاحقًا تحولًا ملحوظًا في المواقف، وصل إلى حد التخلي عن الأفكار الجهادية والانتقال إلى مربع الإصلاح والاعتدال، ما عمق الفجوة بين السلفية الجهادية في المغرب وبين وجود قيادة مركزية توحد صفوفها.
في المجمل، يمكن القول إن الساحة الجهادية المغربية ظلت مشتتة، بلا قيادة موحدة ولا مشروع تنظيمي متماسك، وهو ما ساهم في بقاء الظاهرة الجهادية في المغرب أقرب إلى خلايا معزولة أو حالات فردية، أكثر منها ظاهرة تنظيمية لها امتداد مؤسسي واضح، على غرار ما هو قائم في تجارب أخرى بالمنطقة.
خامسا: سهولة تفكيك هذه الخلايا من طرف الدولة
إن سهولة تفكيك هذه الخلايا السلفية الجهادية في المغرب لم تكن وليدة الصدفة، بل كانت نتيجة طبيعية لعدة عوامل مركبة. فمن جهة، كانت الدولة المغربية تدرك جيدًا أن السلفية الجهادية المغربية لم تكن نابعة من سياق محلي خالص، بل كانت حالة مستوردة، تأثرت بشكل كبير بالموجة العامة التي شكلها تنظيم القاعدة في بداية الألفية الثالثة. وقد كان أغلب أفراد هذه الخلايا يتبنون أدبيات القاعدة، من حيث النظرية الجهادية، وتصنيفات “العدو القريب” و”العدو البعيد”، وأدبيات “الطائفة الممتنعة”، و”حكم الردة”، وغيرها من المفاهيم التي رسختها خطابات القاعدة.
لكن هذه الحالة الفكرية لم تكن مستقرة، إذ سرعان ما طرأت عليها تحولات عميقة مع ظهور تنظيم داعش، الذي أعاد ترتيب الأولويات والولاءات داخل السجون المغربية وخارجها. فقد انقسمت الصفوف بين من ظل وفيًا لتنظيم القاعدة، ومن انبهر بمشروع “الدولة الإسلامية”، مما أدى إلى تشتت الولاءات وتفكك جبهة السلفية الجهادية تنظيميًا وفكريًا. هذا الانقسام خلق حالة من الفوضى داخل السجون، حيث لم يستطع رموز ومشايخ التيار السلفي الجهادي في المغرب أن يؤطروا هذا المشهد المتشظي، بل إن كثيرًا منهم فقدوا القدرة على التحكم في قواعدهم، وفشلوا في تقديم رؤية موحدة أو خطاب جامع يضبط تباين التوجهات.
كما أن غياب سلطة مركزية حقيقية، كما هو الحال في بعض التجارب السلفية الجهادية في العالم العربي، جعل هذه الخلايا في المغرب أشبه بتجمعات معزولة، بلا قيادة فكرية أو تنظيمية متماسكة. لم يكن هناك تنظيم هرمي أو هيكل تنظيمي صارم يمكن أن يشكل تهديدًا أمنيًا حقيقيًا للدولة، بل مجرد خلايا صغيرة، ذات قدرات محدودة، وأغلبها كان يتحرك بدوافع فردية أو انفعالية أكثر من كونه جزءًا من مشروع جهادي منظم داخل المغرب.
وهنا تكمن نقطة القوة الكبرى للدولة المغربية: فقد استطاعت من خلال الأجهزة الأمنية والاستخباراتية أن ترصد هذه التوجهات الهشة، وأن تحصي نقاط الضعف في بنية السلفية الجهادية المغربية، سواء من حيث غياب التمويل والدعم اللوجستي، أو من حيث ضعف التأطير الفكري والتنظيمي. وقد ساعد على ذلك أن أغلب المنتمين لهذه الخلايا لم يكن لديهم مشروع عمل عسكري داخل المغرب؛ إذ كانت غايتهم في الغالب تنحصر في الالتحاق بمناطق الصراع في الخارج (العراق، سوريا، مالي… إلخ)، أو الاقتصار على تبني خطاب جهادي عام دون تخطيط فعلي لعمليات داخلية. لذلك، كان من السهل على الدولة احتواؤهم وتفكيك خلاياهم، وغالبًا دون مقاومة أو تعقيدات أمنية كبيرة.
وحتى بعد اعتقالهم، لم يشكل هؤلاء تهديدًا جديًا داخل السجون، إذ إن حياتهم اليومية كانت عادية، ولم يستطيعوا خلق بيئة صدامية أو حالة تمرد داخل المؤسسات السجنية. كما أن رموزهم الدعوية والجهادية لم يتمكنوا من تأطير المعتقلين الجدد أو بناء منظومة فكرية صلبة تعيد إنتاج الخطاب الجهادي داخل السجون، مما زاد في تفتيت هذه الحالة، وأفرغها من مضمونها الثوري.
إن هذه الصورة تعكس بوضوح أن السلفية الجهادية في المغرب لم تستطع أبدًا أن تتحول إلى تنظيم صلب يملك مقومات البقاء أو القدرة على فرض واقع ميداني كما حدث في بعض التجارب العربية، بل ظلت حالة مشتتة، يسهل تفكيكها وضبطها، وهو ما نجحت فيه الدولة المغربية بفعالية، من خلال مقاربة أمنية واستباقية، وأيضًا عبر التحكم في المجال الدعوي والفكري داخل السجون وخارجها.
يمكن القول إن الحديث عن تنظيم سلفي جهادي مغربي هو أقرب إلى الحديث عن “شهادة ميلاد مزورة”. فالسلفية الجهادية في المغرب لم تتطور إلى تنظيم، بل بقيت عبارة عن خلايا متناثرة ومجموعات متأثرة بأفكار عالمية. غياب القيادة المحلية، واللجوء إلى أفكار ومشاريع خارجية، وضعف البنية التنظيمية، كلها عوامل جعلت من السلفية الجهادية في المغرب ظاهرة هامشية يمكن تفكيكها بسهولة، دون أن تتحول إلى كيان متماسك كما هو الحال في بعض الدول الأخرى.
اترك تعليقاً